بعد عذابات دائمة استمرت ثلاثة عقود, فرحنا بسقوط نظام البعث ودكتاتورية القائد الضرورة عام 2003 ,ولكن فرحتنا لم تدوم سوى بضعة ايام, فقد تم امام انظار القوات العسكرية المحتلة, وربما بتخطيط مسبق من قبل المخططين للاحتلال, ان تستباح مؤسساتنا الثقافية والعلمية وتسرق الاثار والمكتبة الوطنية والبنوك وتحرق مخازن الوزرات ويعطل ما كان من بقايا البنية التحتية التى كانت تعمل بشكل متواضع. السؤال الذى يبقى فى عقولنا حول مصير ملايين الاليات والدبابات والمدرعات ومعسكرات الجيش العراقى. اين معسكر الرشيد بمنشأته ومعامله ومستشفياته؟؟ اين الجيش العراقى اصلا؟؟. وتحولت فرحتنا الى حزن من نوع اخر وتساؤلات.هل يمكن ان يكون المحتل بدباباته وطائراته وجنوده ان يكون معمرا ومحررا, اصدقاء ومن اهل البيت؟؟ على اقل تقدير وبعد 14 عاما لم يكونوا فى العراق كذلك, ولكن كيف تولدت هذه التصورات وكيف حصلت مثل هذه الفتاوى!!
نعم اننا سعداء وفرحين بتحرير الموصل العزيزة, اننا العراقيون نشكر ونحى الرجال الكبار الذين حملوا السلاح وقدموا الضحايا الكبيرة واعادوا لنا فسحة من الامل, الامل بالممكن, بأمكانية التغيير واعادة الامور الى مجراها الطبيعى, كذلك لا ننسى الضحايا الذين قدموا ارواحهم فداءا للارض والوطن, انهم عشرات الالاف بالاضافة الى حزن ودموع الوالدين على ابنائهم الاعزاء., ليس اخيرا المليارات الثقيلة والتى تكبل العراق لسنين قادمة بديون هائلة مع البنك وصندوق النقد الدولى, علما بان الحكومة العراقية قد اجبرت على حرب ضارية دون ان تمتلك القدرة والمساهمة الذاتية على انتاج ابسط معدات الحرب , طلقات المسدس والكلاشنينكوف مثلا.
لقد تحررت الموصل, ولكن ما هى الدروس والعبر التى يجب ان تستخلص من سيطرة داعش على ثلث مساحة العراق, وبعد ثلاثة سنوات تم اخيرا تحرير ثانى اكبر المدن العراقية وبتضحيات بشرية ومادية هائلة!! ان الواجب الوطنى يقضى فى هذه الحالة عادة النظر بجميع الاوليات والافكار التى قامت عليها دولة وحكومة المحاصصه واخذت بها الخبة الحاكمة ليومنا هذا. وكما اعتقد علينا ان نتعامل مع الواقع بمكوناته الحقيقية, بعيدا عن الارتجال والخطاب السياسى المثقل بالعواطف والاوهام والغيبيات والعنتريات. علينا الاخذ بالمنهج العلمى فى التفكير والتخطيط والتنفيذ. ان البحث العلمى الرصين هو فعل سياسى ايضا ودراسة وتحليل الاسباب والنتائج, بعيدا عن المشاعر والعواطف ورغبات فرسان حكومة المحاصصة سوف يقدم افاقا رحبة للبناء والتخطيط للمستقبل منطلقا من مبدئية الوطن والشعب وليس عمليات تبريرية لاخطاء شنيعة وسياسات رعناء قادت الى الهاوية واكدت على استقطابات فى مكونات الشعب العراقى والتى ما زالت لم تجد حلولا وتشكل احد اكبر عوائق الوحدة الوطنية ويمكن ان تنفجر سريعا اذا لم تضع افكار وحلول حقيقة.
لقد تم تحرير الموصل العزيزة, وانتهى دوى الاليات والمدافع والدبابات, الا ان الجانب الاخر لداعش, المحتوى الفكرى والعقائدى مازال قائما , خاصة وان قطاعات فى العملية السياسية يشاركون داعش افكارهم وعقيدتهم, ولكن من منظوراخر, لكنهم يشتركون كلاهما فى عملية تسفيهه العقل والمنطق, والواقع المعاش القائم على العمل والحياة بمكوناتها المتعددة المتنوعة. ان الفكر الاحادى المتطرف الذى احتكر الحقيقة لنفسه ويجرم كل من يختلف عنه فى الفكر والسلوك, وحتى فى المظهر الخارجى يأخذ حيزا كبيرا فى النخبة الحاكمة وحكومة نخبة المحاصصة والعصابات والميليشيات المسلحة المنظمة التى قد اوجدتها.
