تساؤلات .. هل أصبحت الشعوب العربية قادرة على تقرير مصيرها؟ هل أصبحت الشعوب العربية قادرة على حكم نفسها بنفسها؟ لماذا لا تتعلم الشعوب العربية من أخطائها مع أنها لا تنظر إلا للوراء؟
الرهان .. بعد انتصار الثورة التونسية والثورة المصرية في بداية الربيع العربي راهنت على أن الشعوب العربية أصبحت قادرة على تقرير مصيرها وعلى حكم نفسها بنفسها، لأنه لم تبقى شعوب على الأرض لم تقرر مصيرها، ولم تبقى شعوب على الأرض لا تحكم نفسها بنفسها، سوى الشعوب العربية، وها قد جاء دور الشعوب العربية، واستندت في الرهان على الدور الذي تلعبه وسائل الاتصالات المعاصرة.
للأسف اضطرت للتشكيك في صحة هذا الرهان وطرح هذه التساؤلات عندما أيّد الشعب المصري الانقلاب العسكري، وانتخب الحاكم العسكري. نكسات ثورات الربيع العربي في مصر وليبيا أكدت لي آرائي مجددا: أن الشعوب العربية تنظر إلى الوراء عوضا عن النظر إلى الأمام، وأنها تعيش في الماضي عوضا عن العيش في الحاضر، وأنها لا تفكر بالمستقبل، لأن المستقبل في عالم الغيب، وعلم الغيب أخصه الله لنفسه.
التراث الثقافي .. أمِن الصدفة أن مصدر الفعل في اللغة العربية هو الماضي “كان”، خلافا لأرقى اللغات في العالم الراهن “الإنكليزية، الفرنسية، الألمانية” حيث مصدر الفعل فيها هو الحاضر “أكون”؟ أمِن الصدفة أن المعلقات في الشعر العربي تبدأ بالوقوف على الأطلال والحنين إلى الماضي؟
من جهة أخرى ألم يكن مصير القبائل العربية في صحراء شبه الجزيرة العربية رهينة للماء والكلأ وليس لإرادة تلك القبائل؟ مَن يكون مصيره رهينة لأي شيء كان غير إرادته يبقى مصيره مجهولا في عالم الواقع، وليس في عالم الغيب فقط.
التراث المعرفي .. ألا تعرف الشعوب العربية عن أجدادها أكثر مما تعرف عن نفسها؟ ألا تعرف عن بني قُريظة في يثرب في زمن الرسول أكثر مما تعرف عن بني صهيون في فلسطين في الزمن الحاضر؟ ألا تعرف عن الغزوات في زمن الرسول أكثر مما تعرف عن غزوات بني صهيون عليها في الزمن الحاضر؟ ألا تعرف عن بطولات خالد بن الوليد في اليرموك وبطولات صلاح الدين في حطين أكثر مما تعرف عن بطولات يوسف العظمة في ميسلون وبطولات سعد الدين الشاذلي في سيناء؟ ألا تحفظ من شعر أبو الطيب المتنبي وشعر أبو فراس الحمداني أكثر مما تحفظ من شعر نزار قباني وشعر محمود درويش؟ ألا تستشهد بأقوال ابن تيميه أكثر مما تستشهد بأقوال يوسف القرضاوي؟ ألا تعتز بمحمد علي والي مصر أكثر مما تعتز بجمال عبد الناصر رئيس مصر؟ إذاً في أي عصر تعيش الشعوب العربية؟
وجهة نظر .. أرى أنه من المفروض النظر إلى الماضي للاستفادة من نتائج تجاربه في تجارب الحاضر والمستقبل. لكن العيش في الماضي فكريا والعيش في الحاضر جسديا هو تخلف فكري.
إذا كان اهتمام الشعوب العربية بماضيها أكثر من اهتمامها بحاضرها، لأن ماضيها مجيد بينما حاضرها في الحضيض، فإن لم تهتم بحاضرها أكثر من اهتمامها بماضيها فلن تستطيع إخراج حاضرها من الحضيض، ولن يكون لها مستقبلا حتى في الحضيض. وربما تنقرض وتصبح مضربا للأمثال كأقوام “عاد، وثمود، ولوط”، وتفنى “خير أمة أُخرجت للناس”، ولا يبقى سوى وجه ربك “وشعبه المختار”.
أحاول في هذه المخطوطة ذكر أحداث تاريخية أرى أن الشعوب العربية لم تتعلم منها بشكل كاف، ولم تعتبر منها بشكل كاف. والتعلّم والعبِر التي استخلصها من هذه الأحداث هي من وجهت نظري الخاصة.
فلسطين .. كانت ولازالت القضية الفلسطينية سلّما لمَن يريد الصعود إلى المجد السياسي أو المجد الاجتماعي أو حتى المجد الديني، لدرجة أصبح الحديث عن القضية الفلسطينية يثير مشاعر وأحاسيس الشعوب العربية كالأحاديث الدينية أو أكثر إثارة. استشهد بالقضية الفلسطينية لأنها أبرز حدث للأمة العربية منذ مطلع القرن الماضي، ولأنها معروفة بتفاصيلها الدقيقة لجميع الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. الهدف والغاية من الحديث هو التعلّم والعبِر من هذه المأساة. ولو كانت الشعوب العربية قد تعلّمت واعتبرت من هذه المأساة بشكل كاف لما وصلت إلى ما وصلت إليه من مآس في بقية البلدان.
من جهة أخرى أرى أن القضية الفلسطينية معيار لقضايا الأمة العربية كميزان الحرارة، فتغيّر درجة الحرارة في ميزان الحرارة هو نتيجة لتغيّر درجة الحرارة في الجو، كذلك حل القضية الفلسطينية بشكل عادل لن يكون إلا نتيجة لحل القضايا العربية.
قرار التقسيم (1947) .. أقرت الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة قرارا يقضي بتقسيم فلسطين لثلاثة أجزاء: جزء لليهود، وجزء للعرب، ومدينة القدس منطقة محايدة. كان جزء اليهود في القرار هو نصف مساحة فلسطين، وكان هذا الجزء مؤلفا من جزئيين منفصلين “جزء ساحلي، وجزء داخلي”. وكان جزء العرب في القرار هو النصف الآخر من مساحة فلسطين، وكان هذا الجزء مؤلفا من جزء واحد، وكان محيطا بمدينة القدس من جميع الاتجاهات.
لا شك أنه قرار ظالم للعرب ولا أرى حاجة للحديث عن ظلمه. ومن الطبيعي أن يرفضه جميع العرب ولا أرى حاجة للحديث عن أسباب رفضه. أما ما أرى حاجة للحديث عنه هو “مكاسب العرب”، نعم “مكاسب العرب”، فيما لو نفذوا القرار مقارنة بالوقع الحالي. للتوضيح: لا أقصد بذلك التصويت لصالح القرار وإنما تنفيذ القرار، فتنفيذ القرار بعد صدوره لن يغيّر من صدوره شيئا وإنما يغيّر من الواقع.
واضح من مقارنة مخطط القسيم مع الواقع الحالي للكيان الصهيوني أن “مكاسب العرب” فيما لو نفذوا القرار هي أكثر بكثير من “أحلام العرب” في فلسطين الآن، بعد كل هذه الحروب وبعد كل هذه التضحيات. وهذا إذا تجاهلنا تماما شبه جزيرة سيناء المنقوصة السيادة من مصر، وهضبة الجولان المحتلة من سورية، ومزارع شبعة المحتلة من لبنان.
للتوضيح .. قد يُفهم من الحديث أني أشجع على تنازل العرب عن حقهم الكامل في فلسطين. لو تعلّمت واعتبرت الشعوب العربية من غزو المغول للخلافة العباسية لما كررت نفس الخطأ في فلسطين. أما غزو المغول للخلافة العباسية فكان بعد رفض الخليفة العباسي عرض الصلح الذي عرضه عليه المغول. لو كان الخليفة العباسي حكيما لأعفى الأمة الإسلامية من أسوء حقبة في تاريخها. ولو كان الزعماء العرب حكماء لأعفوا الأمة العربية من ويلات المأساة الفلسطينية. ويُذكر أن أمير غرناطة سلّم إمارة غرناطة مقابل خروجه من غرناطة مع مَن معه من المسلمين سالمين. برأي الخاص: إذا كنت لا تستطيع أخذ حقك كاملا فأقبل بما تعطى منه، حتى تستطيع أخذه كاملا.
تساؤل .. هل كان من بين الزعماء العرب مَن يعتقد أن تنفيذ قرار التقسيم هو لصالح العرب على المدى البعيد؟ تبيّن لاحقا أن بعض المفكرين والعسكريين العرب كانوا على معرفة بقوة اليهود ونفوذهم في العالم مقارنة بقوة العرب ونفوذهم، وأن العالم حليف اليهود وليس حليف العرب. ومن المنطقي أن يكون من الزعماء العرب مَن هو أكثر إطلاعا على خفايا العالم من معرفة هؤلاء المفكرين والعسكريين، وبالتالي ربما كان من الزعماء العرب مَن أعتقد بأن تنفيذ قرار التقسيم هو لصالح العرب على المدى البعيد.
تساؤل .. إذا كان من بين الزعماء العرب مَن أعتقد بأن تنفيذ قرار التقسيم هو لصالح العرب على المدى البعيد فهل كان سيجرؤ على البوح به للشعوب العربية؟ لن يجرؤ على البوح به للشعوب العربية، وسأذكر لاحقا مثالا يؤكد ذلك، لان الشعوب العربية آنذاك كانت تحمل أوهاما وخرافات عن اليهود ما أنزل الله بها من سلطان. وقد لعبت تلك الأوهام والخرافات دورا مضللا في تقدير قوة اليهود ونفوذهم في العالم عقودا من الزمن.
