23 ديسمبر، 2024 3:18 م

هل تعود تعددية المتعة والثقافة والجمال في شارع  الرشيد ..؟

هل تعود تعددية المتعة والثقافة والجمال في شارع  الرشيد ..؟

بتأثير من اسم المتنبي صار شارعه المتفرع من شارع الرشيد في قلب العاصمة بغداد ، منذ يوم افتتاحه في بغداد  ، منبعا لنشاط وجوال النخبة الثقافية العراقية، ورمزا من رموز المثالية الأدبية والفنية والجمالية، ومكانا من اماكن إشعاع نوعي، اجتماعي وسياسي وتاريخي ، حيث يتوفر كل شكل من اشكال الوعي الانساني في المكتبة العصرية ومكتبة النهضة ومكتبة الشعب ومكتبة الربيع ومكتبة البيان ومكتبة المثنى  والمكتبة العلمية وغيرها الكثير المرتبط بكل مرحلة من مراحله التاريخية والاجتماعية المنتجة للوعي الانساني.

رغم عودة العافية والبهاء والعقل النوعي لشارع المتنبي  بعد إعادة روحه وجسده اللذين كان شيطان الارهاب قد راهن بالمفخخة التفجيرية عام 2007  على أن يذبحهما إلى الأبد . عادا بجمالٍ أكبر وأناقة افضل وبمنظومة من حركةٍ  جماهيرية ٍ واسعة كل يوم جمعة خصوصاً.  غير اننا نجد  شارع الرشيد ،  الشارع  البغدادي الأم،   فاقداً ثقة الناس بعودتهِ الى  المشهد الملحمي  الرئيسي  في تاريخ العاصمة  بغداد و جغرافيتها  منذ افتتاحه عام 1916 .  الوضع العام في هذا الشارع ما زال، في الوقت الحاضر،  معقداً جداً تستعصي اسبابه على الفهم  أيضاً. من الصعب أن يلاحظ المرء أي ولادة  يحتاجها لحركة جديدة بهدف إعادة إعماره.

العلاقة بين شارع الرشيد وفروعه هي علاقة ذات معنى اجتماعي – اقتصادي – تاريخي فبالإضافة الى فرع الثقافة في شارع المتنبي،  فهو وثيق الصلة بشارع السموأل، حيث أبرز وأكبر المعاملات المالية مع البنوك العراقية الرئيسية ( البنك المركزي العراقي والرافدين). كذلك فأن فرعه المتصل بالشورجة وسوق الجام  وغيرهما يمثل الصورة العراقية التجارية الرئيسية .

صلة الشارع بفرع سوق الصفافير تضفي السمات التراثية التاريخية عبر وجود خان دلة الكبير والخان الصغير وغيرهما من بقايا وشواهد الزمان العثماني.  كما أن فروعه على نهر دجلة تحمل معانٍ اجتماعية كثيرة.  مثلاً  شارع النهر يوفر مساحة واسعة  لارتياد  البغداديات من مختلف الطبقات والأعمار، إذ يجدن فيه أحدث موديلات الملابس في مخازن عصرية بديكور مبتكر . يجاورها أجمل وأوسع محلات بيع المصوغات الذهبية .

كذلك  للمتعة والدراما في شارع الرشيد نصيب كبير إذ كان فيه عدد كبير من النوادي الليلية والمسارح  والمطاعم وصالات السينما .

في الحالات كافة  نجد مساحات الدكاكين والمخازن، بعدد لا يحصى، يمارس مختلف أنواع التجارة ، إضافة إلى عدد لا يحصى ، أيضاً ، من الدكاكين المختفية في الشوارع والأزقة المتفرعة من شارع الرشيد   تباع فيها الادوات المنزلية و محلات مختصة ببيع المواد الاحتياطية لجميع الادوات والمكائن الصناعية  . اينما توجه وجهك تجد اشياء مشوقة ومفيدة، بما فيها صالونات الحلاقة للرجال والتجميل للنساء.  تجد لكل انسان وجوداً حقيقياً يجعلك تتطلع إلى انفتاح المجتمع العراقي كله من دون أن  تشعر باي ملل.

