23 ديسمبر، 2024 5:20 ص

هل تسقط القيّم والتقاليد الأصيلة أمام الإنتِحال والسلوكيات المنحرفة؟

هل تسقط القيّم والتقاليد الأصيلة أمام الإنتِحال والسلوكيات المنحرفة؟

ليس عيباً في أن يكون مجتمعنا العراقي، مجتمع قيّمي، تربي على التقاليد والقيّم المتوارثة والأصيلة، فهذا جزء من ثقافتنا وكينونتنا، فلقد منح التأريخ الحضاري للشخصية العراقية، هذا التلاقح الفريد والمتميز بين قيمتين كبيرتين ومهمتين، هما البداوة والتمدن، أي (الحضارة)، وكان من نتاج هذا التلاقح هو ظهور هذه القيّم والتقاليد، التي رافقت البناء النفسي والإجتماعي للعراقييّن، مثل الكرم والسخاء والإيثار والحميّة والنخوة والشجاعة والغيرة والمروءة… وغيرها من الكثير من الصفات النادرة للإنسان العراقي، وكما يذكر العلامة والمؤرخ الإجتماعي علي الوردي، عن ابن خلدون: إن الإنسان ابن عوائده ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه، ولقد بقيت رواسب الحياة البدوية التي عاشها العراقييّن حقباً من حياتهم، لاصقة في الضمير والوجدان العراقي حتى مع تغييّر الحكام، والحكومات وظروف المعيشة، ومع كل ماتعرض له هذا الشعب من ظروف قاسية، خلال الغزوات والحروب التي كان يتعرض لها العراق باعتباره، النقطة الفاصلة بين امبراطوريتين كبيريتين ومتعاديتين في المذهب والإنتماء الجغرافي، هما الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الفارسية، وكان من يدفع ثمن هذا التناحر والتباغض، الذي كان يقود إلى حروب دموية هو المواطن العراقي، وصل حد أن يأكل الناس لحوم البشر، بسبب المجاعات التي كانوا يتعرضون لها جراء تلك الحروب والحصارات المستمرة، بين جيش هذا الحاكم وذاك، لكن القيّم الأصيلة والتقاليد التي تربى عليها هذا الشعب، بقيت راسخة ولم تهزها الضغوط والمعاناة المتوالية، رغم التأريخ العاصف، لهذا البلد، الذي كان يبلغ أشدّه أبان الغزوات الهمجية، التي مرّت عليه خلال حقب متوالية، مثل غزوات المغول، والعثمانييّن والوهابييّن، لكن ما حدث خلال تسعينيات القرن المنصرم، وما يحدث اليوم في العراق، بعد سقوط النظام في 2003 وبعد هذه الهزّة العنيفة التي تعرض لها المواطن، وبنية المجتمع العراقي، يحاول البعض أن يغلف سلوكياته المشينة والمنحرفة، بغطاء القيّم والتقاليد المعتبرة، ليبرر لنفسه سلوكه المعوّج، أو أن تلك الممارسات قد تلبست لبوس العادات والتقاليد الأصيلة، لتبرز بطريقة وكأنها مشروعة رغم سلبيتها وقباحتها.

ومن هذه السلوكيات التي يحاول البعض ربطها بمنضومة القيّم الرصينة للمجتمع العراقي، هو استغلال القيمة الإعتبارية لنسب الرسول محمد(ص)، من خلال الشخصيات التي تنتمي إلى أسر مشهود لها انتمائها للبيت الهاشمي أو البيت العلوي، حيث حاول البعض استغلال البروز الملفت للنظر لهذه الشريحة في المجتمع العراقي بعد سقوط الصنم، وتبوئها الواجهة في صناعة القرار العراقي وقيادة الغالبية العظمى من أحزابه السياسية والدينية، وكذلك الحضور الجيد والمرحب به داخل المجتمع، لحلحلة المشاكل الإجتماعية التي أصبحت الدولة عاجزة عن حلها، لضعف الدولة وكذلك لغياب القوانين الرادعة، فتحوّل البعض بين ليلة وضحاها، إلى(سادة)، يرتدون العمامة السوداء الشريفة، التي هي عنوان لكل القيّم الأصيلة المستمدة من تراث النبي محمد(ص)، والأئمة الأطهار من أهل البيت(ع)، دون مراعاة لما يترتب على هذا الفعل من إساءة بالغة للرسول محمد(ص)، ولأهل بيت النبوة الكرام، وكذلك ما سيقابله هذا التزييف والإنتحال المخزي للنسب الشريف، فنحن صرنا نرى في كثير من الأماكن التي

