حالة من الغموض تسيطر على مستقبل الاتفاق النووي الإيراني بين الولايات المتحدة وطهران من جهة والدول الأوروبية من جهة أخرى، وذلك بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني في 8 مايو 2018، وبموجب الاتفاق النووي الموقع بين دول (5+1) وإيران في عام 2015، تم رفع العقوبات المفروضة على إيران مقابل توقف إيران عن أنشطتها النووية.
لكن الانسحاب الأحادي من جانب الولايات المتحدة يعيد من جديد إعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران، في ظل قلق أوروبي معارض للانسحاب الأمريكي، في حين أن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو قد أعلن مؤخرًا عن قائمة من اثني عشر مطلبًا كشرط لإبرام اتفاق نووي جديد مع إيران، وأن الولايات المتحدة ستسعى لإجبار إيران على الإذعان لضغوطها؛ حيث تمثل المطالب بمثابة إعلان حربٍ اقتصادية على إيران، كما تضمنت شروط بومبيو سحب طهران جميع قواتها من سوريا والتوقف عن دعم الحوثيين في اليمن، إضافة إلى منح الوكالة الدولية للطاقة الذرية تفصيلًا كاملًا لبرنامجها السابق للأسلحة النووية، وأن تتخلى عن مثل هذا العمل إلى الأبد وإنهاء “سلوكها التهديدي” تجاه جيرانها، ومن ذلك “تهديداتها بتدمير إسرائيل، وإطلاقها الصواريخ على السعودية والإمارات، إطلاق سراح جميع المواطنين الأمريكيين، ومواطني شركاء الولايات المتحدة في التحالف، المحتجزين بتهم زائفة، والمفقودين في إيران.
كل هذه الإجراءات الأحادية دفعت إلى التساؤل حول ما يمكن لإيران أن تفعله في مواجهة العقوبات الأمريكية من جانب، وفرص التقارب الأوروبي – الإيراني من جانب آخر في مواجهة العقوبات الأمريكية؟
العقوبات الأمريكية على إيران
منذ حملته لانتخابات الرئاسة، دأب ترامب على توجيه انتقادات لاذعة للاتفاق، كما هدد بفرض عقوبات اقتصادية على الشركات التي تقوم بأنشطة مع كل من واشنطن وطهران، وفي تصريح من الرئيس الأمريكي أعلن نقده للاتفاق النووي قائلًا: “من الواضح أننا لن نستطيع منع إيران من تصنيع قنبلة نووية بهذا الاتفاق ذو البنية الضعيفة”. وتوعد الرئيس الأمريكي بفرض عقوبات اقتصادية على أعلى مستوى على إيران، وهدد الدول التي تدعم مشروع طهران النووي بنفس العقوبات من قبل أمريكا.
وعلى خلاف الاتفاق الموقع بين إيران والدول الست الكبرى، قامت الولايات المتحدة بفرض عقوبات جديدة عوضًا عن العقوبات التي كانت قد فرضتها عليها قبل إبرام الاتفاق النووي في عام 2015، وشملت العقوبات الأمريكية فرض العديد من القيود على التجارة في الذهب والعديد من المعادن، بجانب قيود على الطيران وصناعة السيارات، كما ستتضمن العقوبات إجراءات تتعلق بالمؤسسات المالية والنفطية الإيرانية، تُفعل العقوبات على الأفراد الذين كانوا على قائمة عقوبات الخزانة الأمريكية قبل الاتفاق النووي.
وستودي العقوبات دورًا كبيرًا في حصار إيران، إلا أن هذه العقوبات لن تلقى نفس التأثير السابق لها خاصة في ظل المعارضة الأوروبية للانسحاب الأمريكي، وعلى الرغم من كون إيران أكبر منتجي النفط في العالم إلا أن هذه العقوبات قد تساهم في فرض قيود على الشركات المستوردة للنفط الإيراني حال رفضها أو فشلها في إنهاء تعاملاتها مع إيران.