هناك في هذه المختفيات بوابات وأبواب ونوافذ منها انطلقت  منشورات سرية أو لافتات المتظاهرين لتتقدم صفوف الجماهير المنتظرة ، سراً ، في طول شارع الرشيد وعرضه ، حين  كان صوت المناضلين العراقيين ينطلق منادياً   : يسقط الاستعمار .. أو تسقط حكومة نوري السعيد .. أو يسقط حلف بغداد أو عاش الزعيم عبد الكريم.

انطلق، في كثير من المناسبات،  نداء آخر ابتدأ بصوت ينادي : يعيش نضال الطلبة العراقيين .. نطالب بالحريات الديمقراطية . نريد خبزاً لا رصاص . عاش نضال الطبقة العاملة..

هكذا  اخترع هذا الشارع تاريخ بنفسه طوال عقود نضالية متراكمة مبرهنا انه ليس بالتجارة وحدها يحيا شارع الرشيد .. بل بالسياسة أيضاً . بالحب حتماً. بالصوت العالي المسموع  رغم أن الجيل الجديد يراه موجوعاً ، مجروحاً  ، مبحوحاً ، منذ عام 2003 حتى الآن .

في التاريخ العراقي الحديث – منذ ثورة العشرين –   كان شارع الرشيد قد تحوّل  إلى تحدٍ، بالنبرة الحادة،  ضد جميع الحكومات الظالمة  المسيطرة على الحكم في العراق . فمن جامع الحيدرخانة في شارع الرشيد انطلق قبل حوالي الثمانين عاماً صوت المثقفين والأدباء العراقيين  والعلماء الأعلام متحداً مع صوت الفئات الشعبية وهو ينادي بالحرية والاستقلال .

منذ ذلك اليوم غدا شارع الرشيد مقياساً للنبض السياسي في العراق ، مثلماً أصبح ميداناً تنطلق منه سهام الاصوات المعارضة لكل الحكومات الغاشمة المتربعة على العرش ..

إذا أرتعش شارع الرشيد يوماً ما فأن كل شوارع المدن العراقية ترتعش هي الأخرى . وإذا تقشرت بيضة الدجاج بسعر أعلى في شارع الرشيد فأن كل أسعار البيض يرتفع في العراق ..وإذا أزداد عدد السافرات في شارع الرشيد يزداد مقياس حرية المرأة ارتفاعاً ..وإذا ظهر كتاب جديد في إحدى مكتبات شارع الرشيد مبشراً بوعي جديد فأن مكتبات العراق كلها تتوجه إليه باحثة عنه . .!

 شارع الرشيد  أسقط حكومات من العهد الملكي بصوته العارم المتجه من الباب الشرقي إلى البرلمان ، أو من باب المعظم إلى أنحاء مختلفة من بغداد .

من شارع الرشيد على مر الزمن كانت هناك صلة بين القصر ، سواء كان ملكياً أم جمهورياً، وبين الجماهير . فإما أن تهدر حقوق الأنسان العراقي فيه برصاص الشرطة الحكومية  أو ينتصر بعض العقل الرسمي تحت ضغطه وصيحاته . وقد شهد كل اشكال الانتفاض ..

أول مظاهرة في عام 1946 خرجت من شارع الرشيد مطالبة : نريد خبزاً لا رصاص . وثبة كانون ملأت شارع الرشيد بعشرات الآلاف من المتظاهرين . انتفاضة تشرين 1952 خلال أيامها الثلاثة الأولى دفعت بعشرات الآلاف من الشباب والعمال وطلبة الثانويات والكليات إلى شارع الرشيد . عمال السيجاير المضربين عن العمل دخلوا إلى شارع الرشيد متظاهرين . أول خبر أستلمه عبد الكريم قاسم عن تأسيس جبهة الاتحاد الوطني كان في مكتب حسين عبد العال في شارع الرشيد . أول مكتبة تبيع الكتب الإنكليزية في العراق تأسست في منتصف شارع الرشيد ، (مكتبة مكنزي) . تمت محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد . أحرق مكتب الاستعلامات الأمريكي والعلم الأمريكي في شارع الرشيد عام 1952 أثناء الانتفاضة .

