23 ديسمبر، 2024 10:51 ص

هل تحكم الصين العالم ؟

هل تحكم الصين العالم ؟

الصين أقدم الحضارات القديمة في العالم، يبلغ عدد سكانها ألف وثلاثة مائة مليون نسمة، ما يعادل 20 في المائة من سكان العالم، غنية بطبيعتها الساحرة وجبالها العالية، وتضاريسها المتنوعة وثرواتها المعدنية ، موقعها في شرق آسيا، حدودها برية وبحرية، وتاريخها ملئ بالصراعات بين سلالات مختلفة، سلالة تشو، وتشين وسلالة هان، من أبرز الحكماء والمصلحين فيها سون تشي وتشوانغ تسي، وكونفوشيوس الذي عد فيلسوف الصين الكبير، فلسفته قائمة بالأساس على تلقين الناس نماذج السلوك الأخلاقي والاجتماعي، ونماذج الفعل الصادق في التضحية والالتزام بتقاليد بنيت على الترابط والاحترام، يعلم الناس الاستقامة في الحياة والصدق ،وعدم الانحراف عن العدالة، وحسن التصرف وتدبير الأمور بحكمة، فلا يحتاج فيه الحاكم إلى طاعة الشعب، بل هناك إذعان تام ومعمم من قبل شعب يعشق الحكمة والاستقامة. ويميل الصينيون الآن في العودة إلى تعاليمه في النهضة والتقدم، وإعادة الاعتبار للإنسان بعيدا عن صرامة الشيوعية وبعدها عن روح التقاليد الأصلية للشعب الصيني الضاربة جذورها في التاريخ . فالصين التي يكثر عنها الحديث اليوم في غمار فيروس كورونا باعتبارها منبع المرض، هي القوة التي يتنبأ لها المحللون في الشأن السياسي والاقتصادي وفي الدراسات الإستراتيجية في المستقبل القريب والبعيد اقتصاديا وسياسيا، ويمكن أن تصبح قوة بديلة للولايات المتحدة وللغرب عموما، وبالتالي ينتقل الثقل ومركز القوة من الغرب إلى الشرق حسب قراءة الخبراء في الدراسات الإستراتيجية في دورة حضارية جديد عندما تشرق الحضارة من جديد وتعود كما كانت في الحضارات الشرقية سابقا .
الصين قوة ناعمة تحكم العالم
كتب جاك مارتن عن نهاية الهيمنة الأمريكية وصعود الصين كقوة اقتصادية عالمية في 2027 في كتاب”حينما تحكم الصين العالم”، في مضمون الكتاب صعود الصين للصدارة في فترة قصيرة والسبب واضح في مؤشرات الصعود من الناحية الاقتصادية، نمو قدرات الصين العسكرية واكتساح العالم بالتجارة والمنتجات الصينية، ستلتحق بالولايات المتحدة بناء على بيانات ومعطيات مادية واضحة في التنمية، والاستثمار في الرأسمال البشري، والناتج الإجمالي من نصيبها في التجارة الدولية ومعدلات النمو، وتتمكن الصين من الريادة بحلول 2050 ، وسيبلغ دخل الفرد في الصين نسبة 8% وإذا استمر بنفس الوتيرة حتى حدود 2021 فيصل إلى نفس النسبة في الولايات المتحدة الأمريكية، ناهيك عن قوة النمو في كل المجالات، ويقف الكاتب عند مرحلة أساسية من التغير في الحزب السياسي الشيوعي بعد مرحلة ماوتسي تونغ ، 1949-1976 – وصعود دنغ شيا وبينغ للسلطة في 1978، تدخلت الرؤية السياسية بضرورة الانفتاح على العالم الرأسمالي وسياسة الرغبة في التعلم من تجارب الآخر، وتعزيز هيبة الصين في قدرتها على الإنتاج والابتكار في كل الصناعات، بما في ذلك صناعة السيارات والصناعة العسكرية، واكتساب الخبرة والعلم في مجال الطب ومحاربة الأوبئة، والريادة في الأعمال والهندسة المعمارية وبناء الطرق والأنفاق، والتخطيط في غزو الفضاء، وبناء السفن والغواصات النووية .