حرب النكبة (1948) .. قرار التقسيم الذي أقرته الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة غير مُلزم بالتطبيق، لذا كانت حرب النكبة ستقوم في فلسطين حتى وإن كان العرب قبلوا بقرار التقسيم، لأن اليهود يريدون الأرض خالية من أهلها العرب، ولن يخرج أهلها العرب من أرضهم طوعا حتى لو كان العرب قبلوا بقرار التقسيم. لهذا كان اليهود يعدون لهذه الحرب منذ سنوات، وكانت الظروف الدولية تساهم في تقويتهم من جهة وإضعاف العرب من جهة أخرى، فخسر العرب الحرب والأرض. استطاع اليهود تحقيق ما يلي. أولا: الاستيلاء على مساحة أكبر من المساحة التي حددها لهم قرار التقسيم. ثانيا: أصبح جزؤهم جزء واحدا. ثالثا: أضحت القدس الغربية جزء من أراضيهم. كانت هذه هي الخسارة الأولى للعرب في فلسطين. ولم تكن هذه الخسارة كافية لنزع الأوهام والخرافات عن اليهود من عقول الشعوب العربية، رغم أن معرفة قوة اليهود ونفوذهم مقارنة بقوة العرب ونفوذهم لم تعد حِكرا على بعض المفكرين والعسكريين العرب بل أصبحت معروفة لدى بعض المثقفين والمتعلمين العرب، ولدى أغلب المشاركين في الحرب.
ضم الأردن الضفة الغربية مع القدس الشرقية إليه، وضمت مصر قطاع غزة إليها. وأصبحت قضية فلسطين هي مجرد قضية لاجئين، وليست قضية قيام دولة فلسطين على هذين الجزئيين من فلسطين. كانت الفترة بين حرب النكبة (1948) وحرب النكسة (1967) فرصة لقيام دولة فلسطين.
سأل معمر القذافي الزعماء العرب في إحدى مؤتمرات القمة فيما معناه: لماذا لم تقيموا دولة فلسطين بين حرب النكبة (1948) وحرب النكسة (1967) خلال مدة تسعة عشر عاما؟ كانت بسمات الزعماء العرب تشير لسر ما على ما يبدو أن معمر القذافي يجهله.
ما استخلصته مما كُشف سره من المرحلة بين حرب النكبة (1948) وحرب النكسة (1967) أن بعض الزعماء العرب كان يتحاشى الصدام مع الكيان الصهيوني “كجمال عبد الناصر – رئيس مصر”، وأن بعض الزعماء العرب كان يبحث عن الصلح مع الكيان الصهيوني “كحسني الزعيم – رئيس سوريا”، وأن بعض الزعماء العرب كان على صداقة مع الكيان الصهيوني “كحسين – ملك الأردن”، ولم يُذكر أن أحدا من الزعماء العرب فكر يوما بالحرب ضد الكيان الصهيوني، ولا حتى بقيام دولة فلسطين، وكان هذا في الخفاء. أما في العلن فكان يؤجج الزعماء العرب الشعوب العربية ضد الكيان الصهيوني لدرجة تصور إلقائه في البحر، وذلك من خلال خطاباتهم الحماسية وشعارات وسائل إعلامهم الغوغائية. صدّقت الشعوب العربية تلك الخطابات وتلك الشعارات، لأنها كانت مُغيّبة تماما عن الواقع منذ قرون من الزمن.
مع أني أرى أن تلك الخطابات وتلك الشعارات كانت تُزيد في إبعاد الشعوب العربية عن الواقع، وكان من الأفضل لا وبل من الوطنية والقومية تقريب الشعوب العربية من الواقع، لكن تفرض عليّ الموضوعية قول الحقيقة وهي أنه لم يكن من الممكن آنذاك تقريب الشعوب العربية من الواقع، وسأذكر مثالا على ما أدعيه.
الحبيب بو رقيبة .. قام الحبيب بو رقيبة “رئيس تونس آنذاك، وأحد الثوار الذين قادوا لتحرير تونس من الاستعمار الفرنسي في العام 1956” بزيارة الضفة الغربية في العام 1965 – خلال فرصة قيام دولة فلسطين -، واقترح على الشعب العربي في مدينة نابلس “أكبر مدن الضفة” القبول بقرار التقسيم لإقامة دولة فلسطين. كان رد الشعب العربي في نابلس على الاقتراح رشق الحبيب بو رقيبة بكل ما كان يمكن رشقه به. أما الشعوب العربية الثورية “كالشعب العربي في مصر وسوريا” فكان حكمها على الحبيب بو رقيبة بخيانة القضية العربية. ولم تدرك الشعوب العربية وطنية وقومية الحبيب بو رقيبة في اقتراحه هذا إلا بعد حرب النكسة (1967).
حرب النكسة (1967) .. كانت الشعوب العربية المشحونة بالخطابات الحماسية والشعارات الغوغائية تطوق ذرعا لساعة الصفر، التي تلقي بها بالكيان الصهيوني في البحر. وبقيت الشعوب العربية مُغيّبة عن الواقع حتى نهاية الحرب، التي استمرت ستة أيام، والتي حُسمت بعد ثلاث ساعات من بدايتها. الخسائر المادية والمعنوية للشعوب العربية نتيجة تلك الحرب تحتاج لمجلدات، ولازالت الشعوب العربية تعاني من نتائجها السلبية حتى الآن، وستنعاني أجيال قادمة من نتائجها السلبية أيضا، حيث لم تعد القضية الفلسطينية هي استعادة أرض فلسطين التي اُغتصبت بحرب النكبة (1948) بل أصبحت القضية الفلسطينية هي استعادة أرض فلسطين التي اُغتصبت بحرب النكسة (1967)، واستجدت قضايا عربية جديدة: القضية المصرية وهي استعادة شبه جزيرة سيناء، والقضية السورية وهي استعادة هضبة الجولان. كان لحرب النكسة نتيجة إيجابية وحيدة وهي إعادة الشعوب العربية إلى الواقع بعد قرون من الزمن. كان اكتشاف الشعوب العربية للواقع صدمة عنيفة أوصلتها لحالة اليأس.
جمال عبد الناصر .. أي حديث عن تلك المرحلة لا يُذكر فيه جمال عبد الناصر هو حديث ناقص. والموضوعية تتطلب ذكر النقاط المضيئة لـه وذكر النقاط المظلمة لـه.
النقاط المضيئة .. تحويل مصر من ملكية لاستعباد الشعب المصري إلى جمهورية بقيادة الشعب المصري بعد حركة 1952. تأميم قناة السويس من الشركات الاستعمارية البريطانية والفرنسية وإعادتها ملكيتها للشعب المصري. وهذا ما جعله زعيما وطنيا. وهذا ما أدى للعدوان الثلاثي “البريطاني والفرنسي والصهيوني” على مصر في العام 1956. كان من نتائج ذلك العدوان على المستوى العالمي ظهور أمريكا وروسيا كقوى عظمى بدلا من بريطانيا وفرنسا. بلورة الهوية العربية التي كانت مشتتة بين الهوية الشرقية، والهوية الإسلامية، والهوية العثمانية-التركية. بلورة فكرة الوحدة العربية، حتى وإن فشلت في أول تجربة لها بين سوريا ومصر. دعم الثورات التحررية العربية ضد الاستعمار من المحيط إلى الخليج “كالجزائر”. وهذا ما جعله زعيما قوميا. أحد الزعماء الثلاثة “تيتو من أوروبا، ونهرو من أسيا، وهو من أفريقيا” الذين أنشؤوا منظمة دول عدم الانحياز، وهي منظمة العالم الثالث لمواجهة الحلف الغربي الرأسمالي والحلف الشرقي الاشتراكي. وهذا ما جعله زعيما عالميا.
النقاط المظلمة .. الحكم الفردي الدكتاتوري. الاعتماد على العسكريين المواليين لـه بدلا من الاعتماد على الاختصاصين في جميع المجالات. الفشل في الخطوات الاقتصادية الاشتراكية “الإصلاح الزراعي والتأميم في المجالات الصناعية والتجارية والمالية”. الفشل في الخطوة السياسية “الوحدة بين سوريا ومصر”. الفشل في تحقيق التقدمية في اليمن. خسارة حرب النكسة. وكانت هذه هي الصدمة الكبرى في حياته.
أسباب ونتائج النكسة .. كانت الآراء والتحليلات لأسباب ونتائج النكسة متباينة بين فئات الشعوب العربية، والفئتان الرئيسيتان للشعوب العربية آنذاك هما “الرجعيون والتقدميون”، حسب تصنيفات ومسميات ذلك العصر.
الرجعيون .. لم يكتم الرجعيون فرحهم بالهزيمة “ليس حبا بالكيان الصهيوني” وإنما تشفّيا بكسر أنف جمال عبد الناصر “رئيس مصر آنذاك”. فقد كان هناك خلاف أيديولوجي بين الرجعيين وجمال عبد الناصر على شكل نظام الحكم في مصر بعد استلامه زمام الحكم، حيث اعترض الرجعيون على نظام الحكم العلماني وعلى الخطوات التقدمية الاشتراكية. لم تكلل تلك الخطوات بالنجاح لاعتماد جمال عبد الناصر على العسكريين المواليين لـه بدلا من الاعتماد على الاختصاصين في تنفيذ تلك الخطوات.
لم يكن من السهل على العامة من الشعب إدراك الخسائر في المجال الاقتصادي نتيجة التنفيذ الخاطئ لتلك الخطوات، بينما كان من السهل عليها إدراك الخسائر في المجال السياسي “فشل الوحدة بين سوريا ومصر”، وإدراك الخسائر في المجال العسكري “خسارة حرب النكسة”.