شهد شارع الرشيد عام 1956 أولى المظاهرات لتأييد تأميم جمال عبد الناصر قناة السويس كما شهد في نفس العام  مظاهرة تعدادها مائة ألف متظاهر استنكاراً للعدوان الثلاثي على مصر .

مظاهرة المليون شخص سارت في شارع الرشيد عام 1959لأربعة عشرة ساعة متواصلة .

مصور الأحداث السياسية والشخصيات الحكومية موجود في ستديو آرشاك بشارع الرشيد .

أول من عرف بتشكيل حكومة محمد الصدر بعد سقوط معاهدة بورتسموث كان ” كبابجي الرشيد ”  في الحيدرخانة مقابل مقهى البرلمان .

أول اجتماعات المثقفين والأدباء العراقيين جرت في شارع الرشيد ، في مقاهي البرازيلية وحسن عجمي والبرلمان والزهاوي والشابندر. مواهب الشعراء  حسين مردان  وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري وجبرا ابراهيم جبرا  وغيرهم تجد نفسها بمناقشة يومية عن اشعار وقصائد حافظ ابراهيم وت .س . اليوت أو في مسرحيات برنارد شو.   في المقهى البرازيلية تجد عبد الوهاب البياتي ونهاد التكرلي وفؤاد التكرلي وغيرهم منشغلين بمناقشة أجيال الثقافة من دستويفسكي حتى غائب طعمة فرمان ونجيب محفوظ ويوسف ادريس.

يقال ان الكاتب المصري المعروف ابراهيم عبد القادر المازني حين وصل الى بغداد عام 1944 بدعوة من دار الاذاعة العراقية فأن أول شيء طلبه من واضعي برنامج زيارته ، هو الجوال في شارع الرشيد واحتساء القهوة في المقهى البرازيلية. تماماً مثلما أصر الامير طلال ولي عهد الاردن آنذاك  بعد وصوله الى بغداد شتاء عام 1946  في زيارة رسمية  على قضاء بعض الوقت متجولاً في شارع الرشيد حيث امطرت السماء في تلك الساعة بغزارة لكن أرصفة الشارع حمته من البلل فأبدى اعجابه  بمعمار الشارع الذي يحمي الناس من الامطار .

أول امرأة دخلت إلى مقهى البرازيلية في شارع الرشيد كانت أمينة الرحال المعروفة بانتمائها للحزب الشيوعي  وقد سيطر الذهول على جميع جلساء المقهى وعلى العاملين فيه .. كان الجميع قد  اظهروا سلوكاً بمستوى عالٍ من التقدير والاحترام لشخصيتها حتى أن مسئول المقهى رفض استلام مبلغ القهوة منها ومن معها ثم اعلن بصوت عالٍ:  إن حساب جميع الحاضرين في تلك الساعة مدفوع من جيبه..!

يقال أيضاً  أن   الدكتور فائق شاكر الذي صدر أمر تعيينه امينا للعاصمة عام 1946  وهو من المترددين يوميا على شارع الرشيد ، ظل طيلة فترة إشغاله هذا المنصب منشغلا بتطوير الشارع ونظافته وعمرانه .

أول مطعم  يساري في العراق صغير فتحه فيصل السامر ومرتضى شيخ حسين بعد فصلهما من وظيفتيهما كان في شارع الرشيد . سرعان ما  وُضع المطعم تحت رقابة البوليس المشددة باعتباره مطعم السياسيين المعارضين . كان أزلام  سلطات ذلك الزمان يعتقدون ان طبيعة رواد هذا المطعم يتعلمون فيه التناقضات الاجتماعية الحادة، أو يسمعون أحاديث النخبة البغدادية عن الاعلان العالمي لحقوق الانسان وعن مساواة الرجل والمرأة وعن مساواة الانسان لأخيه الانسان مهما كان عرقه وجنسه ولونه فأصدرت مديرية الامن أمراً بغلق هذا المطعم معتبرة إياه  جزء من البنية الفوقية اليسارية.

