عُرف عن عن العراقي فرداً وشعباً شهامته وكرمه وأريحيته عند أخوانه العرب، ولست أزعم هذا من باب المباهاة قط إنما من باب الفخر والاعتزاز.. ولعل أبناء جيلي يتذكرون كيف كان يهب العراقيون قبل حلول الشتاء استجابة لحملة “معونة الشتاء” حيث تجمع التبرعات بسخاء قبل أن يحلّ الفصل البارد لصالح الفقراء والمعوزين المتعففين.. ويتذكرون كيف كان العراقيون يتبرعون لفلسطين في العهد الملكي تحت عنوان مؤلم ” تبرعات للاجئين الفلسطينين” حيث يقوم أطفال المدارس بجمع التبرعات، حتى جاءت ثورة 14 تموز لتلغي موضوعة “اللاجئين” لتصبح مساعدات حكومة الجمهورية العراقية الفتية سخية للثورة الفلسطينية التي كانت قيد التشكل، حيث أسس الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم ” جيش التحرير الفلسطيني” وجهزه بالمال والسلاح..
وحتى في النكبات الطبيعية كان العراقيون يهبون لنجدة أخوانهم المنكوبين ولا أدلّ ذلك من حملات التضامن مع منكوبي زلزال أغادير المغربية عام 1960، ناهيك عن المعونات السخية التي قدمتها حكومة الثورة في الجمهورية العراقية لثوار الجزائر في جميع الأصعدة السياسية والمالية والعسكرية..
منذ اندلاع الثورة الفلسطينية المسلحة في أواسط الستينات، كان الدعم الشعبي العراقي واضحاً بالمال والتضامن السياسي والاعلامي خاصة بعد هزيمة حزيران عام 67 حيث انخرط الشباب العراقيون في شتى الفصائل الفلسطينية المسلحة وقدموا الشهداء، بمثلما دافعوا عن بيروت المحاصرة وقدموا أرواحهم رخيصة للمساهمة في الوقوف مع الثورة الفلسطينية.. مما حظي بتقدير منظمة التحرير الفلسطينية وكل الشعب الفلسطيني ناهيك عن الصحفيين الذي ساهموا في تحرير الصحف والمجلات الفلسطينية ..
بيد أن الأمر تغير بعد احتلال بغداد، فقد تغيرت الموازين فأمريكا المحتلة صديقة إسرائيل، وكل من جاءت بهم من حكام جدد أصبح تحت إمرة العدو المحتل وغدت المخابرات الاسرائيلية تسرح وتمرح ونفذت اغتيالات لعلماء وطيارين عراقيين وأطباء مرموقين وأساتذة جامعات..الخ.
والمحصلة أن قلّ التضامن مع الثورة الفلسطينية التي بهت وهجها هي الأخرى مذ قبلت بالمشاريع “السلمية”، فقد تحولت الى مكاتب ودوائر رسمية في تونس ثم انتقلت الى الأرض المحتلة في الضفة وقطاع غزة.. وأصبح طريق النضال المسلح مسدودا، وكانت تأييد الفلسطينين حكومة وشعبا لرأس النظام العراقي الذي تاجر بالقضية الفلسطينية وقدّم نفسه النصير الذي أغدق بمعونات مالية لشهداء فلسطين وتعززت شعبيته عندما رمى صواريخة على تل أبيب، حيث صُورت بأنها البطولة والسابقة الثورية التي ما بعدها بطولة.. دون أن تُفهم على أنها مغامرة دعائية كان يمكنها أن تؤدي الى كارثة كبيرة.. وقد عوّض العراق إسرائيل بأضعاف ما تضررت!!
مع سقوط النظام السابق، بدأت مضايقات تطال الجالية الفلسطينية في مساكنها وأحيائها من قبل أنصار النظام الجديد بزعم أنهم عملاء لصدام وأنهم ساهموا بقمع انتفاضة آذار عام91 بالسلاح، وهو أمر لم يثبت بدليل! وبذلك رُحل أناس أبرياء من مساكنهم على تخوم الحدود العراقية مع الأردن وسوريا لتستولي الميليشيات المسلحة على مساكنهم؛ وزاد الطين بلّة أن بعض الانتحاريين الإرهابيين كانوا فلسطينيين استهدفوا المدن الشيعية وخاصة مدينة الحلة وقد أقيمت الفاتحة لهؤلاء الإرهابيين في مدن أردنية وفلسطينية معتبرين إياهم أبطالاً شهداءَ عند بهم يرزقون !!
هذه الأسباب وغيرها جعلت البعض من أرباب الإسلام السياسي الشيعي يتذرع بها ليضطهد الفلسطينيين ويرحلهم بشكل لاإنساني..
وزاد الأمر عند بعض العلمانيين من شريحة “المثقفين” الذين نفضوا أيديهم من قضية فلسطين وأصبحوا يصرّحون علانية بمساندتهم لإسرائيل و “حقها في الوجود” و “ما لنا ندس أنوفنا في قضية لا ناقة لنا بها ولاجمل”..حتى غدا العديد منهم يعقد صداقات مع الإسرائيليين ويدعو الى تطبيع العلاقة معها بكل وقاحة..
وحيث بدأ القصف الإسرائيلي يطال غزة منذ أكثر من عشرة أيام بشكل وحشي وبكل وقاحة حتى تجاوز الشهداء – وجلهم من المدنيين- المائتين نصفهم من الأطفال والنساء من غير العدد الكبير من الجرحى.. وقد خرجت مظاهرات التضامن مع الشعب الفلسطيني في أوربا وكندا بينما كانت التظاهرات في العواصم العربية ضعيفة باستثناء المغرب وخاصة مدينة الرباط.. بينما كانت مظاهرة بغداد ليست بالمستوى الذي عرف عنه في تضامن الشعب العراقي المعهود مع القضية الفلسطينية…
ومن يتحرى المقالات في الصحف والمواقع الإلكترونية العراقية يجدها جد قليلة للأسف. والتعذر بمسألة الوضع العراقي الداخلي غير المستقر سبب هو الآخر يبدو باهتا!!
ولست بصدد تحليل آفاق الصراع مع إسرائيل الذي أخذ مستويات عالية بالهجوم على إسرائيل لأول مرة بصواريخ أقضت مضاجع العدو الصهيوني الذي فقد صوابه وراح يرجم قطاع غزة مستهدفا المنازل والأبراج المدنية بما فيها مكاتب وكالات الأنباء والفضائيات ومقرات الإعلام.. كل ذلك بعد أن تأكد بأن القبة الدفاعية لم تصد الصواريخ الفلسطينية وفق الخبراء بين 20% وبقدرة أقصاها دون الستين بالمائة..
إن النضال المسلح البطولي للفلسطينيين قد دخل مراحل متقدمة ستحسب لها قيادة الكيان الصهيوني ألف حساب.. فقد أفضت هذه المواجهة البطولية الفلسطينية الى توحيد الضفة وقطاع غزة.وأزالت كل الفوارق والخصومات بين الفلسطينيين أنفسهم، وعززت الحمة الوطنية والقدرة على المواجهة بالسلاح والصمود أمام القاذفات الإسرائيلية من البر والجو والبحر!.. كما جعل دولاً عربية مهمة تغير مواقفها لاول مرة مثل مصر وقطر وحتى المغرب مما يعد بتغيرات لصالح النضال الفلسطيني..وإن غداً آت..