المخاض الذي يمر به العراق ، وكسر التابوهات ، وظهور جيل جديد يحمل روح التحدي وعزيمة التغيير ، بالاضافة الى ضعف معوقات بناء الدولة ، كلها عوامل تبشر بولادة وطن ، أو بداية مرحلة جديدة سماتها تختلف عن كل المراحل التاريخية التي مرت على بلاد الرافدين، فهي أكثر نصجاً وأعمق وعياً .
ربما كان طرح مفهوم الدولة المدنية قبل أعوام يلاقي معارضة شديدة في الشارع العراقي ، أو كان هناك خلط مفاهيمي في أوساط المجتمع حول الدولة المدنية ، أولعل الداعين لها لم يوفقوا في شرح المعنى الحقيقي لها ، علاوةً على التحديات التي كانت تواجه طرح مثل هذا المفهوم ، كون المنظومة القيمية سواء الدينية منها او العشائرية كانت فعالة وقوية ومن الصعب مواجهتها .
إلا ان الواقع قد اختلف تماماً فعراق مقابل التظاهرات يختلف عن عراق ما بعدها ، فقد اختلفت قواعد اللعبة ولم يعد بالإمكان الرجوع الى الخلف . وكل ماكان قد أصبح من الماضي ، وغدا الجو مهيئا للعمل باتجاه الدولة المدنية.
فبعد الفشل الذريع لاحزاب الاسلام السياسي والأحزاب القومية والاشتراكية وضعف المؤسسة العشائرية والدينية ، وانشغال الدول الاقليمية كإيران والسعودية وتركيا التي سعت بشكل حثيث لافشال الدولة المدنية في العراق بمشاكلها ، بدا الطريق اكثر وضوحاً لطرح مفهوم الدولة المدنية .
فإيران التي تعاني من الحصار ومن اقتصاد منهك وتظاهرات داخلية لم تعد قادرة على فرض رؤيتها الدينية على الواقع العراقي . والسعودية بتوجهها الجديد الذي يقوده الامير محمد بن سلمان و ضرب المؤسسة الدينية الوهابية ، لم يعد الصراع المذهبي اولوية كما كان في السابق ، اما تركيا فهي الاخرى انشغلت بالواقع السوري ، والخطر الكردي الذي تعتبره خطراً يهدد أمنها القومي ، لذا ابتعد العراق عن اهتمامات الأتراك كأولوية في سياستها الخارجية .
بناءً على هذه المعطيات فان الدولة المدنية أصبحت اكثر قربا ومقبولية مما مضى وحان الوقت ان تطرح بقوة . وذلك لعدة عوامل
اولها : عدم وجود البديل السياسي المقبول غير الدولة المدنية .
ثانيا: انها تلبي مطالب المتظاهرين بالقضاء على المحاصصة والطائفية .
ثالثاً : تعتمد الهوية العراقية وترفض كل الهويات الفرعية .
رابعاً : تعتمد الكفائة في التعيينات .
خامساً : تعتمد سيادة القانون.
ان مشروع الدولة المدنية هو المشروع الناهض الذي يعبر بالعراق الى بر الأمان ويبني دولة قابلة للحياة وبعيدة عن الهزات السياسية .
الدولة التي تتحرر من قيود الدين وتحرر الدين من قيود الدولة ، كما انها تتحرر من قيود العشيرة والعائلة والطائفة والقوم .
الدولة التي تبتعد عن الشعارات الثورية ، والمواقف الأيديولوجية وتبحث عن المصالح الوطنية .
الدولة التي تعتبر السياسة الداخلية اولوية قصوى لانها ترتبط بالشارع الوطني .
الدولة التي تحترم كل الهويات الفرعية لكنها تعتمد الهوية الوطنية فقط ، كما انها تحترم حرية العقيدة وترفض استغلالها بالسياسة .
ان بروز النزعة الوطنية بين العراقيين بهذه القوة ، ورفض التدخل الأجنبي ، ونبذ الاجندات البالية والأحزاب المنتهية الصلاحية ، وكسر سلطة العشيرة كسلطة قسرية وسلطة رجال الدين كسلطة مقدسة ، كلها مؤشرات إيجابية لولادة عراق ذو نزعة إنسانية بحته .
ان الوعي الجماهيري الذي يجتاح الشارع العراقي هو كفيل في تحقيق حلم الدولة المدنية . فمن الدكتاتورية الى الديمقراطية الفوضوية التي أنجبت نظاماً مشوهاً ، بات واضحاً ان النظام الاكثر ملائمةً لبلد مثل العراق متعدد القوميات والطوائف والأديان والاعراق هو النظام المدني ، النظام الذي يضمن حقوق الجميع ، ويوفر فرص متكافئة لهم .