18 ديسمبر، 2024 6:19 م

هل خيّب العلم آمالنا؟!

هل خيّب العلم آمالنا؟!

قد يبدو السؤال ساذجاً لأول وهلة، لكن للسؤال ما يبرره، حين يستقرىء الإنسان حصيلة سنة ونصف من جائحة كرونه (كوفيد-19)، فكلما تفاءلنا قليلا جاء جيل جديد من طفرات الجائحة ما هو أشد بأسا وأكثر فتكاً! وراحت مختبرات البحوث تتسابق في تخليق اللقاحات – وهي تجارة رابحة- ما يجعل المرء متفائلا حتى يظهر لنا جيل جديد لم نحر فيه جوابا شافياً إن كانت اللقاحات فعالة له أو يجب تطوير لقاحاً نوعية لكل جيل؟!
ويبقى الإنسان في حيرة فلا يمر يوم إلا وفقْدُ الأعزاء يزداد، وأقسى ما في الجائحة ما تبدو عليه وكأنها تصطاد أصحاب المواهب اصطياداً من فنانين وشعراء وأدباء وما الى ذلك مما نصطلح عليه بالدائرة الذكية! وكذلك يكون المسحوقون من الفقراء أكثر من غيرهم وقوداً لها، وكأني بها تعاف المتسلطين والفاسدين والقتلة والمجرمين وما الى ذلك من أصحاب الضمائر الميتة، فأي حكمة نرتجيها في هذا الزمن الأعمى؟!
ومما يزيد الوضع قتامة أكثر هو أن يُلقى اللوم على العلم والتكنولوجيا في غضب الطبيعة وما تسببه من كوارث مأساوية في الخسائر والأرواح؛ وأين؟ في مهد التطور العلمي والحضاري أوربا، حيث أجتاحت السيول المدمرة القارة العجوز وتسببت في فيضانات كانت الخسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، ما يجعلنا نطرح السؤال: أين المعدات والاحتياطيات التي يفترض أن تكون محتاطة ومهيأة لمثل هذه الطوارىْ من خزانات اصطناعية لامتصاص وتخزين فائض المياه؟ هل تساوت أوربا مع بلد السيول الفقير بنغلادش؟!
أما النيران فما زالت تلتهم مساحات واسعة من الغابات في عدة دول على كوكبنا، وتبدو معدات مكافحة الحرائق غير مجهزة بما يجعلها ذلت كفاية تقنية لازمة ويبدو أن الكادر الخبير في مكافحة الحرائق غير كاف عدة وعددا!
في مثل هذه الملمات والكوارث تزدهر الخرافات والغيبيات التي يبثها الخطباء الدينيون من قبيل إن العباد قد ابتعدوا عن الخالق وعن الدين وما يجري من جوائح وكوارث هو عقاب من الله يسلطه على عباده الضالين!! ولا يسلطه على حكّامة الفاسدين العتاة!!
ومرد هذا التبرير الغيبي تاريخيا يرجع الى نظرية الكاهن والمؤرخ الروماني أوروسيوس (375 – 420م)، وتتكون هذه النظرية من ثلاث محاور وهي: فكرة القِصاص الإلهي؛ وفكرة الحق الإلهي؛ وفكرة الجامعة المسيحية، وما يعنينا هو المحور الأول: هو أن ازدهار وانهيار الدول بما فيها الامبراطورية وكذلك المجتمعات يرجع الى اقترابها الى الله في الحالة الأولى ثم انقلابها وابتعادها عن الله في الحالة الثانية حيث يشيع الظلم والفساد فيسلط الله غضبه عليهم عقابا نكالا فتسقط الامبراطورية والدولة والمجتمع!!
وتفصيل نظرية أوروسيوس موجود في كتاب ” طبقات الأطباء والحكماء” لابن جلجل..وقد اطلع ابن خلدون (1332 – 1406م) على هذه النظرية وفندها تفنيداً، فابن خلدون يختلف عنه في قيام الدولة وسقوطها فلا يدخل في تعليله القصاص الإلهي، بل نجده مادي النزعة وفق مبدأ النظرية البايولوجية (العضوية) فهو يرى الدول كالأفراد لها دورة حيوية كدورة الحياة الفردية سواء بسواء التي قسمها الى ثلاث مراحل: لها شبابها؛ ورجولتها؛ وشيخوختها.. أي أن هناك عوامل التقهقر والانقسام والضعف وهي داخلية وبالتأكيد هناك عوامل خارجية من قبيل الحروب التي تضعف الدول وتقضي على شباب الدولة وتخلق تدهوراً اقتصادياً وعمرانياً واجتماعيا.. ونرى أن ابن خلدون لم يتطرق الى أي بعد غيبي أولاهوتي وهنا مكمن عبقرية هذا العالم الاجتماعي الفذ..
ونجد إن نظرية أوروسيوس لا زالت لها مؤيدوها في الفكر المسيحي والإسلامي، ومن الملفت أن قصيدة “الأرض اليباب” للشاعر الانغلو أمريكي تي أس اليوت (1888 – 1965) بنيت على محور القصاص الإلهي، فبسبب الحروب – الحرب العالمية الأولى – وكوارثها وابتعاد الإنسان عن القيم السماوية سلط الله غضبه على البشر وجعل أرضهم يبابا! وهكذا جادت قريحة أوليوت بمطولته المشهورة!
ويبقى السؤال الجوهري: فإن الله عادل (وفق المعتزلة) ومن أسمائه “العادل” و”الحق” فلماذا يأخذ الناس والأطفال الأبرياء بجريرة المتسلطين الجبابرة تجار الحروب؟!!
أحسب أن الجواهري (1900 – 1997) وقف موقفاً لا أدرياً حيث قال:
تجري على رَسْلها الدنيا ويتبعُها – رأيٌ بتعليل مَجراها ومعتقَدُ
أعيى الفلاسفةَ الأحرارَ جهلُهُمُ – ماذا يخبّي لهم في دفتيْهِ غدُ
وهكذا حسم الموقف أبو فرات بطريقة شاعرية، فلطالما كان البلسم في الشعر!!