يواصل المئات من أتباع رجل الدين الشيعيّ عيسى قاسم اعتصامهم للأسبوع الرابع بالقرب من منزله في العاصمة البحرينيّة المنامة، تضامناً معه منذ أن أعلنت وزارة الداخليّة البحرينيّة في 20 حزيران/يونيو الفائت إسقاط الجنسيّة البحرينيّة عن شيخهم عيسى قاسم، الّذي تتّهمه السلطات البحرينيّة بالعمل منذ اكتسابه الجنسيّة البحرينيّة على تأسيس تنظيمات تابعة لمرجعيّة سياسيّة طائفيّة متطرّفة ترتبط بالخارج مثل ايران والعراق والتّحريض على العنف. قاسم متّهم أيضاً بجمع الأموال من دون تصريح، وتهريبها إلى العراق وإيران منذ عام 2009. كما أنّ السلطات البحرينيّة تتحرّى عن مصدر مبلغ 10 ملايين دولار وجدت في حساب مصرفيّ باسمه (في بنك المستقبل)، وعن دور عدد من الجمعيّات الإسلاميّة الّتي يشرف عليها قاسم في عمليّات غير مشروعة مع جهات خارجيّة.
وقد ولد الشيخ عيسى أحمد قاسم في 1937، لأبوين من اصل فارسي حيث سكن في قرية الدراز شمال غرب البحرين، كان والده يمتهن الصيد (بحّار) مثل غالبة سكان البحرين والخليج عموماً، ثم توفى والده وهو في سنته الرابعة فنشأ عيسى يتيما، تحت رعاية والدته، وفي 1951 ادخل مدرسة البديع الابتدائية الحكومية في البحرين، وحصل على الثانوية من مدرسة المنامة عام 1958. وفي 1962طلب من السلطات البحرينية الحصول على جواز سفر للتوجه إلى مدينة النجف العراقية المقدسة عند الشيعة لدراسة الفقه الشيعي، وقد منحته دائرة الهجرة البحرينية جواز بحريني رقم 1879، وهنا يقع الخلاف حيث يقول مناصروه انه كان يحمل الجنسية قبل استخراج جواز السفر، بينما يقول خصومه من في الحكومة والاعلام أنه حصل على الجواز في نفس الفترة التي حصل فيها على الجنسية في7 أبريل 1962 بموجب قانون الجنسية الصادر في 1937 ، ثم سافر الى العراق مع عائلته المضافة معه في نفس جواز السفر.
وكان قاسم قد ردّ على قرار سحب الجنسيّة، بقوله أنّ التشكيك في جنسيّته افتراء وتجنّ، لأنّه مغضوب عليه من الحكومة البحرينيّة، وقال: إنّ عائلته “المصلّي” متجذّرة في البحرين واضطرّت للهجرة قديماً إلى الخارج بسبب ما لاقته من اضطّهاد سياسيّ في البحرين. والحقيقة أن قاسم لم يكن مغضوبا عليه قبل ممارسته للتحريض والعنف ضد قوات الأمن البحريني ويصفهم بالمرتزقة في 2014 ، وقد زاره ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة في المستشفى عندما كان مريضا وقبل رأسه في ديسمبر 2009 . ولا دليل على وجود اضطهاد او تمييز في تلك الفترة التي اشار اليها. بل كان السنة والشيعة مختلطين فيما بينهم ولم تكن مشكلة الطائفية مثارة حينها.
ولم تنجح السلطات الأمنيّة البحرينيّة من خلال تحذيراتها الّتي وجّهتها إلى المواطنين الشيعة بعدم الاستجابة إلى الدعوات التحريضيّة وتعطيل الحركة المروريّة، في منع العشرات من أتباعه الشيعة من الخروج في مسيرات ضدّ قرار الحكومة، واندلاع مواجهات بين الشرطة البحرينيّة وشباب شيعة قاموا بإلقاء زجاجات مولوتوف على سيّارات الأمن البحرينيّ في 22 حزيران/يونيو الفائت.
وفي 23 حزيران/يونيو الفائت، أعلنت السلطات البحرينيّة عن إسقاط الجنسيّة البحرينيّة عن13 من ضمن 24 مواطناً سنيّاً حكم عليهم بالمؤبّد بتهمة الانتماء إلى تنظيم الدولة، في محاولة على ما يبدو لتأكيد الطابع الأمنيّ لقرارات سحب الجنسيّة ونفي أيّ دوافع طائفيّة، إلاّ أنّ الإعلام الدوليّ كقناة “الحرّة” الأميركيّة و”بي.بي.سي” البريطانيّة وقناة24 الفرنسيّة ظلّ مهتمّاً بخبر سحب جنسيّة الشيعيّ قاسم، ولم يلتفت إلى قرار سحب جنسيّة
13 بحرينيّاً سنيّاً بالقدر الّذي يستحقّه الخبر، أو كما أرادته السلطات البحرينيّة، رغم اتّهامها لهم بالإرهاب والانتماء إلى تنظيم الدولة.
إنّ إيران المصنّفة أنّها من أبرز دول العالم في انتهاك حقوق الإنسان والتمييز ضدّ الأقليّات، خصوصاً السنّة وتنفيذ أحكام الإعدام بحسب التقرير السنويّ لمنظّمة العفو الدوليّة لعام 2015/2016، تعتبر أنّ مجرّد إسقاط جنسيّة رجل دين شيعيّ يتعارض مع العهود والمواثيق الدوليّة، كما ذكر رئيس لجنة الأمن القوميّ والسياسة الخارجيّة في مجلس الشورى الإيرانيّ علاء الدين بروجردي في 21 حزيران/ يونيو الفائت.