مشكلة الصين الأساسية في الموارد الطبيعية، لذلك وضعت الحكومة الصينية إستراتيجية بعيدة المدى في التعاون الدولي . اتضحت رغبة الصين في إقامة علاقات مع الكل، إستراتيجية الانفتاح بعد ما كانت الصين منغلقة، وكانت أبوابها موصدة أو على الأقل صنعت من سياسة الاحتراز جدارا سميكا حتى تحافظ على ثقافتها وتقاليدها ، وبقيت الصين صامدة بفضل حكمائها والسلالات التي حكمتها، لم تكن دولة استعمارية، ولم تركب أمواج البحر في الغزو والاستعمار ، كانت نائمة كما قال نابليون وعندما استفاقت الصين حققت المعجزة في التنمية والتقدم على جميع الأصعدة ، تريد استلهام الحكمة من ماضيها، وتسويق صورتها من خلال هيمنتها النقدية في أسواق النقد الأجنبي من احتياطي العملات الأخرى وخصوصا الدولار ، يقظة التنين في مجال الصناعة الثقيلة، وفي مجال الالكترونيات ، قوة دبلوماسية في التقرب من البلدان في العالم، وإنشاء وحدة جمركية ومنظمات للتعاون، وحضور قوي في الشرق الأوسط وإفريقيا والمحيط الهادي، تجارة قوية في آسيا والولايات المتحدة الأمريكية، يعني انتشار قوي وتعزيز التوسع الهائل في القدرة على الإنتاج والتصنيع والانفتاح على الاستثمار الأجنبي، وتشجيع السياحة لزيارة الصين في صورتها القديمة بآثارها الخالدة، وصورتها الجديدة في هندسة المدن والمشاريع العملاقة، ما تحتوي عليه من أماكن جذب، كما شيدت الصين بنايات وناطحات سحاب، وحفرت أنفاقا وطرقا ، وشرعت في إعادة إحياء طريق الحرير القديم الذي يربط الصين بدول العالم في نطاق واسع للتجارة العالمية، وتكثر الصين من الإنتاج للأشياء بجودة عالية وأقل، واكتسحت الصناعات المحلية بالنسخ وإعادة طرحها من جديدة بأثمنة قليلة. تقدم نفسها للعالم الآن كقوة اقتصادية منكمشة على ذاتها وتكتفي بنفسها بعيدا عن هيمنة القوى الكبرى، وتريد عرض ثقافتها، ودائما يقال أن الصين بلد مسالم، تعتمد على ذاتها ونصائح حكمائها في القديم، والتزامها بضبط النفس، وعدم الخروج خارج أسوارها، بل لما اشتد الحصار عليها من قبل الأعداء شيدت صور الصين للدفاع، والخروج عن أسوارها يعني نهاية وجودها .
دع الصين تنام وعندما تستيقظ سيرتعش العالم، ظلت الصين منغلقة على ذاتها، ومن داخل حدودها، كان للتجارة والتبادل شأن كبير ومفيد كتجارة العرب معها، وقوافل طريق الحرير ، وطموحها الآن إحياء هذا الطريق بوسائل جديدة ومد جسور الصداقة وتبادل المنافع مع القريب والبعيد، أما الصين في نهاية الحرب العالمية الثانية والاحتلال الياباني فقد تغيرت معالم السياسة بعد موت ما وتسي تونغ ، فكانت القبضة الحديدية في سياسية الحزب الواحد والفرد المطلق عواقب ونتائج بين السلب والإيجاب في الحروب والمجاعة، والاضطهاد والإعدام للخصوم، وبين سياسة النهوض بالاقتصاد والتعليم وإعادة الهيبة للصين كقوة صاعدة ، الحزب الشيوعي الصيني في قيادته للصين واجه مشاكل عدة بين اتهامات للحزب بالتنصل من النظرية الماركسية اللينينية، وبداية الانفتاح على الغرب الرأسمالي، وبين تصفية الأجواء الداخلية في الإصلاح الزراعي والصناعي، وتهيئة الظروف المناسبة لتطبيق سياسة الحزب، وتطبيق الاشتراكية على الطريقة الصينية، وبعد مدة من المغامرات الإصلاحية وقفت الصين مستوية، بالتوسع في التصنيع وتشجيع الصادرات، وتحفيز الاستثمارات الأجنبية، والانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الاستهلاكي، بل العودة بالصين إلى ثقافة القرن السادس قبل الميلاد، وما قبله في التقاليد العريقة وثقافة الانضباط والواجب أي تلك القيم الكونفوشوسية .
عصور الحكمة والقيم التي رسخها حكماء ومنهم كونفوشيوس الذي أكد على أن الوئام الاجتماعي يمكن تحقيقه عن طريق القواعد التي تحكم علاقات الناس في الطبقات المختلفة للمجتمع(1)، بنشر التعاليم خارج نطاق الطبقة الارستقراطية، وذلك يعني تعميم القيم ونشرها في المجتمع حتى يتحقق التماسك بين الكل، وتسود ثقافة الاحترام بين الأب والابن، وبين الكبير والصغير، وبين القائد والشعب . فالصين تحكم العالم من خلال الاقتصاد وقوتها العسكرية والتجارية المتنامية، وتقبع الصين فوق احتياطي من العملة الصعبة، وبالمقابل يعاني اقتصاد أمريكا من مشاكل وعملتها في تراجع، وأكثر من ذلك تحارب أمريكا في جبهات مختلفة، ولها قواعد في أغلب المناطق من العالم، وهي موجودة بفضل أسطولها الحربي وسياسة الدعم والهيمنة والإبقاء على بؤر التوتر . والخوف المتزايد من الصين يحولها إلى قطب عالمي وشريك فعال في الاقتصاد الدولي حتى تعميم الرخاء من دون أن تتحول الصين إلى قوة استعمارية امبريالية تندفع نحو العالم بحثا عن مصالحها على الطريقة الأمريكية، دراسات ومواقف من الصين كقوة صاعدة ستحكم العالم .