أول فلم سينمائي سياسي ثوري عرض في العراق كان عنوانه ” ستشرق الشمس حمراء ” عن حياة واعدام المناضل الصحفي  الجيكوسلوفاكي ” فاوجيك ” عرض في سينما الشعب بشارع الرشيد لكن السلطات البوليسية لم تتحمل عرضه أكثر من  ثلاثة أيام. ثم منعته . كان صباح نوري السعيد قد حضر عرض الفلم في اليوم الثاني . كانت هتافات المتفرجين تنطلق حال انتهاء الفيلم وحال خروجهم من القاعة وهم متجهين الى الباب الشرقي مرة والى باب المعظم في مر  ثانية، لكن عبر شارع الرشيد.

أول شعار ارتفع في بغداد ينادي بمقاطعة  الكوكا كولا كان في شارع الرشيد . حتى أن أحد باعة الكوكا كولا وضع على الحائط خلف ظهره لافتة مكتوب عليها : قاطعوا شراب الكوكا كولا..!

أول بقال مختص ببيع أحسن أنواع الفواكه بأسعار عالية كان  ” كَنو ” بشارع الرشيد يتردد عليه كل يوم كبار الساسة العراقيين ، نوري السعيد رئيس الوزراء ، صادق البصام وزير الدفاع  ، جميل المدفعي أشهر سياسي في ذلك الزمان  ، عبد الوهاب مرجان رئيس مجلس النواب .. عبد الرزاق الهلالي معاون مدير البلاط الملكي.

أول محل شربت زبيب أسمه ” شربت الحاج زبالة ” تأسس في شارع الرشيد . كان  يتردد عليه أعضاء المجلسين ، النواب والأعيان لتناول قدح الشربت واقفين . منهم  يتعرف عامل محل الشربت او صاحبه  أحدث أخبار السياسة العراقية . كما يتردد عليه طلبة الكليات العراقية من الجنسين بمن فيهم طلاب الكلية العسكرية . أما الشبان القادمين من المدن العراقية الاخرى فانهم يتفاخرون بعد عودتهم من بغداد انهم تذوقوا طعم شربت الحاج زبالة مما يترك أثراً دعائياً لكل المستمعين .

أول امرأة سافرة في بغداد مشت في شارع الرشيد . كانت المحامية صبيحة الشيخ داود .

أولى هتافات وشعارات الديمقراطية انطلقت من شارع الرشيد .

يطول تعداد مآثر شارع الرشيد .

إنه شارع النضال و الحب والجمال  والحرية .

الشارع الوحيد الذي وطأته أقدام كل العراقيين … فهل يعود مكاناً للتسلية الليلية والتجارة النهارية.. هل يعود تصويرا صادقا للحياة البغدادية، بل العراقية كلها..  هل يعود مرتعاً حلواً  للعين والروح كما كان مقدمة لكل زوّار بغداد والسائحين فيها ، حيث يكتشفون منه ومن فروعه القدرات الكامنة في المجتمع العراقي،  خاصة بعد  أن اصبح تمثال الرصافي الشاعر وتمثال الزعيم عبد الكريم قاسم   في اول الشارع ووسطه عنوانان لشعبية هذا الشارع .

انه جزء من ارض طيبة استحقت اعجاب الاجيال البغدادية المتعاقبة.. ترى هل يكون اعمار شارع الرشيد احتمالاً وارداً أو جدياً ، في المرحلة القادمة من فعاليات المسئولين في محافظة بغداد وامانة العاصمة ، لإنهاء مشهد  المأساوية لمآثر وطنية في شارعٍ علـّم العراقيين جميعا مشاعر الوطنية والنصر والثقة  ..؟