23 ديسمبر، 2024 12:19 ص

هل تحط “طيارة” فيروز من جديد؟

هل تحط “طيارة” فيروز من جديد؟

تحت أشعة الشمس العراقية، وفي يوم عراقي صاخب بالاخبار والاحداث والتقلبات السريعة، هرولت مسرعا نحو احدى سيارات النقل المشهورة لدينا، وهي تابعة للقطاع الخاص المسكين الذي أضحى من ضمن قائمة أبقار العراق الحلوب، ماركة تلك السيارة (كيّه) بالعراقي، وقد انسحب هذا الاسم على كل انواع الباصات الصغيره رغم اختلاف الشركات. صعدتها من بابها الضيق، مقوقعا قامتي لألج بين مقاعدها المتعثرة التي تحاكي ضيق العراقيين وبعثرة أحوالهم في هذه الايام الصعبة. ومن حيث أدري ولاأدري رميت بجثتي على مقعد فارغ، وسط مراشقات وكلمات متقاطعة بين الركاب متذمرين من الحر ومن السائق، حيث كان يرفع صوته بالنداء؛ (نفر واحد) مذ كانت السيارة فارغة حتى امتلأت، ومازال ينادي نفر واحد…
وما إن سارت السيارة، حتى غط الركاب في صمت مطبق، معلنين رضاهم عما وصل اليه الحال، وبعد مسافة ليست طويلة، كسر الصمت رنين هاتف ذكي بنغمته التي كانت واحدة من اغاني فيروز (طيري يا طياره طيري) وتكررت مرات ومرات… لتاخذني معها بانصياع واستسلام بعيدا في خبايا الذاكرة، إلا أنني تعثرت بمحتواها المتناثر المعبأ عشوائيا، باحداث حروب وحصار وجوع واحتلال وديمقراطية مزيفة، خُدعنا بها في أجواء ضبابية. ورحت ابحث عن زمن جميل لايشغله صراخ الامهات، وحزن الاباء وقلق الشباب وخوف الصبية وجوع الاطفال، ولا يعلوه ضجيج الاسلحة، ولا يغطيه دخان المعارك.
بالكاد بدأت اميز بين الركام زمنا واضح المعالم، الى حيث الافاق المفتوحة، ومجاميع البيوتات والازقة المتقابلة والمتداخلة، والحدائق والكسلات وتجمعات الناس الامنة المفعمة بالثقة، وانسابت الى مخيلتي الالعاب الشعبية، وتشاجر الصبية الممزوج بالمزاح والخالي من الضغينه، وترددت تلك الالعاب مجلجلة اسماءها في ذهني وكأنني أسمعها للتو؛ (سبع سيفونات, بلبل حاح, طوبه)…
كانت تتخلل يومنا مواقيت ثابتة، فبعد ان يذهب الاباء الى أعمالهم، والامهات والنساء الى السوق او الى حيث شؤون الدار والعيال، كنا نفر من البيوت كالعصافير حين تنطلق من اعشاشها فجرا، تتباهى بالطيران وترفع اصواتها بزقزقة ذات ضجيج جميل، معلنة بدء نهار جديد، فنجوب الازقة ونلج الدور دون استئذان، فكل الابواب مفتوحة، كان طعامنا واحدا، وملابسنا متشابهة، وحتى دراجاتنا، هي الأخرى كانت تحمل العلامة ذاتها، وقناة التلفاز واحدة أيضا، ومع شحة برامجها إلا أنها كانت تملأ يومنا، ورغم حصتنا القليلة منها، غير أنها كانت مفيدة، فخمس عشرة دقيقة مخصصة لرسومنا المتحركة، يعقبها مباشرة (افتح ياسمسم) لتتناقل معلوماته الصغار والكبار بشغف وبهجة، وللخميس خصوصية حيث موعدنا مع سينما الاطفال. في حين كان للكبار نصيب الأسد، فعدسة الفن ومؤيد البدري وكامل الدباغ وعشر دقائق وتحت موس الحلاق وبنت الحته، فضلا عن الأفلام المصرية والهندية والكاوبوي.
كل هذه المعطيات -مجتمعة- شكلت في تلك المرحلة امورا هامة في حياة الناس اليومية، فبرزت طبقة وسطى تربعت على عرش ديموغرافية مدننا، محافظة على توازن المجتمع، مساهمة في وحدة دعامات أذهان أبنائه، لتضع كل شي في مكانه المناسب الى حد ما. وبقيت ذاكرة المجتمع منمقة غير مبعثرة، من أربعينيات القرن المنصرم حتى بداية الثمانينيات، فالاستقرار الاجتماعي أسهم في انتظام المجتمع معتمدا على الاستقرار الاقتصادي.
وعودا على بدء، واستكمالا لذكرياتنا الجميلة، يظل الطفل المفطوم في دواخلنا معلقا بتلابيب ماضيه، متأملا عودة الأمن والسكينة والطمأنينة الى مفردات يومه، لتستمر فيروز الصباح بتغريدها من 7.35 الى 8.00 صباحا، في المصانع والمعامل والوزارات والدوائر والمؤسسات، وتظل تصدح في سيارات النقل الخاص والعام، وعلى قارعة الطريق: (بدي ارجع طفلة صغيرة على سطح الجيران).