18 ديسمبر، 2024 7:49 م

هل ستصبح سدود تركيا المائية أسلحة دمار شامل ضد العراق؟

هل ستصبح سدود تركيا المائية أسلحة دمار شامل ضد العراق؟

على الرغم من أنّ المياه تشكّل مع الهواء روح الحياة للكائنات الحيّة على الكرة الأرضية، إلاّ أنها أيضاً تعتبر سيف ذو حدّين في حالة شحتها أو كثرتها إذا لم يتم السيطرة عليها، لذا دأبت الدول الى إيجاد الوسائل الفنية للسيطرة على كميات المياه السطحية المتواجدة على أراضيها خاصة بواسطة السدود.
في سنة 1969م كنتُ طالباً في الصف الثاني المتوسط، وكان مدرّس مادة الجغرافية شاب ذكي من محافظة السليمانية أسمه “هيوا عزالدين” تم تعيينه في العاصمة بغداد حال تخرجه لتفوقه على أقرانه في كليته، وكان طيب الذكر إستاذي العزيز ذو ثقافة عامة واسعة وحريصاً على تخصيص ثلث راتبه شهرياً أي ما بين (20-30) ديناراً لشراء الكتب والمجلات العلمية التي تعنى بتخصصه بشكلٍ خاص حسب ما ذكره لنا كطلاب، وغالباً ما كان يخرج عن المنهاج الدراسي المقرر أو بالأحرى يقوم بدعم ما موجود في المنهاج المقرر بمعلومات إضافية واسعة عن جغرافية العالم وعلى الأخص الدول الإقليمية المتاخمة للعراق، وكان يركز دائماً على موضوع السدود المقترح إنشائها في تركيا ومدى تأثيرها على كميات المياه القادمة الى العراق، وحيثُ بدأت تركيا منذ سنة 1954م بالتخطيط لبناء السدود داخل أراضيها بإستراتيجية متعددة الأوجه منها الإقتصادية والزراعية والصناعية وحتى السياسية!!!.
وكنّا كطلبة لا تتجاوز أعمارنا الرابعة عشر من العمر قد نظرنا الى قلق أستاذنا الجليل بذهول حين ذكر وبألم شديد سعي الجانب التركي لتنفيذ بناء هذه السدود مع تجاهل واضح من الحكومة العراقية!!، مبيناً لنا خطورة هذا التوجه التركي على حياة المواطن العراقي العادي، وما زال وجهه ماثلاً أمامي بإمتعاضه من إهمال وإستخفاف الجانب العراقي وعدم مواكبته لما عزمت تركيا على تنفيذه ومجاراتها بوضع الخطط اللازمة لبناء سدود مماثلة داخل الأراضي العراقية لدرء الخطر عن المدن العراقية وسكانها في حالة ما لا تحمد عقباه وكأنّ الكارثة ستحصل في اليوم التالي!!!.
لقد كان هنالك فرص متاحة وميسرة للعراق لبناء سدوده، وحيثُ كانت العائدات المالية للعراق على مدار السنوات الخمسين الماضية والى وقتٍ قصيرٍ أفضل بكثير من تركيا ومن السهولة عليه تنفيذ برنامجه الإروائي والمائي ببناء سدود ضخمة تعود عليه بتأمين إحتياجاته المائية وتوليد الطاقة الكهربائية التي هو بأمس الحاجة اليها!!!، تساعده في ذلك معاهداته الثنائية الإستراتيجية التجارية والعمرانية مع الكثير من الدول التي لها باع طويل في بناء السدود ومنها الإتحاد السوفيتي السابق، خاصة في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، وحيثُ لم يكن العراق ليخسر أي عملة صعبة بالسيولة النقدية لبناء سدوده فيما لو طلب المساعدة في بنائها من تلك الدول!!، وإنما يدخل بندها تحت بنود معاهدات التبادل التجاري أو التعاون المشترك!!.
