18 ديسمبر، 2024 8:57 م

هل خضتم الحرب يوما ؟

هل خضتم الحرب يوما ؟

هل تعرفون شكل الحرب ؟ هل مررتم بأتونها فأكتويتم بنارها ؟ ، هل عشتم فصولها التي تملأ الذاكرة بندوب سوريالية لا تُمحى ، ونحن ننشد لها القصائد الحماسية في المدارس ، ونسخر لها الإعلام والثقافة ، وينبري لها الكُتّاب والشعراء ومعهم الجمهور ، متغنين بالشهادة والفوز بجنّات النعيم ونضفي عليها صفة القدسية ، نلقّن أطفالنا بعدالتها وجدواها ووجوبها ، نعبئ الرأي العام على أنها مفروضة علينا ، وأنها مسألة وجود ، نجعل منها عُرسا ، بأضواء وألوان زاهية وزغاريد وورود ومهرجانات ، وتحت شعار (كل شيء من أجل المعركة) ، يتآكل الأقتصاد ، ويُقمع المعارضون ، وتتوقف التنمية ، ويسود التقشف والفقر، وبذلك تقوى شوكة النظام ، ويظهر أمراء الحرب بإسلوب دعائي رخيص ، مرتدين (الكاكي) الأنيق الذي لم تعلق به ذرة واحدة من غبار ساحات القتال ، ولكن هل مررتم بجانبها المظلم حيث النيران والدخان والصرخات ؟، هل تعرفون كيف يراها المقاتل الذي ارتاد جبهات الموت ؟!.
ليس هنالك من إنسان سوي يحب الحرب ، إلا من يبحث عن المكاسب على حساب النفس البشرية لأنه ببساطة لا يحترمها ، لهذا يرى المقاتل نفسه مضطرا لخوضها ، فلا ناقة له منها ولا جمل ، يعلم أنه يدفع ثمن حماقة السياسيين ، إما بسبب الطيش والرعونة والنظر القصير ، أو الصراع الشخصي بين قادة الدول ، وما أن يجتاز هذا المقاتل الخط الأحمر ، فيدخل مساحات السلب المشروع للأرواح بالجملة ، ومع سقوط أول قذيفة ، يصاب بالصمم ، تعتريه حالة ذهول وثمالة غريبة ، فيفتح عيناه ليجد أن الألوان قد إختفت ، ويتحول كل شيء الى الأبيض والأسود ويسود الصمت ، وكأنه فلم صامت ليس هزليا بالمرة ! ، لا يرى فيها سوى لون حديد الأسلحة الرمادي الساخن ، يتحرك لاإراديا مثل نملة خرقاء يائسة تتقي عقب سيجارة مشتعلة رمى بها أرعن ، ثم يعود له سمعه وبالكاد يسمع صوت البنادق وكأنها طقطقة خفيفة ، وتتسلل إليه صرخات الجرحى تدريجيا ، وكأن أحدهم يتحكم بحجم الصوت المرعب حتى يبلغ أقصاه !.
في ميدان الإعدام ، تكون الرصاصة أكثر رحمة من مثيلتها في ميدان القتال ، لأنها تنهي حياة ومعاناة القتيل على الفور ، لكن من النادر أن تصيب الجندي رصاصة أو شظية في مقتل ، ليس قبل أن تكون ميتة بطيئة ، يمر فيها بأشد ألوان العذاب ، وأن يرى نفسه يسبح ببُركة من دماءه ، وأن يشاهد أوصاله تتقطع ، أو أن يحترق بنار هادئة ، بحيث تتسائل مع نفسك ، لا لن تكون هكذا نار جهنم ! ، ويستجمع مَن نجا منهم قواه ، وتعتمل لديه غريزة البقاء البدائية ، وسييَقتُل حتى لا يُقتَل ! وبعد خوضه هذا  الدرس البليغ والعنيف ، من أن عدوه جاء لقتله ، لا ليرمي عليه الورود ، يتحوّل الى آلة للقتل ، هذا ما تريده (السلطة) ، وتكبر لديه روح الإنتقام التي تتناسب وشدة العنف الذي يشهده ، والخوف صفة إنسانية يكذب من ينفيها ، لكن المقاتل يعرف كيف يترجمها إلى عنف ، هكذا تدوم رحى الموت ، وتلك هي سايكولوجية الحرب بالمختصر !.