الصين قوة مدمرة ومهيمنة
لا يعتقد الناس الآن في العالم أن الصين يمكن أن تتحول إلى قوة مهيمنة ومدمرة، بفضل حاجتها للموارد الطبيعة وتسويق منتجاتها لباقي العالم، دولة صناعية وأكبر كثافة بشرية، وحزبها الشيوعي يناور تحت غطاء تبادل المنافع والمصلحة، حتى أصبحت الصين اكبر دائن للدول الأخرى، وتمتلك من السيولة النقدية ما يسيل لعاب الدول الأخرى في التعامل معها، وأزمة كورونا تركت العالم تحت رحمة المساعدات الصينية في الأجهزة الطبية وخبرة الأطباء والعلماء، وبلغت أرباحها حسب مصادر إعلامية 1.4 مليار دولار من المعدات الطبية ، أربعة مليارات قناع وأكثر من 37 مليون بذلة واقية وأجهزة التنفس. إذا عطس التنين ارتعش العالم، قدرتها على إنهاء الوباء وتقديم العون والإرشاد للدول الأخرى نالت استحسانا من قبل الكل، خبراء أمريكيون يقللون من قدرة الصين ويعتبرون صعودها اقتصاديا وليس سياسيا أو عسكريا.
يظل نظامها شموليا لا يبنى على فلسفة ديمقراطية، بل يمكن القول إنها مزيج من الاشتراكية والرأسمالية، والحزب الشيوعي الصيني اختار الرأسمالية الشمولية بدل الرأسمالية الديمقراطية، وفي خطط الصين الكبرى هناك التزام بالتخطيط العسكري القائم على آراء وفلسفة سون تزو ، وللصين قوة عسكرية تدعو إلى الذهول ، فهي القوة الثالثة في العالم فيما يتعلق بعدد رؤوس الصواريخ النووية بعد الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ، وهي تحتل المرتبة الثانية في عد الغواصات النووية بعد روسيا، بالإضافة إلى ذلك فإنها أطلقت برنامجا طموحا لحاملات الطائرات(2) ، وإذا نشبت الحرب بينها وبين الغرب في بحر الصين الجنوبي أو من خلال تصاعد التوتر التجاري أو سيطرة الصين على تايوان وغيرها من الأسباب، فان الصين تمتلك من القوة ما يجعلها تهدد المحيط الهادي، وتزرع الرعب والأزمة الاقتصادية في العالم، ومن الحكمة والرزانة في القيادة الانجرار للحرب الشاملة، وتكرار أزمات المرحلة السابقة، هناك حذر شديد في التعامل مع القضايا والأزمات، وهناك إدراك للحزب الشيوعي الذي لا يستهدف العالم بتصدير نظام سياسي، بل التقارب بين الصين ودول العالم على أساس تبادل المنافع، وفي توسيع شبكة الطرق، وشبكة العلاقات التجارية مع العالم .
تريد الصين سحب البساط من تحت أمريكا والغرب في المجال الاقتصادي، ومن ثمة تتحول إلى قوة ناعمة، والخوف من تنامي هذه القوة أن تتحول إلى قوة تدميرية لكل الأنظمة الخارجة عن فلك الشيوعية، التضحية ومقاومة الفيروس وامتثال الشعب قائمة، وبناء مستشفى في ظرف وجيز جدا ينم عن قدرة ودهاء في السيطرة على وضع ما، والتزام الناس بقواعد السلوك في الحجر الصحي، والانضباط في قواعد الاستهلاك ترك صورة بطولية في أذهان العالم عن الفرق الشاسع بين أمريكا والصين وحكمة رئيسها، وزاد من احترام هذه الدول المساعدات المادية والمعنوية، وإمداد الدول بالخبراء والأطباء، وبيع الكمامات للعالم والأجهزة الطبية، فلا بديل تطرحه الصين الآن، لا في الشيوعية ولا في الكونفوشوسية، ولا ينطق زعمائها الآن عن برامج الصين المستقبلية وقدرتهم في زعامة العالم ، الصينيون يدعون أنهم من سلالة التنين، ولا يلتزم الصيني بالمعاهدات لأنها ضد سنة الحياة المتغيرة . هنا نخشى أن يكون انطباعنا عن الصين خاطئا وتتحول إلى القوة استعمارية جديدة ، والإمكانية قائمة في الطلب على الموارد الطبيعية، والحاجة لاكتساح العالم في حالة تعرض مصالحها للتهديد في آسيا وإفريقيا، وبالنسبة للعالم الثالث تعتبر الصين المورد للسلع والبضائع المختلفة ويأمل هذا العالم أن تكون الصين ندا وقطبا في مواجهة الهيمنة الأمريكية والحد من تدخلها في سياسة العالم .
هوامش:
هيلدا هوخام ” تاريخ الصين ” ترجمة اشرف محمد كيلاني ، المشروع القومي للترجمة الطبعة الأولى 2002 ص36
انطوان برونيه “جون بول جيشار ” التوجه الصيني نحو الهيمنة العالمية الامبريالية الاقتصادية ” ترجمة عادل عبد العزيز أحمد –المركز القومي للترجمة الطبعة الأولى 2016 ص34