ويحضرني في هذا المجال سعي الحكومة العراقية في أواسط السبعينات من القرن المنصرم وبالتحديد سنة 1975م للحصول على المفاعلات النووية من الإتحاد السوفيتي الذي رفض بناء مفاعل كبير للعراق ما لم يكن مراقباً من قبل الوكالة الدولية للطاقة (كان الإتحاد السوفيتي السابق قد وقع مذكرة تفاهم سنة 1959م مع الحكومة العراقية لبناء مفاعل نووي صغير للعراق غير قادر على إنتاج القنبلة النووية، وبالفعل تم بناء المفاعل سنة 1968م)!!، ثمّ وافقت فرنسا على بناء المفاعل بعد رفض الإتحاد السوفيتي لطلب العراق الغير مشروط وتحت ضغط الأزمة المالية التي كانت تمر بها ومغريات المبلغ الكبير لبنائه في منطقة التويثة قرب بغداد، إذ بلغت تكلفته ما بين (3 ـ 5) مليار دولار أمريكي!!، فتمّ توقيع العقد خلال زيارة النائب الأول لرئيس مجلس قيادة الثورة العراقي حينذاك صدام حسين لفرنسا، وكان تبرير العراق لحصوله على المفاعل هو لتوليد الطاقة بشكلٍ أساسي إضافة الى الإستعمالات الأخرى!!، وحيثُ أصبح فيما بعد الحجة الرئيسية التي إعتمدت عليها الولايات المتحدة وحلفائها لتدمير العراق ووصوله الى ما هو عليه الآن مع خسارة ثمنه الذي أصبح أنقاضاً!!!.
ولو صُرِفَ ذلك المبلغ الكبير جداً في وقتها على بناء السدود، وحيثُ لم تكن تكلفة أكبر السدود سعةً تساوي عُشر (أي واحد من العشرة) من تكلفة بناء المفاعل النووي لحصلنا على عدد من السدود يتراوح عددها ما بين (6 ـ 10) مختلفة الأحجام تستطيع تزويدنا بالطاقة الكهربائية اللازمة لإنارة العراق من أقصاه الى أقصاه وتشغيل مصانعه مهما بلغ حجمها وإستهلاكها للطاقة وأصبحنا بلد مصدّر للطاقة الكهربائية لبلدان الجوار، إضافة الى توفير خزين مائي هائل إستراتيجي يكفي العراق لعشرات السنين حتى لو إنخفضت مناسيب مياه أنهاره الى أدنى مستوياتها، وأيضاً يؤدي بنائها لزيادة الثروات السمكية والمائية بشكلٍ عامٍ والحيوانية البرية خاصة الطيور المهاجرة الباحثة عن البحيرات المائية خلال هجرتها، علاوة على تأمين وزيادة الإنتاج الزراعي، وإعتبار تلك السدود مناطق جذب سياحية تدر دخلاً إضافياً للعراق فيما لو أنشأت حولها المدن السياحية، ولسحبنا أيضاً البساط من تحت أقدام الجانب التركي في تهديده لنا بين فترة وأخرى بقطع المياه عنّا!!!، ولكان العراق الآن هو الذي يتحكم بأمر وارداته المائية وخزينها وليس العكس!!!.
لقد سمعنا مراراً من أعلى المستويات للمسؤولين الأتراك من إنهم عازمون على مقايضة نفط العراق بكميات المياه التي سيسمحون بتوريدها له، وحيثُ أنّ هذه المقايضة المجحفة ستكون بمثابة قرصنة مكشوفة وسرقة بمحض إرادتنا نتيجة إهمال الحكومات العراقية المتعاقبة في تأمين الوسائل المطلوبة لتخزين المياه التي من المفروض أن تكون مجاناً من منابعها لجميع الدول التي تمر فيها مجاريها وأنهارها حسب كل الإتفاقيات الدولية ومنها إتفاقية سنة 1947م التي تنظم الحصص المائية للدول المستفيدة من مرور الجداول والأنهار المائية في أراضيها.
فليس من العدل والإنصاف أن يكون ضرر هذه المياه المتدفقة من الأراضي التركية علينا كبيراً عند فيضانها بأغراقها للأراضي الزراعية ونفوق المواشي وبقية الحيوانات التي يعتمد على منتجاتها الفلاح العراقي البسيط، علاوة على تدميرها لكل ما يقف بطريقها من مبانٍ وبنى تحتية إضافة للخسائر البشرية، لكن عندما يحين الوقت للإستفادة منها يتم حجبها عن العراق ومقايضته عليها!!!، وكم من حربٍ إندلعت بين الدول من جرّاء تخاصمها على كميات المياه المشتركة فيما بينها!!!.
