تتوهم الحكومة العراقية التي يترأسها مصطفى الكاظمي، انها قادرة على انهاء حركة الإحتجاجات بعد ان سارعت، بعد مضي يوم واحد من الأحتفاء بذكرى مرورعام على انطلاق انتفاضة تشرين الشبابية واستذكار شهداء الإنتفاضة ورموزها، الى رفع وجرف خيم المتظاهرين السلميين من ساحات الاعتصام.
ان حركة الإحتجاجات لن تتوقف بتفكيك خيم المتظاهرين، ما دامت الحكومة لم تحترم وعودها التي اطلقتها سابقا، باجراء تغييرات جذرية في بنية العملية السياسية المشوهة وتحقيق مطاليب المتظاهرين المشروعة، في الكشف عن قتلة الناشطين وتقديمهم للمحاكمة. ولم تكافح الفساد المستشري ولا قضت على السلاح المنفلت او حصرته بيد الدولة ولا بتحسين الواقع الخدمي والأقتصادي والمعيشي لعامة الشعب وتوفير فرص العمل للشبيبة والخريجين من حملة الشهادات.
واذا استطاعت القوات الامنية من اخلاء ساحة التحرير من المتظاهرين، إلا ان الحياة لن تعود الى طبيعتها، كما تريد الحكومة، لان الإحتجاج فعل تأسس على مطاليب شعبية مشروعة، وهو انعكاس لما يعانيه الناس من ضائقة معيشية وخدمية وصحية. وستتحول ساحات المدن وميادينها الى ساحات للإنتفاضة وستحتضن الجماهير المنادية بحقوق الشعب المهدورة والمطالبة بالكشف عن هويات القتلة ومحاكمتهم، هؤلاء الذين كانوا سببا في سفك دماء أزيد من 700 شهيد والآف من الجرحى والمعاقين والمختطفين.
ورغم استلام مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة منذ 7 آيار (مايو) 2020 إلا ان المليشيات والمجاميع السائية لا تزال تتحكم بالسلاح المنفلت وبمقدرات البلاد وبمصائر الناس دون مسوغ قانوني او رادع امني أو قضائي. وما تزال حيتان الفساد تسرح وتمرح طليقة حرة، تنظّم نفسها اكثر من اي وقت مضى، وتستعد لخوض الانتخابات القادمة، مستخدمة مليشياتها واموال السحت الحرام، التي سرقتها من قوت الشعب لترغيب وتهديد الناس للتصويت لها والعودة الى المربع الأول في حكم العراق.
ان حالة الغضب والأستياء لدى الشعب العراقي ليست وليدة الصدفة، بل هي حالة تراكمية، عمرها 17 عاما من عدم الرضا الشعبي وردة فعل شديدة لسلوك الطبقة السياسية التي سرقت واغتنت من خيرات العراق واعتمدت تقسيم الكعكة والمحاصصة الطائفية على حساب شعب يحتضر ويزداد فقراً وعوزاً وحرماناً.
وعن موقف العراقيين من حركة الأحتجاجات، شدّني تقرير استقصائي، نفذه فريق “مشروع مبادرة العراق” في المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) بلندن، يترأسه الخبير الأقدم الدكتور ريناد منصور، عبر اجراء استطلاع اكاديمي مستقل وبلغة الأرقام ومسح ميداني ومقابلات وجهاً لوجه مع 1217 شخص من مختلف الأجناس والأثنيات والفئات العمرية في مدن وبلدات ومناطق عديدة من العراق.
جاءت نتائج الاستطلاع لتؤكد على ان نسبة 83% من الآراء، مؤيدة لحركة الإنتفاضة، في حين ان نسبة 10% تعتبرها حركة تخريبية، وهؤلاء لعمري من المطّبلين للنخب الفاسدة وهمهم الأول هو تشويه سمعة المتظاهرين.
حتى في إقليم كردستان، شبه المستقل، الذي لا يعير مواطنوه الكثيرمن الاهتمام لما يجري في بقية انحاء البلاد، جاءت نسبة 57% مؤيدة للانتفاضة.
أما في المحافظات التي تم تحريرها من داعش، لكنها لا تزال غير مستقرة حيث تنشط فيها جماعات مسلحة، ولم يتظاهر سكانها خوفًا من تداعيات خطيرة، لا يزال الدعم الشعبي للتظاهرات مرتفعًا. في الموصل على سبيل المثال ، جاءت نسبة 91٪ من الآراء مؤيدة للتظاهرات الشعبية، في حين اعتبرت نسبة 5% ان المتظاهرين مفسدون.
أما على الصعيد الوطني، وفي سؤال يتعلق بالأولويات الثلاث التي يتوجب على الحكومة تحقيقها، خلص الاستطلاع الى ان التصدي للفساد هو المطلب الأكثر شعبية، يليه توفير فرص العمل وتحسين الخدمات في الدرجة الثالثة، واجمعت على هذه الأولويات بقية المحافظات.
في ذات الوقت، استثنيت كركوك من هذا الإجماع، وهي المحافظة الوحيدة التي اعطت الأولوية لتحسين الخدمات ومن ثم مكافحة الفساد وتوفير فرص العمل. ولم يأت هذا مفاجئا، نظرا لما تعانيه كركوك من وضع إنساني صعب، لا سيما في المناطق الجنوبية الفقيرة.
وعلى رغم ان رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي كان قد راهن على حظوته السياسية بإجراء انتخابات مبكرة في 6 يونيو 2021 وكتب في احدى تغريداته على التويتر “ان الأنتخابات الحرة النزيهة هي موعد التغيير القادم الذي بدأه الشباب بصدروهم العارية قبل عام” إلا ان الأنتخابات المبكرة جاءت في أسفل قائمة الأولويات في استطلاعات الرأي.
ان انتفاضة تشرين التي انطلقت في تشرين 2019 تمثل ردة فعل حاسمة لسنوات من الحرمان وسوء الادارة وخيبة الأمل من الطبقة السياسية، التي كان وما يزال مصطفى الكاظمي جزءا منها. ولن يؤدي قمع المتظاهرين ورفع خيمهم الى تفكيك انتفاضتهم واسكات صوتهم، الذي اصبح مدوياً في عموم العراق. وان استمرار تدفق الشباب الى ساحات التظاهر في مدن العراق، هو تأكيد على اصرارهم في مواصلة الحراك الجماهيري وإبقاء شعلة انتفاضة تشرين متقدة الى ان تتحقق مطاليبهم المشروعة والعادلة.