في حرب عاصفة الصحراء ، كانت نذالة العدو اللامحدودة ، شغلي الشاغل ، فأتذكّر حرب فييتنام ، والعامل البرتقالي السام ، والنابالم ، وسائر الأسلحة المحرمة ، ولجوئه للتجويع بحرق مزارع الأرز ، أتذكر القنبلة الذرية على اليابان دون مسوّغ حربي ، ولا لشيء إلا لتجربة سلاحه السري ، وإخافة عدوه اللدود ، الإتحاد السوفييتي السابق ، كنت أعلم أن هذه الحرب غير تقليدية ، وأن جيشنا وهو بلا غطاء جوي وهو من أولويات التعبئة العسكرية التي لم يُنفّذ منها أي بند أو مبدأ عسكري ، مثل (لا تكن ليّنا فتُعصر ، ولا صلبا فتُكسر) أو (إذا أردت أن تأمر أن تُطاع ، فأمُر بالمستطاع) ، تقطعت أوصال إمداداتنا بالعتاد والمؤن في الساعات الأولى ، فعرفنا المعنى الحقيقي للجوع ، وهنالك مبدأ عسكري يقول (الجيوش تزحف على بطونها) ، قادة لم يرتادوا الأكاديميات العسكرية ، زجوا بنا في حرب غير متكافئة ، فتحولت إلى محرقة ، مجرد جيش انتحاري دون طائل ، هكذا كنا هدفا يُرمى بلا حول ولا قوة ، كأننا خراف بلا علف تنتظر الذبح في باحة مجلس عزاء ، ونحن لا نرى بأم أعيننا أي عدو ، فلم تعد الشجاعة ، ذلك المقياس الحاسم في ربح الحرب ، فجنديهم من طراز (الكاوبوي) ، يختبئ خلف الأزرار ، فيُزهق الأرواح بمجرد كبسها وكأنها لعبة فيديو إلكترونية ، جعل الآلات تقاتل بالنيابة عنه ، كل ذلك ، ويتفوق علينا العدو المهاجم بكل شيء ، عُدّة وعددا وإعلاما بنسبة 100 الى 1 ، ونحن لا نمتلك أي شيء ! ، ونسمع بين الحين والحين ، بيانات قادتنا التي لا فائدة منها ، بأصواتهم الممزوجة بصدى حجورهم حيث يلوذون ! ، يحيلون الهزيمة الوحيدة في تاريخ الجيش العراقي الى نصر بالكلمات فقط ، كان حقا مخطط ناجح لتدمير هذا الجيش وتفتيته ! .
عاصفة الصحراء هي سلسلة من جرائم الحرب التي ارتكبها بحقنا عدونا وقادتنا على حدّ سواء ، عدونا لأنه المعتدي ، ولأنه استخدم القوة المفرطة دون مقاومة تُذكر ، وقادتنا لأنهم تركونا في الصحراء بلا عُدة ولا عدد ولا إمداد ولا خطط ، وأن أمر أنسحابنا كان كارثيا بحق ، كان غير واضح وغير مدبر ولامنظم نتجت عنه الكثير من المآسي ، كانت القنابل العنقودية تُرمى على جنودنا المنسحبين ، فنشم منها رائحة شواء اللحم البشري ، وأتذكر حوار طيار (الميراج) الفرنسي وهو ينهر الطيار القطري ، بعدم ضرب الجنود المنسحبين ، هذا ما سمعته شخصيا من جهاز أحد جنود المخابرة ! ، القنابل العنقودية إذن ، كانت هدية من أبناء (عمومتنا) ، على شكل خناجر ، تطعن ظهور جنود عزّل مدبرين !.