ولنعود الى موضوع مقالتنا لبيان خطورة هذه السدود وتهديدها للعراق أرضاً وشعباً فيما لو أستخدمت كسلاح من مورد طبيعي مهم تستطيع مياهه إكتساح بلدان بكاملها فيما لو حررت فجأة عن عمد أو دونه لا قدّر الله!!!، خاصة وإن سياسة تركيا مضطربة ولديها مشاكل داخلية وخارجية كبيرة وتحديات إقليمية ودولية لا يستهان بها قد تقودها الى حروب مدمرة!!، إضافة الى وقوعها في منطقة تأثير الزلازل والكوارث الطبيعية المدمرة والتي تعتبر الأخطر على سلامة السدود!!، كما أنها واقعة تحت تأثير المناطق ذات الأمطار الموسمية الغزيرة، وقد كانت تركيا قاب قوسين أو أدنى قبل سنوات وتحديداً سنة 2011م عازمة على تحرير مياه بعض سدودها لغزارة الأمطار المتساقطة على مناطقها الجنوبية والجنوبية الشرقية لوصول مناسيب المياه فيها الى حدودها الحرجة لطاقاتها الإستيعابية كما إعترفت بذلك الجهات التركية ووسائل إعلامها، وحيثُ لم يتبقى إلا (35) سم لإرتفاع منسوب المياه في سدودها لتقوم بفتح بوابات الطوارئ لتصريف المياه قبل حدوث الأسوأ!!!، وهذا يعني إغراق مساحات واسعة داخل الإراضي العراقية بمياه الفيضانات!!!، فكل هذه المخاوف والإحتمالات قد تؤدي بما لا تقبل الشك الى قتل الملايين من البشر داخل الدول الواقعة في منطقة تأثيرها بمدة لا تتجاوز الساعتين أو الثلاث ساعات لا أكثر فيما لو أخفق أي سد من السدود التركية في السيطرة على مياهه!!!، خاصة وإنّ سد الموصل في العراق القريب من الحدود غير مؤهل بطاقته القصوى بسبب المشاكل الفنية وخطأ إختيار موقعه بسبب تربته الرخوة القابلة للذوبان!!، وحيثُ كنّا سنعوّل عليه درء الخطر أو التقليل منه في إستيعاب أي تحرير مفاجئ لمياه السدود التركية، لا بل يضاف هو كخطر قائم الى قائمة مخاطر السدود التركية، وإذ يعتبره بعض الخبراء أخطر السدود قاطبة في العالم!!.
فتركيا لديها الآن الخطط لأمتلاك (22) سد!!!!، تم بناء العديد منها مثل سدود “أتاتورك” و”كيبان” و”اليسو” الذي سينتهي العمل منه قريباً وبطاقتة الإستيعابية البالغة (10.4) بليون متر مكعب وسيحتاج الى مدة تتراوح ما بين السنة الى الثلاث سنوات لملأه بالماء وتتوقف المدة على كميات الأمطار المتساقطة لتلك السنوات، وحيثُ سيؤثر هذا الأمر بشكلٍ كبيرٍ على حصة العراق المائية المقررة دولياً، وسد “جزرة” المقترح إنشائه الذي لا يبعد عن الحدود التركية ـ العراقية سوى (38) كم وهذا السد بموقعه القريب جداً من الحدود يبين النيّات المبيتة للجانب التركي للإضرار بالعراق أرضاً وشعباً لمحدودية فائدته بالنسبة لتركيا، لكنه سيكون القشة التي ستقصم ظهر البعير للحصص المائية العراقية وتهديده المباشر للعراق في حالة إخفاقه لأي سبب كان للإحتفاظ بخزين مياهه، فهذا السد سيستهلك 40% من مياه دجلة ويقضي على آخر أمل لحصول العراق على حصته المائية السنوية!!، وهنالك سدود كثيرة قائمة ومقترحة أخرى على الجانب التركي لا مجال لذكرها الآن!!.
وإذا ما أعلنت تركيا الحرب المائية على العراق فبإستطاعتها حجب المياه بشكل كامل لتكون حصة العراق في أي سنة من السنين صفر (أي لا شيء) لتحويل حصته لملأ السدود المذكورة!!!، فليتخيل القاريء الكريم ماذا سيحصل لشعب العراق وزراعته ومياه شربه فيما لو حصل هذا الأمر، خاصة وإنّ العراق يتجه الى التصحّر بسرعة مخيفة ؟؟!!، وعلينا أن لا نستبعد حدوث هذا الأمر في ظل ظروف عالمية سياسية قلقة، إذ باتت دول العالم بشكلٍ عام لا تحترم الإتفاقيات الدولية وتحديداً في المناطق الساخنة ومنها منطقتنا الشرق أوسطية مع ضعف واضح لدور الأمم المتحدة في دفع الدول لتنفيذ قراراتها!!، لذا سارع الجانب العراقي للتفاوض والتفاهم مع الحكومة التركية ومناقشة خطتها لملأ سد “اليسو”، لكن ستبقى جميع الإحتمالات قائمة في التنصل من الوعود!!.