تعودنا التواجد فيها مثل (الديوان العشائري)، أو بعض دوائر الدولة، والوزارات والجامعات، إطلالة سيئة لمثل هؤلاء الناس، (المنتَحِلين) لهذه الشخصية المحترمة، والغريب في الأمر أنهم يقومون بإجادة الدور بطريقة محترفة، وأصبحت هذه الشخصية التي كانت نادرة الظهور في المجتمع العراقي، أولاً بسبب وجودها في المكان الطبيعي لها، وهو الحوزات العلمية في النجف وكربلاء، وثانياً للعداء الذي كان يكنّه النظام السابق، وجلاوزته لآل بيت النبوة(ع)، والتضييق على هذه الشريحة من المجتمع العراقي، فكان الكثير من (السادة)، يخشون الظهور بالزي الديني في الأماكن العامة خارج الحوزات العلمية، والمثير للإستهجان أن هؤلاء الناس، ومن دافع المنفعة وعدم المسؤولية صاروا، وكأنهم الواجهة للباطل وأخذوا يدافعون مستقتلين عن القتلة والمعتَدين على الناس، حين ينتدبهم البعض لغرض حل مشاكلهم العشائرية، كما حدث قبل أيام وكنت شاهداً على ماحدث، حيث وقف ثلاثة من هؤلاء وسط الناس وهم يدافعون عن قاتل متهم بقتل شاب بريء وبالجرم المشهود، وحين رفض أهل الشاب المُعتدى عليه الرضوخ لطلباتهم الباطلة، هددوا بمغادرة المكان وإفشال أي مشروع للحل، هذا نموذج سيء لما تعج به الساحة العراقية اليوم وللأسف، لهذا النوع من الأشخاص الذين جعلوا من القيّم الأصيلة باب للإنتحال والتزوير والكسب غير المشروع، وتغليب الباطل.

النموذج الآخر الذي يحضرني، هو قيام البعض بتقديم أنفسهم وكأن لهم القدرة الجليلة، في الشفاء وفتح باب الرزق والإنجاب، ومن خلال هذا العمل يقومون بإتيان كل أمرٍ معيب ونشاز ومقزز، فيستدرجون السذج من النساء والأطفال، ويضحكون عليهنّ بما لديهم من مهارة في فن الشعوذة، ويفعلون بهنّ ما يشاؤون من رغبات خبيثة وحقيرة، ولقد حدثت الكثير من الحوادث الخطيرة في مجتمعنا، وراح ضحيتها الكثير من النساء اللواتي استدرجن لهذا الطريق بدافع الحماسة والسذاجة، وقبل أيام كنت في أحد الباصات العامة، وكان صبياً صغيراً يجلس قريباً مني، حين طلب منه رجلاً عجوزاً أن يغيّر مكانه ويقترب منه، بحجة أنه – أي الصبي- تبدو عليه علامات المرض، وهو سيقوم بعلاجه فاستجاب له الصبي بلا إرادة، وبدأ هذا الرجل العجوز المتصابي، بتمرير يده على كل أنحاء جسد الصبي، من رأسه وحتى أسفل بطنه وأمام أعيننا، دون أي حياء أو اعتبار، وكان الصبي مستسلماً لحركات العجوز الخبيرة، وحين طلبت منه أن يتوقف لأن ذلك لا يليق به، قال لي: أنه يقوم بعمله( الطبابة) وأن الصبي مريض، وهو يقوم بعلاجه، وحين سألته: إن كان الصبي قد طلب منه ذلك. أجاب: هذا الشيء لايخصك فأنت لاتعرف بالطب. ولم يترك الصبي إلا حين نزل من الباص.

هذا الرجل الذي لم يحترم شيبته، ولا سنه ولا (العقال)، الذي كان يضعه على رأسه، ولا كل من كان يجلس معه، وقام بعمل أقل ما يقال عنه هو، الخِسة والشذوذ، وعلى مرأى من الناس، وهو الآخرمن نفس طينة اولئك (المنتحِلين)، بصفة ( طبيب عرب) كما نسميهم، ويبدو أن رغباته وغرائزه، كانت تلك اللحظة أقوى حتى من العرف، فكيف لو أنه اختلى بأحدهم أو إحداهن من النساء!

هذه نماذج من السلوكيات المنحرفة والطائشة، التي أصبحت تغلف بغطاء المتعارف عليه من القيّم والتقاليد الأصيلة، وهي ظاهرة أخذت تنتشر بسرعة، لتحل محل تلك القيّم التي ظلت سائدة لقرون من الزمن، في المجتمع العراقي، وهي أن لم تحارب وتفضح، فإنها ستزيد من

رقعة انتشارها، وتكون هي البديل الذي سيتحكم بكل سلوكياتنا وأخلاقنا، وتصبح قيّمنا وتقاليدنا في خبر كان.