معظم الجنود من المنخرطين في الحرب من الشباب ، وممن لم يكتشف مواهب نفسه بعد ، فيعتاد على مشاهد العنف لأن القتلَ فيها مشروع بل مقدس ! ، وعدد الضحايا مفتوح ، يُثاب عليه المقاتل كلما كبُر ، فيموت الضمير ، وعندما تضع الحرب أوزارها ، يجد هذا الشاب أنه لا يحسن شيئا إلا القتل الذي إعتاده بدم بارد ، لهذا سيتخذه موهبة وحرفة له ، وهو يرى دولته التي حارب من أجلها ، قد أهملته لأنها خرجت من الحرب منهكة ، فيتحول الى عدو لها أو للمجتمع ، وهذا أكبر تحدٍّ يواجه الدول بعد الحروب ! ، أو إن خرج منها على الأقل قطعة واحدة إن كان محظوظا ، يكون قد تلقّى درسا أليما وعنيفا ، في إحترام كل ما هو حي ، فهذا ما يجعلني أفتح خطوتي كي لا أطأ خط النمل في طريقي ! ، ثم تعود الحياة الى طبيعتها ، لم أصب بخدش ، لكن جروح الروح لا تندمل ، تنتهي الحرب ، فلا رابح ولا خاسر ، وكلّ يدعي فيها بالنصر ، فيسجّل التاريخ هذا النصر الزائف بأسماء السياسيين ، ببدلاتهم الأنيقة ، وهم يتمترسون في قصورهم الباذخة ! ، أما نحن ، فسيطوينا النسيان كجنودٍ مجهولين  ! وقد نتحول الى مجرد مادة دسمة في صناعة الأفلام .
هل تعلمون أن الحرب أكبر إنجازات إبليس ؟! ، ففيها تغيب القوانين والأخلاق والأعراف ، وتُهمل الأتفاقيات وما تبقى من رائحة للأنسانية ، ويحترق الأخضر واليابس ، ويسود الجوع والفقر والمرض والجريمة والتخلف ، فكل رصاصة نطلقها ، فيها ثمن لقمة في فم جائع ، لقد كرّم الله النفس البشرية ، لهذا فديّتها كبيرة ، وأنا أرى حربا فُرِضَت علينا ضد داعش ، لكن بدلا من أن يُساق المسؤولين عن بيع ثلث مساحة العراق للأرهابيين ، والخونة المستغلين لهذه المآسي الى المحاكم والقضاء ، نراهم يلبسون المرقط ، أو يفشون الدعايات لأنفسهم بدعوى محاربتهم لهذا التنظيم الإرهابي ، فما ذنب المقاتل وهو يدفع ثمن خسة وخيانة وجبن وفساد وعمالة السياسيين والقادة ، فإلى متى يبقى العراق ، الموئل الدائم للحروب ؟! .
لا أرى أن نيران الحرب ستخبو قريبا ، فلا تجارة رابحة على وجه الأرض كتجارة السلاح ، وشركات تصنيعه ، ولوبيات دعاته ، إنهم حفنة من (الأبالسة) المتنفذين من المتربعين على قمة الهرم الخفي الذي يدير العالم ، وتقام المعارض لفن القتل والاغتيال ، وآلات اللعنة المُردية للأنسان وخبزه وكرامته ، تلك التي اسمها أسلحة ، ويُفرش فيها السجاد المخملي الأحمر ، وتُهيأ لها الديكورات الأنيقة ، تُسخر لها أعلى مستويات التكنولوجيا ، والمفارقة أن كل التكنولوجيا تطورت لخدمة الحرب أولا ، لتصل بعدها للمدنيين ! ، رواد هذه المعارض الباذخة من الحسناوات ورجال الأعمال وتجار الحروب والسياسيين ، وتُعقد الصفقات ، ولكن هل يسمعون ضجيجها ودويها ، هل يرون صور دمارها ، وماذا عن ملامح ضحاياها ؟ هل يتصورون أكداس جثث الفقراء بالذات ، أزاء كل صاروخ (ذكي جدا) ، وطائرة دون طيار ومدفع وسلاح خفيف ؟ ، من هنا نعرف ، أن الأرهاب صناعة مكملة وضرورة ، كونه المبرر الكبير والدائم لشن الحروب ! ، من هنا أقول ، أن البلدان الشمولية ، تُغيّب معارضيها أفرادا ، لكن أمريكا ومن دار في فلكها ، تُبيد معارضيها دولا ! .