التقدميون .. كان تحليل التقدميون للنكسة على أنها هزيمة عسكرية لكنها انتصار سياسي. كانت هذه الأيديولوجية غريبة عن الفكر العربي ومرفوضة من الشعوب العربية، لهذا لم تلقى سوى السخرية والاستهزاء وخاصة من الرجعيين. ربما كانت هذه الأيديولوجية مستوحاة من الأيديولوجيات النضالية الشيوعية، وهي مبنية على الفكرة التالية: أن هدف الكيان الصهيوني من تلك الحرب هو القضاء على الأنظمة التقدمية في الدول العربية، وها هي الأنظمة التقدمية في الدول العربية لازالت تقبع جاثية على صدور الشعوب العربية، فهدف الكيان الصهيوني لم يتحقق، وهذا معناه: “انتصار” الأنظمة التقدمية و”هزيمة” الكيان الصهيوني.
كما هو معروف أن هدف الكيان الصهيوني هو إقامة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل، وكانت هذه الحرب هي واحدة من سلسلة حروب قادمة لتحقيق هذا الهدف. فإذا كان هدف الكيان الصهيوني من تلك الحرب هو إسقاط الأنظمة التقدمية في الدول العربية “كما يدعي التقدميون” فلماذا خاض تلك الحرب ضد الأردن أيضا، ذلك البلد ذا النظام الرجعي حكومة، وذا النظام الصديق للكيان الصهيوني ملكا؟ والأردن كان الخاسر الأكبر في تلك الحرب تحديدا.
حرب التحرير أو حرب التحريك (1973) .. كان هدف سوريا من تلك الحرب هو تحرير هضبة الجولان، بينما كان هدف مصر هو فتح قناة السويس، وبالتالي تحريك القضية لتحقيق هذا الهدف. وخلافا لتباين هذين الهدفين بين سوريا ومصر، فلم تعرف الشعوب العربية خلال القرن الماضي تعاضدا وتعاونا كالذي كان خلال حرب (1973). فقد استخدم فيصل “ملك السعودية آنذاك” النفط كسلاح “للمرة الوحيدة في التاريخ” لتهديد أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. وقد دفع هواري بو مدين “رئيس الجزائر آنذاك” مئات الملاين من الدولارات للروس ثمن أسلحة لسوريا ومصر. وشاركت قطعات من معظم الجيوش العربية في الحرب، وأزرت دول اشتراكية “خبراء من روسيا، وطيارون من كوريا الشمالية، وقطعات عسكرية من كوبا” في الحرب معنويا. واستخدمت الجيوش العربية في تلك الحرب أفضل ما كان يمكن أن يُقدّم لها من سلاح آنذاك. وكان لقادة سوريا ومصر قرار بدء الحرب للمرة الوحيدة في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني. فكانت النتائج الإيجابية للحرب: تحطيم المعايير العسكرية العالمية في مجال خطوط الدفاعات الطبيعية، والانتصار عسكريا في الأيام الأولى للحرب، وإخراج الشعوب العربية من اليأس الذي حل عليها نتيجة النكسة. أما النتائج السلبية للحرب فكانت على الجبهة المصرية وصول جيش الكيان الصهيوني إلى بعد مائة وواحد كيلو مترا من القاهرة، وكان الطريق أمامه مفتوحا إلى القاهرة. أما على الجبهة السورية فوصل جيش الكيان الصهيوني إلى بعد خمس وثلاثون كيلو مترا من دمشق، ولولا وصول الجيش العراقي في الوقت المناسب لكان جيش الكيان الصهيوني وصل إلى دمشق.
النتيجة العسكرية الاستراتيجية .. بناءا على الظروف المثالية للشعوب العربية في حرب (1973) التي قد لا تتحقق مرة أخرى، وبناءا على النتائج العسكرية لتلك الحرب “لا نصر ولا هزيمة” حسب التقييم العالمي لتلك الحرب، لا أعتقد أن باستطاعة الجيوش العربية الانتصار على جيش الكيان الصهيوني بالحروب التقليدية في الوقت الراهن، وحتى لو باستطاعة الجيوش العربية الانتصار على جيش الكيان الصهيوني فلن يسمح حلفاء الكيان الصهيوني بتحقيق ذلك. لهذا أعتقد أن الكيان الصهيوني على قناعة أنه لن تكون حرب تقليدية قادمة مع الجيوش العربية، والدليل على ذلك هو بدئه ببناء المستوطنات في الضفة الغربية بعد عام واحد من تلك الحرب – في العام 1974 – وليس بعد عام واحد من حرب النكسة (1967)، رغم اعتقاده آنذاك أن العرب لن يفكروا قط بالحرب ضده بعد هزيمتهم في حرب النكسة. والدليل على ذلك هو أن قادة الكيان الصهيوني لم يصدقوا السر الذي أفشى به حسين “ملك الأردن آنذاك” لهم، بأن سوريا ومصر تعدان العدة لشن حرب ضدهم، وكان ذلك قبل قيام الحرب بأيام.
حرب (1982) .. اجتياح الكيان الصهيوني لبنان في العام 1982 وأخرج منظمة التحرير الفلسطينية منه. لم يبقى أمام المنظمة سوى المفاوضات المباشرة مع الكيان الصهيوني تحت المظلة الأمريكية “الحليفة الكبرى للكيان الصهيوني” والوساطة المصرية “الشقيقة العربية الكبرى للكيان الصهيوني”. وبما أنه ليس لدى المنظمة أية قوة يمكن الاعتماد عليها في المفاوضات أو حتى تطبيق الاتفاقيات، أصبحت إستراتيجية المنظمة: كل ما يمكن الحصول عليه من الكيان الصهيوني هو مكسب للقضية الفلسطينية. حبذا لو كانت هذه إستراتيجية الزعماء العرب أيام قرار التقسيم. ونتيجة مفاوضات واتفاقيات على مدى أكثر من عقدين من الزمن حصل الفلسطينيون على حكم ذاتي في قطاع غزة، وفي المدن الكبرى في الضفة الغربية، وأصبح مقر المنظمة في فلسطين. قدّمت المنظمة أقوى ورقة لديها وهي الاعتراف بالكيان الصهيوني، دون اعتراف الكيان الصهيوني بمجرد حق الفلسطينيين بإنشاء دولة.
حرب (2006) .. نشأ حزب الله في لبنان “بتوجيه ودعم من إيران” بعد اجتياح الكيان الصهيوني للبنان في العام 1982 مباشرة، بهدف تحرير لبنان من الاحتلال الصهيوني، وعندما انسحب الكيان الصهيوني من أجزاء من لبنان، بعد إخراج منظمة التحرير الفلسطينية منه، احتفظ بجنوب لبنان كدرع لحماية المستوطنات في شمال الكيان الصهيوني، وبهذا أصبح هدف حزب الله تحرير جنوب لبنان. وأضحى الجناح العسكري لحزب الله هو البديل الوحيد للجيوش العربية في الوقوف في وجه جيش الكيان الصهيوني، حيث تجمّد الجيش المصري بعد اتفاقية السلام (1978)، ويقوم الجيش العربي السوري “العقائدي” بالقضاء على الوطنين والقوميين والاشتراكيين والتقدميين في لبنان منذ بداية الحرب الأهلية في لبنان (1975)، ولم ينجو من بطشه حتى حزب الله في حداثة عهده.
استطاع حزب الله تحرير جنوب لبنان بعد قرابة عقدين من الزمن (2000)، فانسحب جيش الكيان الصهيوني دون شروط، ويُعتبر هذا الإنجاز نصرا لم تعرفه الدول العربية من قبل، وهزيمة للكيان الصهيوني لم يعرفها من قبل. قام حزب الله بأسر جنود صهاينة لمبادلتهم بأسرى عرب في معتقلات الكيان الصهيوني، كان من نتائج هذا الأسر قيام الكيان الصهيوني باعتداء على لبنان (2006)، كان ضحيته آلاف الأبرياء من الشعب اللبناني ودمار جزء من لبنان. وفوقه إخلاء الشريط الحدودي من لبنان مع الكيان الصهيوني من قوات حزب الله وملئه بقوات لبنانية ودولية لمنع حزب الله من الاقتراب من حدود الكيان الصهيوني وحماية المستوطنات في شمال الكيان الصهيوني. ويكون الكيان الصهيوني بذلك قد حقق هدفه الذي حارب من أجله على مدى قرابة عقدين من الزمن (1982-2000)، وهو حماية المستوطنات في شمال الكيان الصهيوني، والحماية هي بقوات لبنانية ودولية وليست بقوات صهيونية، فلا حرب ولا خسائر ولا إحراج للكيان الصهيوني في احتلالـه جزء من لبنان. تحول حزب الله “بتوجيه ودعم من إيران” إلى تصفية الوطنين والقوميين في لبنان.
يذكّرني تحوّل حزب الله من مقاوم للكيان الصهيوني إلى تصفية الوطنين والقوميين في لبنان بحافظ الأسد “رئيس سوريا السابق”. حيث حارب حافظ الأسد الكيان الصهيوني في حرب (1973)، كذلك فعل حزب الله في حرب (2006)، وهذا لإثبات الهوية الوطنية والقومية فقط من السابق “حافظ الأسد” وكذلك من اللاحق “حزب الله”. ثم تحول السابق من تحرير هضبة الجولان المحتلة في جنوب سوريا إلى القضاء على كل مَن تسول لـه نفسه الاعتراض على سياسته “الحكيمة” في سوريا، والقضاء على كل الوطنين والقوميين والاشتراكيين والتقدميين في لبنان والدول العربية المجاورة من فلسطينيين وأردنيين. كذلك تحول اللاحق من تحرير مزارع شبعة المحتلة في جنوب لبنان إلى تصفية ما لم يقضي عليه السابق من الوطنين والقوميين في لبنان، وإرهاب وقمع الشعب العربي في سوريا، إرهاب وقمع الذين كانوا دعما وسندا لـه في جميع غزوات الكيان الصهيوني على لبنان.