وستطال العقوبات شركات النفط الأوروبية على وجه الخصوص، فمثلا وقعت شركة توتال الفرنسية عقدا بقيمة خمسة مليارات دولار مع إيران بعد الاتفاق النووي. كذلك لدى شركة بريتش بتروليم شراكة مع الشركة الحكومية الإيرانية للتنقيب في حقل روم الإيراني للغاز، وهو ما سيدفع الدول الأوروبية للمواجهة الحتمية مع الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بهذه العقوبات.
إن العقوبات على البنك المركزي الإيراني ستعود إلى ما كانت عليه قبل إجراء الاتفاق، ما سيؤثر على جميع الدول التي تشترى النفط من إيران، وهى الصادرات الرئيسية للبلاد، كما ستعمل على التفاعل مع الاقتصاد الأمريكي. بما يشكل ضغطًا ماليًا غير مسبوق على النظام الإيراني، وهذه العقوبات تمنع بشكل شبه كامل ممارسة أنشطة تجارية مع إيران.
وعلى ذلك، تواجه إيران من جديد حملة أمريكية مركزة تستهدف تهذيب سلوكها في المنطقة، وإعادة صياغة أدوارها إقليميًا ودوليًا، ما يجعل إيران أمام خيارات صعبة وضيقة بين المواجهة بالمثل، أو التعاطي الإيجابي مع الإرادة الأمريكية، خاصة بعدما شكل الانسحاب الأمريكي تقويضًا لدور الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لأنها تضرب بعرض الحائط للجهود التي قامت بها من اجل العمل على تنفيذ الاتفاق الدولي، كما كانت انتهاكًا صارخًا لقرارات مجلس الامن الدولي، الذي صادق على الاتفاق النووي.
المواجهة الإيرانية
على الجانب الإيراني حدد المرشد الأعلى لإيران “علي خامنئي” العديد من الإجراءات التي من شأنها تخفيف حدة العقوبات عليه، خاصة في ظل تعارض التوجهات الأمريكية والأوروبية تجاه الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي، وأعلن الرئيس الإيراني حسن روحاني، كرد علي نظيره الأمريكي دونالد ترامب حول الانسحاب من الاتفاق النووي، أنه متمسك بالاتفاق مع الدول الأخرى، وهو الأمر الذي يخشاه ترامب، خاصة في ظل التقارب الإيراني الأوروبي في هذا الملف.
وعلى خلفية هذه التصريحات الأمريكية وضع خامنئي العديد من الخطوط الأساسية المتعلقة بمستقبل الاتفاق الأوروبي الإيراني أهمها:
1) على القوى الأوروبية حماية مبيعات النفط الإيرانية من العقوبات الأمريكية، ومواصلة شراء الخام الإيراني
يجب على البنوك الأوروبية حماية التجارة مع إيران، خاصة وأن البنوك الدولية والبيوت المالية الرئيسية لن تكون حريصة على القيام بأعمال تجارية مع إيران بفعل عمل أمريكي عقابي محتمل معلق عليها.
2) ينبغي أن تتعهد بريطانيا وفرنسا وألمانيا بعدم الموافقة على المطالب الأمريكية بالتفاوض حول برنامج إيران للصواريخ الباليستية، وأنشطتها الإقليمية.
وقال خامنئي أن إيران ستستأنف أنشطة تخصيب اليورانيوم إذا لم تستجب الدول الثلاث لهذه المطالب كما شدد على أن إيران لم يعد من الممكن أن تقوم بأي تعاملات مع الولايات المتحدة، قائلا “الجمهورية الإسلامية لا يمكنها التعامل مع حكومة تقوم بسهولة بانتهاك معاهدة دولية، وسحب توقيعها والتباهي على نحو مسرحي بانسحابها عبر التلفزيون.
