يبدو إن ( الفقاعة ) التي تشكلت في مناطق تبعد عن العاصمة بغداد بمسافة مئة كيلو متر على الأقل , أخذت تكبر لتقترب من محيطها وتأخذ تداعيات خارج الأبعاد التي انطلقت منها , ففي البدء بدت وكأنها معضلة سياسية و قابلة للحل كونها تتعلق بتنفيذ بعض المطالب ولكنها تطورت اليوم لتشمل جوانب أمنية واقتصادية تنطوي على مخاطر عديدة من أبرزها محاولة فرض حصارا اقتصاديا على العاصمة العزيزة بغداد .
ولو كانت سياسية فحسب ( كما تمناها البعض ) لدارت رحاها ضمن حدودها المناطقية ولكنها باتت تنتشر في أرجاء العراق بحيث إن إيقاعها آخذا بالارتفاع يوما بعد يوم ومن المتوقع أن تزداد ذروتها لحين إجراء الانتخابات وما بعدها , بشكل يسمح في إعطاء الشكوك والطعون (المسبقين ) في صحة نتائج الانتخابات مما سيجعل تشكيل الحكومة القادمة أمرا ليس سهلا ويتطلب مخاضا عسيرا قد يحتاج إلى شهور لينتج فيما بعد حكومة من الممكن الحكم على أدائها منذ اليوم .
وبسبب الغياب السياسي في الحلول , فقد تطورت الحالة إلى معارك طاحنة اضطرت الجيش للتدخل , ولم يتفاجآ بوجود الأعمال المضادة التي غالبا ما تؤجل قرارات الحكومة اسبوعا بعد أسبوع لإعلان ( التحرير ) مما يعيق عودة قرابة نصف مليون عراقي دخلوا في عداد اللاجئين ( داخل الوطن ) , وتعطي العمليات الإرهابية التي تنفذ انطباعا بأنها ليست عفوية وإنما بأسلوب مخطط وواضح الأهداف , بأنها ليست عمليات تفجير مفخخات أو عبوات ناسفة فحسب وإنما تدميرا منظما للجسورالاستراتيجية وقطعا لخطوط الإمدادات وعزل القطعات وغيرها من تطبيقات المصطلحات العسكرية التي تنفذ في الميدان بامتياز .
وقد كان لوجود عمليات عسكرية في محيط بغداد ( النباعي , أبو غريب , ديالى , شمال بابل ) ما يفسر بان ( داعش ) ومن يصطف معهم تحت هذا المسمى , يسعون لمحاصرة بغداد اقتصاديا ومضايقة السكان , باعتبار أن التواجد الأمني والعسكري في العاصمة يفوق قدراتهم بكثير ويحول دون دخولهم حتى وان كان بهيئة مجاميع على سبيل الاستعراض , اخذين في الحسبان إن الدولة بضوء المعلومات الاستخبارية ومعاونة (الأصدقاء) تدرك الأهداف المعلنة وغير المعلنة للمجاميع المسلحة في استهدافها لبغداد ويفترض أن لاتقبل بأي تواجد لهم وبأي شكل من الأشكال .
ومن أوجه نوايا الحصار الاقتصادي على بغداد هو انقطاع تمويلها بمواد البناء ( مثلا ), فمنذ أسابيع أصبح ( الجص ) الفلوجي سلعة نادرة و(حصو ) النباعي يشهد ارتفاعا في الأسعار و( رمل) الحبانية يستعاض عنه من مناطق في كربلاء , ولاشك إن تفجير جسر المثنى له مغزى اقتصادي يضاف إلى الأهداف العسكرية , وضمن إحدى فقرات مغزاه هو محاولة قطع الإمدادات الغذائية وغير الغذائية عن سكان العاصمة , والهدف النهائي من محاولة فرض طوقا اقتصاديا على بغداد هو للضغط على الحكومة لإيجاد مخرج مناسب حتى وان انطوى على العديد من ( التنازلات ) .
وقد استطاع الوضع السياسي السائد حاليا من نقل المعركة إلى داخل قبة البرلمان , ومن تداعياته تعذر إقرار الموازنة التي قدمت بوقت متأخر بالأصل , وستكون نتائج إقرارها بالطريقة المقترحة حاليا أصعب من إبقائها بالتداول والمفاوضات , ومن المحتمل أن تنتقل آثار ذلك على قوى العرض والطلب واسعارالسلع والخدمات السارية في الأسواق , ومن المؤكد إن ذلك سيؤثر على سعر صرف الدينار وقيمة العقارات والسلع المعمرة التي تعيش ركودا في الشراء وانخفاضا في الطلب رغم ارتفاع العرض .
وقد يكون من الخطأ التعويل على نتائج الانتخابات القادمة في إيجاد الحلول للمشاكل الحالية , فانتظار نتائجها هدرا للوقت ومن المناسب جدا استثمار كل يوم بل كل ساعة لإيجاد مخرج للازمة بشرط أن يبدأ من أساسها وهي حلول سياسية بامتياز , ومن يفهم الوضع العراقي بشكل دقيق يدرك بان الانتخابات ربما ستزيد من التفريق بدلا من السعي للتوحيد , وبذلك تزداد الحاجة الملحة لتدارك المزيد من التداعيات رحمة بشعبنا الذي لم تضمد جروحه من ويلات حروب النظام البائد والنزف الذي خلفته ويلات الإرهاب .
وقد تكون قضية الضحايا والشهداء والجرحى قضية تتعلق بعوائلهم حسب ما يعتقد محدودي النظرة الإنسانية ولكن ما يتعلق بالاقتصاد قضية تتعدى المفهوم الضيق الذي يهم كل الناس , ومن مستلزمات تخطي المخاطر التي تحدق بالبلد هو أن نتعاون جميعا لتجاوز الأزمة بالطرق الممكنة وبدون تكابر ما دام الوضع لايزال بمتناول اليد ومن الممكن أن لا يتطور إلى رغيف الخبز الذي يتغذى منه اعز الناس , فأما أن نمضي قدما في نحقق ( النصر) إذا كان ذلك ممكنا وإما أن نتحاور مع من يستحق التحاور لأجل قضية اسمها الصالح العام , فالمهم والأكثر أهمية أن يعيش شعبنا آمنا دون أن تتكرر عليه الذكريات المؤلمة في سنوات الحصار, وفي كل الأحوال فان المحاصرة الاقتصادية لبغداد ستبقى خطا احمرا وان استنزفت الدماء.