حرب (2008-2009) وحرب (2014) .. هناك وجهات نظر متباينة عن الأسباب والدوافع التي أدت لتشكيل حركة حماس. المعروف أنه في تسعينات القرن الماضي ظهر الجناح العسكري لحركة حماس كرائد للكفاح المسلح في فلسطين. وكما هو معروف أن بعض المجموعات المسلحة من فصائل من منظمة التحرير بقيت تكافح في فلسطين حتى بعد خروج المنظمة من لبنان، وكانت قد ظهرت كتائب مسلحة من تلك الفصائل بعد انتفاضة الأقصى في فلسطين كـ”كتائب الأقصى من منظمة فتح”. وهذا بحد ذاته تحول عظيم في مسار القضية الفلسطينية، فأصبح منطلق الكفاح المسلح من فلسطين ذاتها، وليس من الدول العربية المجاورة لفلسطين. وقد أثبتت الأحداث أن تلك الكتائب المسلحة هي الشوكة الوحيدة المتبقية في عين الكيان الصهيوني. وأعتقد أنه لو كان للعرب كتائب مسلحة كهذه في بداية هجرة اليهود إلى فلسطين لما تجرّأ معظم المهاجرين على الهجرة إلى فلسطين.
وجهة نظر .. بما أنه لا يمكن مقارنة قوة الكتائب المسلحة في فلسطين بقوة جيش الكيان الصهيوني، فمن عدم المسؤولية إعطاء الكيان الصهيوني المبرر لشن الحروب على الشعب الفلسطيني، فبدلا من أن تكون الكتائب المسلحة درعا لحماية المدنين المجردين من السلاح يصبح المدنيون المجردون من السلاح درعا لحماية الكتائب المسلحة. وهذا ما يدفعني للفت الانتباه لنقطتين.
النقطة الأولى .. رغم اعتراف منظمات عالمية بجرائم جيش الكيان الصهيوني في قتل المدنين وخاصة الأطفال بجميع الوسائل المحرّمة دوليا، لكن يبرر الكيان الصهيوني وحلفاؤه تلك الجرائم بأن صواريخ الكتائب المسلحة تطلق باتجاه المستوطنات “التي يسكنها مدنيون”، حتى وإن كانت هذه الصواريخ من ورق. وهذا يُضعف موقف الشعب الفلسطيني والعربي وأصدقائهم والمدافعين عن حقوقهم في المحافل الدولية. إذاً فلتكن تلك الصواريخ باتجاه الأهداف العسكرية فقط، إذا كان لا بد من إطلاقها.
النقطة الثانية .. إذا كان مَن يعتقد أن اقتصاد الكيان الصهيوني سيتأثر من جراء إطلاق الصواريخ فهو واهم، لأن الغرب بعد كل حرب “حيث يعتبرها دفاع الكيان الصهيوني عن نفسه” مجبر على تعويض الكيان الصهيوني عسكريا، ومجبر على زيادة تفوقه تفوقا، ومجبر على تعويضه اقتصاديا. وتبقى الحسرة على مَن يُعيد بناء ما دمره العدوان الأقوى من الزلزال. وأُذكّر بالمثل الشعبي المعروف: مَن بيته من زجاج لا يرشق بيوت الناس بحجارة.
سخرية القدر .. ذكرت أن أيديولوجية التقدميين بعد حرب النكسة (1967) كانت مبنية على الفكرة التالية: أن هدف الكيان الصهيوني من تلك الحرب هو القضاء على الأنظمة التقدمية في الدول العربية، وها هي الأنظمة التقدمية في الدول العربية لازالت تقبع جاثية على صدور الشعوب العربية، فهدف الكيان الصهيوني لم يتحقق، وهذا معناه: “انتصار” الأنظمة التقدمية و”هزيمة” الكيان الصهيوني.
ولسخرية القدر أصبحت هذه الأيديولوجية “التقدمية” أيديولوجية الأحزاب والحركات “الرجعية”. فقد استخدمها حزب الله بعد حرب (2006) على لبنان، وقد استخدمتها حركة حماس بعد حرب (2008-2009) وبعد حرب (2014) على قطاع غزة، وأصبحت هذه الأيديولوجية تحت شعار: “انتصرنا” لأن العدو لم يحقق “أهدافه المعلنة”. ولا أدري ماذا يمكن للعدو تحقيقه أكثر من الجحيم الذي يحّل على شعوبهم في كل حرب من تلك الحروب. وإذا كان هذا هو “الانتصار” فكيف تكون “الهزيمة”؟
تساؤل .. هل تقدّم “الرجعيون” لدرجة تطبيق أيديولوجية “تقدمية” أم تراجعت الأيديولوجية “التقدمية” لتصبح أيديولوجية “رجعية”؟ أيِّ كان موقع هذه الأيديولوجية فلم يبقى للكيان الصهيوني من أهداف سوى إسقاط “الأحزاب والحركات الرجعية”، لأن الأنظمة التقدمية سقطت من تلقاء نفسها، ولم تحتاج لمَن يسقطها.
اليهود في العالم .. يعتقد البعض أن الرأي العام العالمي هو كعمر بن الخطاب يدور في الأزقة ليلا نهارا لمعرفة المظلمين لإنصافهم، ولا يعرفون أن الرأي العام العالمي هو مجرد دُمية بيد اليهود، واليهود متعاطفين مع الصهيونية ومع الكيان الصهيوني. واليهود يملكون مفاتيح الخزائن “المالية، الاقتصادية، السياسية، الإعلامية، العلمية، التكنولوجية، الجاسوسية” في العالم، ومَن لديه شك في ذلك يمكنه البحث عن أعلام هذه المجالات في العالم والتحقق بنفسه من ذلك. سأذكر بعض الأمثلة على قوة اليهود في العالم.
السامية .. مفهوم السامية المنسوب لسام بن نوح هو غير مفهوم السامية عند اليهود في العالم. فحسب مفهوم السامية المنسوب لسام بن نوح يكون العرب أكبر الشعوب السامية، حيث لم يتبقى من الشعوب السامية الأخرى سوى أقلّيات في العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين. وعلى هذا الأساس فإن معاداة العرب – أكبر الشعوب السامية – هو معاداة للسامية. أما مفهوم السامية عند اليهود في العالم فهو أن اليهود هو الشعب السامي الوحيد على الأرض. وروج اليهود لهذا الرأي حتى أصبح سائدا في العالم. وتوجد في معظم الدول الغربية قوانين تحرّم معاداة السامية “معاداة اليهود”. وأصبحت هذه القوانين كقوانين “الحفاظ على وجود وأمن الكيان الصهيوني” تُستخدم لإرهاب وقمع كل من تسوّل لـه نفسه قول كلمة حق في القضية الفلسطينية أو حتى في القضايا العربية. وأصبحت معادة السامية في العالم هي “حتى لا تكون مُعادٍ للسامية يجب أن تكون مُعادٍ للعرب”، فعدم معادة العرب هو بحد ذاته معادة للسامية.
المحرقة .. المحرقة كما هو معروف هي ملاحقة وحرق اليهود من قِبل النازيين خلال حكم النازيين في ألمانيا. وهناك قوانين أشد صرامة من تحريم معاداة السامية “معاداة اليهود” وهي تحرّيم مجرد التشكيك بـ”المعلومات التي حددها اليهود عن المحرقة”، ويتخذ اليهود المحرقة كقميص عثمان لتبرير أي عمل وحشي يقوم به الكيان الصهيوني ضد الأمة العربية.
الدعاية .. بعد كل عمل وحشي يقوم به الكيان الصهيوني ضد الأمة العربية، وتسرب بعض المعلومات للعالم عن وحشية الكيان الصهيوني، يُعرض بعده مباشرة في جميع وسائل الإعلام الغربية فلم وثائقي عن المحرقة. وذلك لتبرير تلك الوحشية. وبعد كل حرب للكيان الصهيوني على الأمة العربية، وتسرب بعض الصور للعالم عن الدمار وقتل المدنيين والأطفال، تخرج مسيرات في العواصم الغربية تأيّدا للكيان الصهيوني، كمسيرة برلين بعد انتهاء الحرب الوحشية على قطاع غزة في العام 2014، وكان من بين المشاركين في هذه المسيرة المستشارة الألمانية، وهذا حدث فريد من نوعه في تاريخ ألمانيا الاتحادية منذ تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية. وذلك لتبرير تلك الحرب الوحشية.
السلطة .. يبدو لي وكأن السلطة غريزة من غرائز الحياة وضرورية لبقاء الحياة. ذلك لأن انهار السلطة في مجتمع ما قد يؤدي لفنائه، وأقصد بالمجتمع هنا هو من الأسرة صِغرا وحتى الإمبراطورية كِبرا. وربما ينطبق ذلك على المجتمعات الحيوانية الراقية، كخلايا النحل على سبيل المثال، فالملكة في خلية النحل هي صاحبة السلطة في الخلية، وموت الملكة يؤدي لفناء الخلية.