كما أكد “علي أكبر ولايتي” على ضرورة أن تحافظ بلاده على قدراتها الصاروخية وقوتها الإقليمية، مضيفًا أن”علينا أن نعمل على تعزيز قدراتنا النووية في المجالات التي لا قيود عليها، وأن نواصل المفاوضات وفقا للشروط التي حددها قائد الثورة (علي خامنئي)، وعلى الأوروبيين أن يقدموا الضمانات بشراء نفطنا وإزالة المشكلات المصرفية”.
الجدير بالذكر، أن إيران وافقت بموجب “خطة العمل الشاملة المشتركة” في 2015، على الحد من حجم مخزونها من اليورانيوم المخصب، المستخدم لصنع وقود المفاعلات النووية وكذلك صنع الأسلحة النووية، لمدة 15 عامًا، وخفض عدد أجهزة الطرد المركزي لمدة 10 سنوات، كما وافقت على تعديل منشأة لإنتاج المياه الثقيلة حتى لا تتمكن من إنتاج البلوتونيوم المناسب لصنع قنبلة.
سيناريوهات بديلة
بعدما حددت الدول الأوروبية موقفها من الاتفاق النووي وأنها ستواصل دعمه وأنها لم تتبع الموقف الأمريكي وتنسحب من الاتفاق بدورها، لكي تكون إيران بعدها حرة التصرف، وعلى ذلك ارتبطت التحركات الإيرانية بالتوازي مع التحركات الأوروبية إلا أن المواقف الأمريكية من التصعيد تجاه دول الاتحاد الأوروبي قد يدفع إيران للعديد من السيناريوهات خاصة بعد أن أعلن الرئيس الإيراني حسن روحاني بقاء بلاده بالاتفاق النووي دون الولايات المتحدة، شريطة أن تتأكد ايران خلال أسابيع أنها ستحصل على امتيازات الاتفاق كاملة، بضمان باقي أطراف الاتفاق.
السيناريو الأول: يمكن لإيران من خلال الشركاء الأوروبيون تخطي هذه العقوبات في حال استمرار الموقف الأوروبي المناهض لقرار ترامب المتعلق بالانسحاب من الاتفاق النووي، في ظل تصريحات الإدارة الأمريكية بأنه قد توجد استثناءات بخصوص بعض الشركات التي تستفيد من المعاملات مع إيران، في حين قد يفعل الاتحاد الأوروبي تشريعًا مضادًا لمواجهة العقوبات الأمريكية والذي من شأنه تعطيل العمل بقرارات الإدارة الأمريكية، وذلك بعد تصريح “ميغيل أرياس كانتي”، مفوض شؤون الطاقة والمناخ في الاتحاد الأوروبي، “سنحاول من جانبنا تعزيز تدفقات التجارة التي كانت ايجابية للغاية بالنسبة للاقتصاد الإيراني”. هذه السياسة من شأنها تعقيد مساعي أمريكا في فرض عقوبات اقتصادية وتجارية ضد ايران، وذلك لعدم اقتناع العالم بذرائع أمريكا من وراء فرض تلك العقوبات.
السيناريو الثاني: قد تستأنف إيران تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة إذا ما فشل الاتحاد الأوروبي في الحفاظ على الاتفاق معها، وهو ما يمثل بمثابة ضغط عسكري على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الإقليميين وخاصة إسرائيل، وهو ما يشكل بداية صفحة جديدة في استمرار إيران في مزاولة نشاطها التوغلي في المنطقة بل والتصعيد العسكري الذي قد يمتد إلى حرب شاملة في المنطقة.
إجمالًا: بالرغم من تعامل إيران بدبلوماسية هادئة مع قرار الانسحاب الأمريكي إلا أن التحركات الإيرانية لتفادي تلك العقوبات مرهونة بالأساس بالحليف الأوروبي ومدى قدرته على الاستمرار في دعم الاقتصاد الإيراني، حيث أن سير أوروبا وراء الإدارة الأمريكية قد يدفع إيران إلى التخلي عن استراتيجيتها الهادفة إلى محاولة تنفيذ القرارات الدولية، لسلوك آخر قد يدفع إلى العديد من التبعات السلبية على المنطقة برمتها.