ان تحرير الموصل يمثل انتصارا على القوى المادية لدول الخلافة داعش, ولكن الفكر الارهابى التكفيرى واحتكار الحقيقة لم يقهر بعد وما زالت الخلايا النائمة لها القدرة على العمل, خاصة ان داعش وجد له مناطق نفوذ فى ليبيا وفى الفليبين وما زال له مناطق صغيرة فى سوريا والعراق. ان من حقنا كعراقيين ان نسأل عن توجهات الحكومة وخططها فى الحيلولة دون ان تنجح داعش او عصابات ارهابية اخرى وبمسميات اخرى فى التعامل مع بعض دول الجوار وغير دول الجوار فى بناء قوة ضاربة لها امكانيات تسليحية ولوجستية و الهجوم واحتلال ارضى وبلدات عراقية ثانية, والعودة ثانية الى حالة الحرب واستنزاف القوى البشرية والمادية للعراق, خاصة اذا استمرت هيكلية النخبة الحاكمه على مكوناتها المعهودة.
ان تكافل النخبة الحاكمه فى حماية مصالحها واستمراريتها, بالرغم من الاختلافات المذهبية والطائفية والقومية يدعو الى القلق, وكما يبدو فانه يمثل منهجا سياسيا وسلوكا عاما. هذا يعنى ان الفساد الادارى والمالى سوف يستمرعلى قوته فى جميع مؤسسات الدولة, وسوف تزداد قوة وفاعلية الميليشيات المسلحة وتصبح قوة ضاربة فى خدمة النخبة واستمراريتها وخاصة رؤساء الكتل. ان الذى يدعو الى الحيرة والقلق, ان الشخصيات الفاعلة حينها عندما استطاعت داعش من احتلال الموصل, دون ان تجد مقاومة من قوات الجيش العراقى وكبار ضباط الجيش, انهم ما زالوا يشغلون مناصب رفيعة ومهمة فى الدولة ويتمتعون بالامتيازات والرواتب الخيالية والحمايات الشخصية الكبيره, دون ان يقدموا على,اقل تقدير, امام البرلمان او القضاء, الا ان الشكوك فى برائتهم لو قدموا الى القضاء او البرلمان سوف لا تجد مكانا للنقاش, وسوف يخرجون منها “مرفوعى الرؤؤس” لجهودهم الحثيثة فى خدمة الشعب والوطن. اننا لا نتهم احد, وانما الشواهد على تكافل الفساد منذ 2003 بات واضحا جدا, حتى ان قتل حوالى 2300 من طلاب الكليات العسكرية فى مجزرة سبايكر الشهيرة لم تصدر اى تقارير ونتائج عن الاسباب والنتائج من اللجان الحكومية التى تم تشكيلها. ان ظاهرة تكوين اللجان التى لم تتوصل الى نتائج هى الاخرى احد مفردات منهج واسلوب حكم حكومة ودولة المحاصصة, وهنل امثلة وشواهد كثيرة جدا.
ان الحكومة فى وضع لاتحسد عليه, فالقضايا والمشاكل المطروحة فى الساحة العراقية نتيجة لحرب ضارية لتحرير الموصل كثيرة وكبيرة جدا وتتطلب قرارات سريعة قوية وفاعلة: اعادة مئات الالاف من النازحين والمهجريين الى ديارهم التى تحولت الى خرائب غير صالحة للسكن, واوضاع صحية بائسة وامراض خطير بدات اثارها تظهر فى كثير من مناطق البلاد, وامور كثيرة جدا لايسمح هذا الاطار بتعدادها. امام هذا الكم الهائل من المشاكل, وتكافل نخبة الفساد سوف تختصر عملية البناء والاصلاح الى عمليات بسيطة لا تغنى عن جوع وتستمر الاوضاع على مساراتها المعتادة وسوف يلعب الاعلام الحكومى ومجالس العمائم فى تبرير كل شىء.
ان كثير من الدول قد ابدت استعدادها للمساهمة فى اعادة بناء وما دمره داعش الارهاب, ولكن هذه الدول تعلم جيدا وبشكل مفصل حول اخلاقيات النخبة الحاكمة والملايين التى تم توديعها فى البنوك العالمية, انهم يعلمون جيدا بان هؤلاء لصوص ومحتالين وعديمى الخبرة ولايمكن الثقة بهم. ان يحصل النجاح فى تخفيف معاناة المهجرين والنازحين يجب ان تتبلور قيادة وطنية مسؤلة تتحمل مسؤلية اعادة البناء والتعمير, ولكن من اين نأتى بها وكيف يمكن ان تظهر وتتبلور ؟؟ وهل يوجد فى صفوف نخبة المحاصصة شخصا له الكفاءة وقوة الشخصية ولم تخدعه اغراءات المال والسلطة ان يخترق ويصدع “دائرة تكافل” الفساد ويفتح الطريق للشعب العراقى نحو مستقبل امن وامين !!