حب السلطة .. هناك روايات تاريخية تذكر أن أبناء قد أزاحوا آبائهم عن السلطة، وأن أبناء قد قتلوا آبائهم للحصول على السلطة، وأن اخوة قد قادوا حروبا ضد بعضهم البعض في سبيل السلطة “كالأمين والمأمون أبناء هارون الرشيد في العصر العباسي”. والسمة العامة عند البشر هي التمسك بالسلطة أيّا كان شكل السلطة، ولكن هناك من العظماء مَن خرجوا عن تلك القاعدة وتخلوا طوعا عن السلطة. ولم يذكر لنا التاريخ وجود عظيم من هؤلاء العظماء على مدى العصور السابقة سوى تخلي الحسن بي علي بن أبي طالب عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان. أما في العصر الحديث وتحديدا في منتصف القرن الماضي (1958) فقد تنازل شكري القوتلي عن رآسة سوريا لجمال عبد الناصر “رئيس مصر آنذاك” في سبيل تحقيق الوحدة بين سوريا ومصر. ومن المعروف عن شكري القوتلي أنه أحد الثوار الذين قادوا لتحرير سوريا من الاستعمار الفرنسي في العام 1946، وأنه اُنتخب رئيسا لسوريا، وبذلك يكون أول رئيس لسوريا في تاريخها. وقد أُطيح به بانقلاب عسكري في العام 1949، وبعد عدة انقلابات عسكرية أُعيد انتخابه مرة أخرى رئيسا للجمهورية، والحديث عن حياته الشخصية من حيث البساطة والتواضع يحتاج لبحث خاص. وهناك عظيم آخر هو الشاذلي بن جديد. تسلّم رآسة الجزائر بعد وفاة هواري بو مدين، وبقي في الحكم عقد الثمانينات من القرن الماضي، ثم دعا لأول مرة في تاريخ الجزائر منذ التحرير لانتخابات حرة. جرت الانتخابات بشفافية ولم يفز حزبه فيها فتخلى عن السلطة. ولازال يعيش في الجزائر كمواطن عادي حتى الآن. وربما يكون هناك مَن تخلى عن السلطة طوعا في الوقت الراهن، ولكن لم يعطه الإعلام حقه.
الشرعية .. هناك سلطات تستمد شرعيتها من الطبيعة كـ”الوالدين في الأسرة، والملكة في خلية النحل”. وإذا لم تستمد السلطة شرعيتها من الطبيعة كالحالات السابقة، فتستمد شرعيتها من القوة التي تستند عليها، وذلك على اختلال أشكال تلك القوة، وحتى إن كانت هذه القوة نتيجة انتخابات حرة ديمقراطية. فالمجتمع برأي كأي جسم في الكون تماسكه واستقراه يكونان نتيجة توازن القوى المؤثرة فيه “قوى داخلية وقوى خارجية، قوى مرئية وقوى خفية”، وكل مجتمع هو حالة فريدة في الكون، رغم الخواص المشتركة العديدة بين المجتمعات.
الأحزاب .. الأحزاب السياسية في المجتمعات المتحضرة هي المختبرات التي ينشأ ويتدرب فيها السياسيون، الذين يتبادلون السلطة في مجتمعاتهم، بناءا على خيارات الشعب من خلال دورات انتخابية منتظمة حرة ديمقراطية. وأعضاء الحزب يشكلون مجتمع جزئي مُتميّز من ذلك المجتمع، ممارسة السلطة في هذا المجتمع الجزئي المتميّز هو المثل الأعلى لممارسة السلطة في المجتمع. من جهة أخرى هناك سياسيون مُتميّزون بطبيعتهم “كالملكة في خلية النحل”، وربما يقضون حياتهم دون أن يجف عطاؤهم. ولكن ليس من الضروري أن يكون أبناؤهم سياسيين مُتميّزين بطبيعتهم كآبائهم، فالعبقرية ليست وراثية.
السؤال الآن: ما هو الحزب السياسي من المحيط إلى الخليج “أيّا كانت قوميته، وأيّا كانت ديانته، وأيّا كان مذهبه، وأيّا كان اتجاهه” لم يبقى زعيمه حتى أخذ الله أمانته “حتى وإن لم يكن ذلك الزعيم مُتميّزا بطبيعته كالملكة في خلية النحل”؟ ما هو الحزب السياسي من تلك الأحزاب الذي كان لزعيمه ولدا ولم يستلم زعامة الحزب بعد والده “حتى وإن كان معتوها، وحتى وإن كان أبلها”؟ فإذا كان التسلط هو سمة الحكم في واحات المجتمع “الأحزاب السياسية” فكيف سيكون الحال في بيداء المجتمع “المجتمع برمته”؟
العدالة .. أميّز بين نوعين من العدالة: العدالة القضائية “أدعوها العدالة الصغرى” وتتحقق من خلال تطبيق القانون، والعدالة التشريعية “وأدعوها العدالة الكبرى” وتتحقق من خلال تشريع القانون. وبما أن العدالة التشريعية محنّطة ومجمّدة في معظم المجتمعات العربية فيبقى الحديث عن العدالة القضائية. ورغم اعتقادي أن العدل هو شيء فطري في النفس البشرية لكن السلطة المطلقة قد تغري صاحبها للانجراف إلى الظلم. وقد يصبح الظلم “الشيء المكتسب” هو الغالب على العدل “الشيء الفطري” في نفسية صاحب السلطة، كما هو الحال في نفسيات معظم أصحاب السلطة المطلقة في العالم.
فلسفة للظلم .. هناك مَن يبرر الظلم بالقول التالي: “الظالم سيف الله على الأرض ينتقم به ثم ينتقم منه”. لا أعلم مَن هو صاحب هذه الفلسفة، ولا في أي عصر عاش، لكن من الواضح من فلسفته هذه أنه عاش في عصور الظلم والظلام.
قد ينطبق هذا القول على صدام حسين “رئيس العراق سابقا”، فقد كان سيف الله على الأرض “خلال حكمه للعراق”، وانتقم به بـ”إفناء الألوف المؤلفة من البشر”، ثم انتقم منه بـ”إعدامه خلال الاحتلال الأمريكي للعراق”. لكن لماذا لم ينطبق هذا القول على بقية الزعماء العرب، الذين ليسوا أقل ظلما وإجراما وإبادة من صدام حسين؟ لماذا لم ينطبق هذا القول على ستالين “رئيس الاتحاد السوفيتي سابقا” وهو المثل الأعلى لصدام حسين في الظلم والإجرام والإبادة؟ لماذا لم ينطبق هذا القول على الرؤساء الأمريكيين قادة الظلم والإجرام والإبادة في العالم؟ لماذا لم ينطبق هذا القول على شارون وزعماء صهيون قادة الظلم والإجرام والإبادة للشعوب العربية؟
أعتقد أن إعدام صدام حسين ليس لـه علاقة بتلك الفلسفة إطلاقا، وإنما كان درسا من الكيان الصهيوني لكل مَن تسول لـه نفسه إلقاء حصوة على الكيان الصهيوني، لأن صدام حسين هو أول مَن قذف الكيان الصهيوني بصواريخ “أرض – أرض” ردا على حرب “عاصفة الصحراء” (1991).
المؤامرة .. لعل أكثر مصطلح يُستخدم في السياسة العربية هو مؤامرة، كـ”المؤامرة الخارجية، والمؤامرة الداخلية”، حتى هبط مستوى استخدام هذا المصطلح لمؤامرة الزوج على زوجه. سأعتبر وجود مؤامرات حقا وليست مجرد ادعاءات لتحقيق مآرب أخرى، وما يلفت الانتباه أن اكتشاف المؤامرات الداخلية يكون حتى قبل التخطيط لها، بينما لا تُكتشف المؤامرات الخارجية إلا بعد تنفيذها والإعلان عنها. وأن هناك القدرة على تنفيذ المؤامرات على الأشقاء، بينما العجز عن مجرد التخطيط لمؤامرة على الأعداء. أرى أن هناك سببان لهذه الازدواجية.
السبب التاريخي .. كانت غزوات القبائل العربية في الجاهلية ضد بعضها البعض، وليست ضد الروم أو الفرس أو الأحباش “الشعوب المجاورة للعرب آنذاك”، والشعر الجاهلي حافل بالقصائد الموثقة لتلك الثقافة. وبالتالي الحروب في الثقافة الجاهلية هي حروب داخلية، ولم يعرف العرب في الجاهلية حربا خارجية سوى حرب “ذي قار” مع الفرس. ويُقال أن العرب انتصروا في تلك الحرب واُسعد الرسول عند سماعه الخبر وقال قولا حسنا في العرب، وكان ذلك قبل نزول الوحي على الرسول. ظهرت ثقافة الحروب الخارجية عند العرب مع الفتوحات العربية الإسلامية، إلا أن ثقافة الحروب الداخلية عادت مرة أخرى مع العصر العباسي، وأصبحت الحروب الداخلية منذ ذلك الحين الثقافة الراجحة للحروب العربية.
السبب الحضاري .. لاكتشاف مؤامرة خارجية “قبل تنفيذها والإعلان عنها” تحتاج لشيئين، الأول التجسس لاكتشاف مخطط المؤامرة، والثاني تحليل المخطط بمنطق المُخطّط. أما التجسس لاكتشاف المخطط فيحتاج لأرقى الأدمغة ولآخر ما توصلت إليه العلوم والتكنولوجيا في العالم. وأما تحليل المخطط بمنطق المُخطّط فهي كالتالي: عندما تريد دولة عظمى القيام بمشروع ما في بلد ما تدعو الاختصاصين في دراسة ذلك البلد لتعرف منهم طريقة تفكير أهل ذلك البلد. فتحاول الدولة العظمى الحصول على ما تريده بالطرق السلمية بالتعامل مع ذلك البلد بطريقة تفكيره، ولا تلجئ لاستخدام القوة إلا عندما تفشل الطرق السلمية. وبما أن الدول العربية دول صغرى، وجميع مشاريعها مرتبطة بالدول العظمى، فليس أمامها سوى تعلّم طرق تفكير الدول العظمى، والتعامل معها بطرق تفكيرها وليس بطرق تفكير الدول العربية كـ”الدعاء عليها مثلا”. وهذا بعينه سر نجاح الكيان الصهيوني.
العلوم والتكنولوجيا .. قام عملاء للكيان الصهيوني برش خالد مشعل “رئيس المكتب السياسي لحركة حماس” بمادة طبّية قاتلة غير ظاهرة الأعراض أثناء إقامته في عمان، كاد على أثرها أن يفارق الحياة لو تدخل حسين “ملك الأردن آنذاك” شخصيا والحصول على الترياق من الكيان الصهيوني. وقام عملاء للكيان الصهيوني بتسميم ياسر عرفات “رئيس السلطة الفلسطينية آنذاك” بمواد مشعة سامة عجز الفرنسيون عن اكتشافها، ومن المعلوم أن فرنسا دولة نووية كبرى. ويُقال أن هواري بو مدين “رئيس الجزائر السابق” قد سُمم كياسر عرفات خلال عودته من مؤتمر القمة في دمشق في بداية ثمانينيات القرن الماضي.