ربما هنالك من يقول بأنّ هنالك ضوابط وقوانين دولية تجبر الجانب التركي على الإلتزام بها، ومنها إتفاقية عام 1947م التي تنص مادتها الخامسة “على قيام دول المنبع بإطلاع الدول المتضررة على النيّة في إنشاء السدود وإعطاء كامل التفاصيل قبل الشروع بتنفيذها ليتسنى للجانب المتضرر إتخاذ الإحتياطات اللازمة وإيجاد السُبل والبدائل أو التفاهم على تقسيم المياه حسب الحصص المقررة دولياً”، لكنني أرى بأننا نعيش في زمن الغاب، وسأكون في هذه المرّة متشائماً من جرّاء مشاهدتنا لمعظم الدول حتى الضعيفة منها تضرب عرض الحائط القوانين الدولية بحروبها المدمرة وإنتهاكاتها ضد شعوبها وضد الدول الأخرى، وحيثُ أصبحت الأمم المتحدة “حارة كلمن إيدو الو”!!!.
فبعدما كان يُضْرَبُ المثل بالعراق في وفرة مياهه وتسميته بلاد ما بين النهرين أو بلاد وادي الرافدين، بات الآن يفكر جدياً بكيفية دوام حصوله على المياه والسيطرة الفنية عليها لدرء مخاطرها المدمرة لشحتها أو إكتساحها لأراضيه الخارجة عن السيطرة بسبب إهمال وغباء حكوماته المتعاقبة التي شغلت الشعب بالحروب وأهدرت أمواله.
وتقع الآن مسؤولية حماية المواطنين من المخاطر التي ذكرناها على عاتق الحكومة الحالية والحكومات التالية المتمثلة بوزارة الموارد المائية وعليها واجب إيجاد السبل والموارد المالية اللازمة لبناء السدود لتخزين مياه الفيضانات الموسمية التي تهدر دون الإستفادة منها وكما يحدث الآن (حتى لو إستطاعت عقد الإتفاقيات للدفع بالآجل أو بالمقايضة النفطية)، لا بل عادت هذه الفيضانات لتهدد العاصمة بغداد ومعظم المدن العراقية وحيثُ أرجعتنا الى مآسي الإحتلال العثماني بداية القرن العشرين أو ما قبله حين كان العراق ومواطنيه على موعد يكاد يكون سنوياً مع الكوارث الفيضانية وتفشي الأمراض الفتاكة التي تصاحبها، وعلى الوزارة المتخصصة أيضاً واجب تفعيل كافة الإتفاقيات المائية الدولية والثنائية ومنها إتفاقية سنة 1947م، لا بل على الحكومة العراقية نقل مخاوفها من تهديد السدود التركية للعراق وشعبه الى الأمم المتحدة لإصدار قوانين جديدة أكثر فاعلية لتنظيم العلاقة المائية بين العراق وتركيا، كأن يقترح العراق مثلاً إستحداث قانون أممي جديد يجبر الجانب المستفيد (تركيا) على عدم تجاوز 60% من الطاقة الإستيعابية لكل سد وإبقاء ربعه أو أكثر وعلى مدار السنة مهيأ لإستيعاب مياه الأمطار الموسمية أو أي طارئ آخر لدرء الخطر عن الجانب المتضرر (العراق)، ووضع السدود التركية تحت المراقبة الدورية لتنفيذ التزاماتها، كما يتم وضع شروط جزائية على الجانب المستفيد (تركيا) لأي ضرر فعلي على الجانب المتضرر (العراق)، وحتى لو رفضت تركيا بعد إقرار القرارات تنفيذها إلاّ أنها ستكون بمثابة دليل على مسؤوليتها عن أي ضرر يصيب العراق مستقبلاً، خاصة وإنّ السياسة الدولية التركية الآن في الحضيض، وعكسها هنالك تعاطف من المجتمع الدولي مع العراق لتحمله الوِزْر الأكبر في محاربته للإرهاب الدولي، فهل هنالك من سيصغي الى مخاوفنا هذه ويعمل على عدم إضاعة الفرصة الذهبية المتوفرة الآن لتصحيح أخطاء الحكومات المتعاقبة في هذا المجال ؟؟؟!!!، خاصة وإن رئيس الوزراء الحالي الدكتور حيدر العبادي أخذ على عاتقه متابعة ملف المياه بترأسه للجنة التي شكلها مجلس الوزراء قبل عدّة أيام لمتابعة الثروة المائية في البلد.