ويبدو أنّ قرار الحكومة البحرينيّة ضدّ قاسم كان مفاجئاً وصادماً للمسؤولين الإيرانيّين على مختلف مستوياتهم الدينيّة والسياسيّة، ممّا أثار غضبهم، وفي مقدّمهم المرشد الإيرانيّ علي خامنئي الّذي وصف حكومة آل خليفة في 25 حزيران/يونيو بأنّها حكومة جائرة لأقليّة مستكبرة أنانيّة على الأكثريّة الواسعة. ووصف القرار أيضاً بأنّه ينم عن حماقة وبلاهة. كما حذّر الحرس الثوريّ الإيرانيّ نظام آل خليفة من أنّه سيلقى المصير نفسه للأنظمة الديكتاتوريّة المقبورة في بقيّة البلدان الإسلاميّة.
ورغم التدخّلات المستمرّة للمسؤولين الإيرانيّين في الشأن الداخليّ البحرينيّ وحديثهم الدائم عن حقوق الشيعة في البحرين، ومنهم وزير الخارجيّة الإيرانيّ جواد ظريف، الّذي قال خلال لقائه بأعضاء لجنة السياسة الخارجيّة والدفاع والقوّات المسلّحة في مجلس الشيوخ الفرنسيّ بعد يومين من قرار السلطات البحرينيّة إسقاط جنسيّتها عن المعارض الشيعيّ قاسم: بلادي لا يمكن أن تقبل بالمساس بحقوق الشعب البحرينيّ من قبل مجموعة” في إشارة إلى آل خليفة، إلاّ أنّ المسؤولين الخليجيّين والبحرينيّين، ومنهم وزير الخارجيّة البحرينيّ خالد بن أحمد آل خليفة الّذي اكتفى بوصف إيران بجمهوريّة الشرّ في حسابه على “تويتر” في 22 حزيران/يونيو الفائت، عادة ما يتجنّبون الحديث عن حقوق السنّة في إيران الّتي أعدم فيها ستّة من النشطاء السنّة في مارس/آذار من عام 2015، بينما ينتظر 27 سنيّاً آخر تنفيذ الإعدام خلال الأسابيع المقبلة.
إنّ أهميّة “آية الله” قاسم بالنّسبة إلى إيران ليست في كونه رجل دين فقط، بل لما يملكه من تأثير وزعامة روحيّة في البحرين، وكونه قائداً شعبيّاً يتبعه آلاف المواطنين الشيعة البحرينيّين، الّذين قد تحتاج إليهم إيران مستقبلاً في أيّ تحرك ميدانيّ ضدّ حكم آل خليفة، إضافة إلى كونه وكيلاً شرعيّاً “وسيطاً ماليّاً” يعتمد عليه عدد من المراجع الفقهيّة ممّن يحمل صفة “آية الله العظمى” مثل المرجع محمّد سعيد الحكيم في العراق ومرشد الثورة في إيران المرجع علي خامنئي في جمع “الخمس” نيابة عنه من المقلّدين الشيعة سواء أكانوا تجّاراً أم موظّفين أم عمّالاً، ممّن يدفعون 20 في المئة من دخلهم وأرباحهم الماليّة إلى الوكيل المحليّ قاسم، الّذي يتولّى إرسالها إلى المرجعيّات في الخارج. يعلم الإيرانيّون أنّ نفوذهم في البحرين هو المستهدف من قرار إسقاط جنسيّة قاسم، ويتّهمون السعوديّة بتحريض حكومة البحرين ضدّ مواطنيها الشيعة. كما يشعر الإيرانيّون بقلق بالغ من احتمال فقدانهم لوكيل آخر بعد إعدام المملكة العربيّة السعوديّة نمر النمر في كانون الثاني/يناير من عام 2016، وبدء حملة محاكمات ضدّ وكلاء “الخمس” في شرق السعوديّة.
وفي الوقت الّذي لا تملك فيه طهران أيّ خيارات فعّالة لحماية مصالحها وأتباعها في مجلس التّعاون الخليجيّ سوى إطلاق بعض التصريحات والتهديدات الإعلاميّة، وربّما التخطيط لبعض عمليّات الإرهاب مثل تفجير العكر الذي وقع في الثاني من يوليو الحالي، أو التحريض على تنظيم مظاهرات وشغب لم تفلح سابقاً في منع قيام السعوديّة بإعدام النمر، فإنّ المنامة، كما يبدو، تسير خلف الرياض بجرأة لتنفيذ المزيد من الإجراءات لتخليص نفسها من النفوذ الإيرانيّ. إلا أنه وفي ظلّ استمرار بقاء قاسم في البحرين واستمرار اعتصام المتضامنين الشيعة
حول منزله وغياب أي صوت أو فعل سني قوي مواجه للأصوات والتحركات الشيعية المعارضة في البحرين، لا يمكن التنبؤ بمدى نجاح البحرين الصغيرة بحجمها وإمكاناتها العسكرية والأمنيّة في تحجيم النفوذ الإيرانيّ داخلها.