أما الأنظمة العربية فبدلا من ملاحقة واغتيال قادة الكيان الصهيوني في الداخل والخارج تُبيد كل من تسول لـه نفسه الاعتراض على حكمها الإلهي الأبدي، وبدلا من أن يكون السلاح الكيمائي للتوازن مع السلاح النووي للكيان الصهيوني أصبح سلاحا بيد الأنظمة العربية لإبادة الشعوب العربية كما حصل في العراق ويحصل في سوريا.
التجسس .. استنادا لأقوال الجنود الأمريكيين الذي شاركوا في حرب “عاصفة الصحراء” (1991): أنهم كانوا يتدربون على تلك الحرب في صحراء “نيفادا” في أمريكا قبل قيام تلك الحرب بأعوام. وهذا معناه: أن استدراج العراق لاجتياح الكويت كان مؤامرة على العراق لتدميره.
السؤال الآن: لماذا لم تكتشف أجهزة الاستخبارات العراقية تلك المؤامرة الخطيرة، التي حددت مصير العراق لعقود من الزمن؟
ومن المعروف عن الاستخبارات العراقية أنها من القوة بحيث أحبطت عشرات المؤامرات “الداخلية والخارجية” لقلب نظام الحكم في العراق قبل الاحتلال الأمريكي للعراق (2003). وقد لا يكون معرفا أن العراق كان من القوة في مجال الاستخبارات بحيث ابتدع نوعا جديدا من الاستخبارات يُعرف بـ”الأمن الوقائي”، تطبيقا للقول: “درهم وقاية خير من قنطار علاج”. وهو اعتقال متهمين بحجة نيّتهم بالتفكير في التخطيط لشيء ما، فالاتهام بالنسبة لهم ليس بـ”الأعمال” وإنما بـ”النيّات”. ومن الجدير بالذكر أنه كان من أولويات السلطة الفلسطينية هو الاستفادة من هذا “الإنجاز العظيم” وإنشاء فرع “الأمن الوقائي” في الضفة الغربية، وفرع “الأمن الوقائي” في قطاع غزة، وذلك ليس للوقاية من الأعداء الصهاينة وإنما لخدمة الكيان الصهيوني، الذي لم يصل بعد إلى هذا المستوى من التفكير. مع العلم أن استخبارات الكيان الصهيوني مخترقة حتى وكالة الاستخبارات الأمريكية.
التفكير بمنطق الآخر .. اعتقدَ العراق (1980) أنه ما أن تقوم الحرب مع إيران وينقطع ضخ النفط العراقي والإيراني في الأسواق العالمية حتى يركع العالم أمام العراق لوقف الحرب، لكن على غير ما توقع العراق زادت السعودية من إنتاجها لتغطية ما تحتاجه الأسواق العالمية، ولم تكتف بذلك بل خفّضت سعر النفط أيضا. فكان ذلك أشبه بحرب من السعودية على العراق في الوقت الذي ينشغل فيه العراق بحربه مع إيران. كان على العراق أن يُفكّر بمنطق السعودية قبل إقدامه على الحرب مع إيران.
واعتقدَ العراق بعد اجتياح الكويت (1990) أن التهديد بحرق آبار النفط في الكويت سيكون الرادع للأمريكيين ضد قيامهم بحرب عليه، وحتى لو قامت حرب عليه فيكون التهديد بحرق آبار النفط في الكويت هو آخر ورقة بيده في الحرب “مع أنه لم يكن يتصور قيام الحرب حتى بعد قيام الحرب”. لكن على غير ما توقع العراق كان من أوليات الأمريكيين في الحرب هو حرق آبار النفط في الكويت، ليكون مصير الكويت بيد شركات الإطفاء الأمريكية، التي تعاقدت معها الحكومة الأمريكية حتى قبل قيام الحرب. كان على العراق أن يُفكّر بمنطق أمريكا قبل إقدامه على اجتياح الكويت.
نصيحة للأنظمة العربية .. لدى الأنظمة العربية مغتربين في معظم بلدان العالم، وأغلبهم في الدول العظمى صاحبة القرار في مصير العالم، وكثير منهم اندمج في الحياة الاجتماعية والاقتصادية وبعضهم حتى في الحياة السياسية، ولا أطلب من الأنظمة العربية أن توظفهم جواسيس لبلدانهم الأصلية – كما يوظّف الكيان الصهيوني اليهود في العالم – بل أطلب من الأنظمة العربية الاستفادة منهم بفهم منطق تفكير تلك البلدان، وليس الاقتصار على استخدام بعضهم كسماسرة لشراء العقارات في تلك البلدان، واستخدام بعضهم كعرابين لتعاطي المحرّمات كـ”المدمنات ومعاشرة العاهرات”. آن الأوان للأنظمة وللشعوب العربية أن تعرف أنه لولا القضية الفلسطينية، ولولا النفط في صحرائهم الجرداء، لكانوا الآن شعوبا وقبائل أسوء حالا من إخوانهم في الربع الخالي من شبه الجزيرة العربية.
الأخلاق .. أرى أن الأخلاق هي الشريعة غير المكتوبة التي تنظّم علاقات البشر فيما بينهم، بغض النظر عن جميع التصنيفات البشرية والإنسانية للبشر. وتقسم الأخلاق لقسمين: الأخلاق الحسنة الفطرية كـ”الصدق والأمانة والإخلاص”، والأخلاق السيئة المكتسبة كـ”الكذب والخيانة والنفاق”. والأخلاق الحسنة هي فطرية ذلك لأن الإنسان – خليفة الله على الأرض – من المفروض أن يحمل صفات الله “الأخلاق الحسنة”، ولا يحمل صفات الشيطان “الأخلاق السيئة”، وإلا عندها يكون الإنسان خليفة الشيطان على الأرض وليس خليفة الله على الأرض. وأعتقد أن الحِفاظ على الأخلاق الحسنة الفطرية ليس ترفا اجتماعيا لمَن استطاع إليه سبيلا بل هو ضرورة اجتماعية للحِفاظ على المجتمع. كما أعتقد أن تفشي الأخلاق السيئة المكتسبة في المجتمع ستقضي على المجتمع عاجلا أم آجلا، كانبعاث الغازات السامية في البيئة ستفني البيئة عاجلا أم آجلا.
كلمة للتاريخ .. من غير المختلف عليه أن الحكم العثماني عزل الشعوب العربية عن النهضة الأوربية الحديثة مما أدى لتخلفها عن العالم حضاريا، لكنه بالمقابل حافظ على وحدتها قرونا من الزمن، ولـه الفضل في حِفاظها على الأخلاق الحسنة، التي كانت تتمتع بها منذ العصر الجاهلي، والتي جاء الرسول لإتمام مكارمها. ومن غير المختلف عليه أن الاستعمار الأوربي قد جزّأ الشعوب العربية ونهب “وينهب” خيراتها، لكنه بالمقابل ربطها بالعالم المتحضر، ولـه الفضل في حِفاظها على الأخلاق الحسنة أيضا.
الأنظمة الهدّامة .. الشيء الحسن الوحيد الذي حافظ علية الحكم العثماني والاستعمار الأوربي في الشعوب العربية هو الأخلاق الحسنة، وللأسف تحاول الأنظمة الهدّامة جاهدة هدم هذا الشيء الحسن بما أعطاها الله من قوة. فنتيجة عوامل عديدة منها: نهب خيرات البلاد من قِبل العصابات المتسلطة على البلاد، سوء التخطيط والتنفيذ لما تبقى من خيرات في البلاد، الهجرة من الريف إلى المدينة نتيجة إهمال السلطة للريف وللبلاد، النمو السكاني الناجم عن عدم الوعي في البلاد، التضخم العالمي والتضخم “السرطاني” في البلاد، دفعت هذه العوامل مجتمعة العباد في البلاد مرغمين للتّخلي عن الأخلاق الحسنة الفطرية وتقبل على مضض الأخلاق السيئة المكتسبة. وهذا الهدم للأخلاق على كُبره يبقى الوابل الأصغر، لأن العباد لازالوا يُميّزون بين الأخلاق الحسنة والأخلاق السيئة “حتى ولو في عقولهم على الأقل”، أما الوابل الأكبر فهو ترويج هذه الثقافة – بتوجيه من الأنظمة الهدّامة – من خلال أعمال بعض المفكرين من الأدباء والفنانين في البلاد.
المفكرون الهدّامون .. توهم أعمال بعض المفكرين من الأدباء والفنانين العامة من العباد أن بناء بعض الأبنية “حتى العشوائية” واقتناء بعض التكنولوجيا “حتى المسروقة” هي التقدم والحضارة. وضريبة التقدم والحضارة هي التخلّي عن الأخلاق الحسنة الفطرية “التي أصبحت برأيهم لا تلائم هذا العصر”، وتقبّل الأخلاق السيئة المكتسبة “التي أصبحت برأيهم ضرورية للبقاء في هذا العصر”. فانقلب تصنيف الأخلاق في البلاد رأسا على عقب، فأصبح “الكذب والخيانة والنفاق” هي الأخلاق الحسنة، وأصبح “الصدق والأمانة والإخلاص” هي الأخلاق السيئة. أصبح “الصادق والأمين والمخلص” هو “الحنبلي” في هذه البلاد، بينما أصبح “الكاذب والخائن والمنافق” وعلى رأسهم “المرتشي” هو “الميسّر ولا المعسّر” في هذه البلاد.
جهلاء أم يتجاهلون .. قد يكون البعض من المروجين لهذه الثقافة من المفكرين من الأدباء والفنانين لم يخرجوا قط من كهوفهم، ولم يتثنى لهم رؤية النور “التقدم والحضارة الحقيقيتين، وليس المزيّفتين الموجودتين في البلاد”، فالأحرى بهم رؤية النور أولا، قبل الترويج لثقافة مصيرها كمصيرهم مزبلة التاريخ. وأما البعض الآخر – الذين خرجوا من كهوفهم وتثنى لهم رؤية النور – فالأحرى بهم أن يحكّموا ضمائرهم في أعمالهم قبل أن تحكم عليهم محاكم التاريخ، وتلقيهم مع أعمالهم في مزبلة التاريخ. فليعلم هؤلاء وهؤلاء أن الشيء المشترك الوحيد بين جميع المجتمعات في العالم هو الأخلاق الحسنة، لأن الأخلاق الحسنة هي فطرية تولد مع النفس البشرية ولا تحتاج لتعليم.
ولاء المفكرين للسلطة .. قد يستغرب البعض ولاء بعض المفكرين من الأدباء والفنانين للسلطة، وذلك استنادا للتناقض الكبير بين الأفكار السامية التي من المفروض أن يروج لها المفكرون من جهة والأعمال الدنيئة التي تمارسها السلطة من جهة أخرى، ولا أعلم كيف تبلور هذا الاستغراب عند هؤلاء البعض؟ ففي التاريخ العربي والإسلامي نادرا مَن تجرأ من المفكرين على الخروج عن الطاعة، كالفلاسفة “إخوان الصفا” الذين عملوا في الخفاء. فمن المعروف أن كبار الشعراء والموسيقيون والعلماء كانوا يعيشون في كنف الخليفة والأمراء، ولا يهجي الشعراء إلا من طردهم من بلاطه، ولا ننسى أنه حتى الرسول كان لـه شاعرا هو حسان بن ثابت.
ربما يكون هذا الاستغراب عند هؤلاء البعض نابع من تأثرهم بتاريخ النضال العربي ضد الاستعمار في القرن الماضي، حيث وقف معظم المفكرين من الأدباء والفنانين في وجه السلطة المرتبطة بالاستعمار، وربما يكون هذا الاستغراب نابع من تأثر البعض بتاريخ النهضة الأوربية الحديثة، حيث وقف معظم كبار المفكرين من الفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانين في وجه السلطات في أوربا وعلى رأسها الكنيسة، وهناك مَن كلفته تلك الوقفة حياته.
الشرف .. تقلصت الأخلاق في البلاد لحدث وحيد أوحد ألا وهو فض غشاء البكارة. فالأمة بخير إذا فُضّ غشاء بكارة “على سنة الله ورسوله”، والأمة بشر إذا فُضّ غشاء بكارة “على غير سنة الله ورسوله”. فـ”طوبى” لأمة مصيرها مرتبط بـ”فُضّ غشاء بكارة”.
نصيحة للشعوب العربية .. قد تحتاج الشعوب العربية عقودا من الزمن لإعادة بنائها بشكل صحيح، لكن ستحتاج قرونا من الزمن لإعادة بناء أهلها بشكل صحيح. وبما أن البناء بشكل صحيح يحتاج لإنسان مبنيا بشكل صحيح، فتصبح العلاقة متداخلة، لهذا أرى أنه شبه مستحيل بناء البلاد العربية وأهلها بشكل صحيح دون مساعدة خارجية مخلصة، وخير مَن يقدمها هم المغتربون في العالم المتحضر المدمجون في أوطانهم الحالية والذين لازالت تربطهم المحبة والمودة بالوطن الأصلي. وإلا فالشعوب العربية بحاجة للاستعمار من جديد.
العصور التاريخية .. تعلمت في التاريخ أن العصور التاريخية التي مرت بها البشرية حتى الآن هي العصر الإقطاعي، العصر الصناعي، العصر الرأسمالي، العصر الاشتراكي. وهناك شعوب اختصرت الطريق وبقيت في العصر الرأسمالي، وشعوب أخرى أصرت على إطالة الطريق ومرت بالعصر الاشتراكي، إلا الشعوب العربية بقيت في العصر الإقطاعي، ولكن طورته. حيث كان الإقطاعي يملك قرية وهو تحت القانون، فأصبح الإقطاعي يملك وطنا وهو فوق القانون.
الديموقراطية .. بعد انهيار النظام الاشتراكي في العالم في تسعينيات القرن الماضي لم تعد الاشتراكية والرأسمالية هما المعياران للأنظمة الاقتصادية والسياسية في العالم بل أصبحت الدكتاتورية والديموقراطية هما المعياران للأنظمة الاجتماعية والسياسية في العالم، وبما أن الأنظمة العربية ديكتاتورية سواء كانت اشتراكية أو كانت رأسمالية، وبما أن هذه الأنظمة جعلت شعوبها آخر شعوب الأرض وهي نملك ثروات الأرض، فحان الأوان لتجرّب الشعوب العربية الديمقراطية “ولو من باب التجريب فقط”.
الديمقراطية هي مظلة كبيرة بكبر الوطن، يجلس تحتها الاشتراكيون والرأسماليون، التقدميون والرجعيون، اليساريون واليمنيون، اللبراليون والحياديون، العلمانيون والمتدينون، وجميع المواطنين سواسية أمام القانون. ولا يوجد في الديمقراطية أكثرية ولا أقلية “قومية أو عرقية أو دينة”، ولا أكثر ولا أقل وطنية، ولا درجات في الهوية. هذا إذا طُبقت الديمقراطية كما تطبق في العالم المتحضر، ولم تُشوه وتًجعل أكثر دكتاتورية من الديكتاتورية، كما جُعلت الجمهورية قبلها “أكثر ملكيةً من الملكية”.
الديمقراطية ليست نظام سياسي فقط بل هي نظام اجتماعي أيضا يبدأ بالتربية ويتوّج بالممارسة. فلا يكفي وجود برلمان ديموقراطي منتخب ديموقراطيا ليكون البلد ديموقراطيا، فالديموقراطية يجب أن تكون الشريعة الوحيدة في كل بقعة من ذلك البلد. وليس من الضروري اقتناع الشخص بالديمقراطية بل من الضروري ممارسة الشخص للديمقراطية. الديمقراطية هي تقبّل الشخص وجود رأي مخالف لرأيه، كتقبّل المؤمن للملحد، وتقبّل الملحد للمؤمن، ففي مفاهيم الديمقراطية الحساب والعقاب على العقائد عند الله، ولم يكلف الله أيّا منهما بالقصاص من الآخر. والديمقراطية هي تقبّل الزوج رأي زوجه، وتقبّل الأبوين رأي أولادهم. فالديمقراطية تعلّم رحابة الصدر، وتعلّم على إبداء الرأي وتحمّل مسؤولياته، وتعفي بعض الناس من كثير من أخطائهم، لأن جميع الناس في مفاهيم الديمقراطية غير معصومين.
الديمقراطية في التاريخ العربي والإسلامي .. يوجد في اللغة العربية مرادفات كثيرة للدكتاتورية، ولا يوجد مرادف واحد للديموقراطية. وهذا يوحي على أن الدكتاتورية هي نسيج التاريخ العربي، وليس للديمقراطية خيطا واحدا فيه. وإذا أردنا الاحتيال على الموضوع واعتبرنا أن الشورى هي المرادف للديمقراطية. فلم أجد خيطا للشورى في نسيج التاريخ العربي منذ تولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة.
الديمقراطية بعد الربيع العربي .. لازال الحديث عن الربيع العربي مبكرا، حيث لم تتبلور الأحداث لشكلها النهائي بعد. في الفقرات التالية سأتحدث عما أعتقد أنه تبلور من أحداث في مصر والعراق وسوريا.
مصر .. من الصعب أن تجد إنسانا يعيش في هذا العصر لم يسمع عن مصر. ويرجع الفضل في ذلك للآثار الفرعونية، ولن أجد أقوى من هذا دليلا على عظمة الحضارة الفرعونية. وكلّما قرأت كتابا أو تصفّحت مجلة أو شاهدت فيلما عن الحضارة الفرعونية أتسائل: هل للمصرين الحالين أيّة صلة بالمصرين القدماء “الفراعنة”؟
يقول المصريون أن ثورة (2011) هي أول ثورة في تاريخ مصر، مع العلم أن مصر منذ سقوط الفراعنة على يد الكسندر المقدوني وحتى إلى ما بعد حركة الضباط الأحرار (1952) – بعد العدوان الثلاثي على مصر (1956) تحديدا – رزحت تحت نير الحكم الأجنبي على مدى تلك القرون من الزمن. ولا أُذكّر بهذا للنيّل من كرامة الشعب المصري الصبور والمسالم وإنما لإظهار عظَمة ثورة (2011). كانت عظَمة هذه الثورة بالنسبة لي كعظَمة الأيام الأولى من حرب (1973). ولم يكن هذا شعوري وحدي بل كان شعور جميع الأحرار من الشعوب العربية، الذي عبروا عنه باسترجاع الأناشيد والأغاني الوطنية والثورية، التي كانت مُحرّمة قبل الثورة لكي لا توقظ الشعور الوطني والثوري عند الشعوب العربية.
خطوتان فاشلتان نحو الأمام .. الخطوة الأولى: لأول مرة في تاريخ مصر يُنتخب برلمانا ديموقراطيا، وقضي عليه بعد فترة وجيزة بقرار من المحكمة، واُعتبرت المحكمة من فلول العهد السابق. الخطوة الثانية: لأول مرة في تاريخ مصر يُنتخب رئيسا ديموقراطيا، وقبل أن يجلس الرئيس على كرسيه لم تبقى بومة على وجه الأرض إلا ووقفت في وجهه، ولم تتعثر شاة على وجه الأرض إلا وحمّلوه شخصيا مسؤوليتها، فأصبح من الواضح أنه لن يستمر. مهما كانت أخطاؤه وعثراته فسيشهد التاريخ لـه أنه لم يوجد معتقل سياسي واحد في فترة حكمه، ولم يدّعِ قضائيا على أيٍّ من الكثيرين الذين تطاولوا عليه حتى كانسان، فكيف كرئيس للجمهورية، وسيشهد التاريخ لـه أنه منع استمرار العدوان على غزة الذي بدأ في عهده، والذي للأسف استمر طويلا من بعده.
خطوتان قاتلتان نحو الوراء .. الخطوة الأولى: كان من الصعب على الأنظمة العربية المتعفنة وعلى هياكلها الهشة رؤية ذلك النور الذي يشكل خطرا على عفونتها وعلى هياكلها الهشة فأطاحت به بانقلاب عسكري. الخطوة الثانية: انتخاب زعيم الانقلاب رئيسا للجمهورية. بالطبع لا يمكن تجاهل نضال وتضحية المخلصين للرئيس الشرعي، فهم بالنسبة لي منفذين للديمقراطية، حتى وإن كانوا غير مؤمنين بالديمقراطية، فقد كانوا ومازالوا ضد الانقلاب العسكري، وبالتالي لا يعترفون بزعيم الانقلاب كرئيس للبلاد، فما قام على باطل هو باطل. وهناك نقطتان تخص الذين انتخبوا زعيم الانقلاب.
النقطة الأولى .. كيف ينتخب الشعب المصري زعيم الانقلاب رئيسا للبلاد مع العلم أنه مدعوم علنا من دول خارجية، وفي الوقت ذاته يحاكم الشعب المصري الرئيس الشرعي للبلاد بتهمة التخابر مع دول خارجية؟ كيف حصل زعيم الانقلاب على هذه النسبة الخيالية من الأصوات، التي تفوق النسب المعروفة في الأنظمة الدكتاتورية المعهودة؟ إذا كان هذا الانتخاب تم بشكل ديمقراطي صحيح دون ترغيب ودون ترهيب، وإذا كانت هذه النتائج صحيحة دون تلاعب ودون تزوير، فبماذا يمكن وصف الشعب المصري الذي اختار طوعا مرارة الحكم العسكري الدكتاتوري بعدما تذوّق حلاوة الحكم المدني الديمقراطي؟ هل وجود فرعون كإله لمصر وللمصرين على مر الزمان هو طبع عند المصرين وليس تطبّع، حتى وإن كان فرعون هذا عبدا كـ”كافور الإخشيدي”؟
النقطة الثانية .. لابد من أن تكون العامة من الشعب المصري قد صوتت لزعيم الانقلاب، وإلا فمن غير الممكن بدون أصواتها حصوله على هذه النسبة الخيالية من الأصوات. وإذا نظرنا للموضوع من ناحية اقتصادية فقد تكون العامة من الشعب المصري أُجبرت بشكل غير مباشر “نتيجة الحاجة الاقتصادية” للتصويت لزعيم الانقلاب أملا منها بمساعدات اقتصادية من الدول الخارجية التي دعمت الانقلاب وزعيمه. ولكن هناك من النخبة من الشعب المصري مَن يشبّه زعيم الانقلاب بجمال عبد الناصر انطلاقا من عداوة الاثنين للإخوان المسلمين. وأرى ذلك أنه ليس إلا محاولة لتبرير الانقلاب ولتبرير انتخاب زعيم الانقلاب، وبالتالي فإن تلك النخبة لم تكتف بتفضيل الدكتاتورية العسكرية على الديمقراطية المدنية بل تبحث من تحت أظافرها عن مبررات لذلك التفضيل، فبماذا يمكن وصف هذه النخبة من الشعب المصري؟
ذكرت سابقا بعض النقاط المضيئة لجمال عبد الناصر، التي لم يحلم بها زعيم عربي في العصر الحديث، ورغم هذه النقاط المضيئة لـه فلو عاد نفسه إلى الحكم الآن بأسلوبه السابق فلن يكون حكمه مقبولا بعد مرور أكثر من نصف قرن من الزمن على حكمه السابق. وفوق هذا كله أرى أن مجرد تشبيه زعيم الانقلاب بالزعيم الخالد جمال عبد الناصر هو مسخ لشخصية وتاريخ جمال عبد الناصر، وهذا بدوره تشويه للتاريخ من المفروض الاعتراض عليه وليس الترويج لـه، وخاصة من النخبة من الشعب المصري.
العراق .. حضارات بلاد ما بين الرافدين “دجلة والفرات” غير معروفة عالميا على المستوى الشعبي كالحضارة الفرعونية، مع أنه من المعروف أن قوانين حمو رابي هي أول قوانين عرفتها البشرية، وخاصة قانون “العين بالعين والسن بالسن”، كما أن النظام الستيني “النظام الزمني” هو نظام عالمي، وهو النظام غير العشري الوحيد في العالم، ولم يتمكن العالم من تحويله لنظام عشري رغم محاولته الجادة. وهذا غيض من فيض من فضل حضارات بلاد ما بين الرافدين على البشرية.
والشعب العراقي على نقيض الشعب المصري هو مزيج من الشعوب التي تعاقبت حضاراتها في بلاد ما بين الرافدين، فتاريخه حافل بالحروب والثورات، لدرجة صبغ الحزن على فنونه، حيث تُعزف الموسيقى الحزينة، وتُغنى الأغاني الحزينة، حتى في الأفراح والمناسبات السعيدة.
حروب مُشرّفة .. من المعروف عن الشعب العراقي منذ استقلاله في بداية القرن الماضي وطنيته وعروبته، فقد شاركت جماعات من الجيش العراقي في الثورة الفلسطينية (1936-1939)، ولم تنطفئ نار تلك الثورة إلا بعد اشتعال نار الحرب العالمية الثانية. وشارك الجيش العراقي بكل ثقله في جميع الحروب مع الكيان الصهيوني “حرب النكبة (1948) وحرب النكسة (1967) على الجبهة الأردنية، وحرب التحرير أو حرب التحريك (1973) على الجبهة السورية”، فالعراق هو البلد العربي الوحيد الذي شارك في جميع تلك الحروب وليس لـه حدود مع فلسطين. وقد ذكرت سابقا أنه كان الفضل للجيش العراقي في وقف زحف جيش الكيان الصهيوني إلى دمشق في حرب التحرير أو حرب التحريك (1973).
حربان مدمران .. للأسف خاض العراق حربين مدمرين لازال الشعب العراقي يعاني من أثارهما السلبية حتى الآن، لم يكن لـه في الأولى ناقة ولا جمل، وكان يمكنه تفادي الثانية.
الحرب مع إيران (1980-1988) .. كان للعراق مبررات غير مقنعة لدخوله حرب لا ناقة لـه فيها ولا جمل. وما عُرف من الأسباب الحقيقية لتلك الحرب آنذاك أنها للقضاء على الثورة الإسلامية في إيران بتكليف من الغرب، وكجائزة للعراق على هذا الفعل هو تقديم الكويت كهدية لـه. ولكن على ما يبدو أنه لم يكن الاتفاق بهذه الشفافية بل كان محاطا بضبابية. استمرت الحرب ثمان سنوات (1980-1988) قضت على مليون إنسان عداك عن المصابين وعن الثكلى واليتامى وعن ولايات الحرب من اسر ودمار وتشريد. واستنادا لحديث أول رئيس جمهورية لإيران: أن الحرب العراقية-الإيرانية هي التي حافظت على الثورة من الانهيار، حيث توجهت الأنظار للحرب، فاستغل الخميني “مرشد الجمهورية الإيرانية آنذاك” تلك الظروف لتصفية كل مَن وقف عثرة في دربه لاستثمار الثورة لصالح اتباعه الإسلاميين المتشددين. لهذا كان الخميني يرفض إيقاف الحرب، وعندما أُجبر على إيقافها مات حسرة. ومن المعلوم أن قوى كثيرة في إيران ساهمت في الثورة إلى جانب الإسلاميين “كالعلمانيين والأكراد وغيرهم”، فصفى الخميني الجميع بما فيهم الإسلاميين المعتدلين، وكان على رأسهم ذلك الرئيس، الذي هرب من إيران خفية في بداية الحرب، بعد فشله في إيقاف الحرب. فكانت نتائج الحرب مع إيران بدلا من القضاء على الثورة الحافظ عليها من الانهيار وانحرافها لصالح الإسلاميين المتشددين.
اجتياح الكويت (1990) .. اعتبر العراق قبول الخميني إيقاف الحرب انتصارا. وبالتالي يستحق العراق -حسب اعتقاده- المكافئة الموعود بها من الغرب حسب الاتفاق “الضبابي”. لكن تكليف الغرب للعراق كان للقضاء على الثورة، ولم يستطع العراق القضاء عليها، فهو لم يحقق الهدف المكلف به وبالتالي لا يستحق المكافئة. ومن جهة أخرى كانت دول الخليج تدعم العراق ماليا خلال تلك الحرب، فاعتبر العراق ذلك الدعم هو مساهمة دول الخليج في صد الخطر الثوري الإيراني المحدق بها، بينما اعتبرت دول الخليج ذلك الدعم دينا على العراق. وبعد عراك دبلوماسي قصير كان نتيجته اجتياح العراق للكويت. للأسف لم يدرك العراق أن ذلك كان مجرد فخ لـه للقضاء على قوته التي لم تُستنفذ كاملا في الحرب مع إيران. وكما هو متوقع قامت حرب “عاصفة الصحراء” (1991) في ظاهرها تحرير الكويت وفي حقيقتها تدمير العراق والكويت، والأهم وضع يد الأمريكان على نفط الخليج من الكويت شمالا إلى عُمان جنوبا.
شروخ في مواقف الشعوب العربية .. كانت الحرب مع إيران شرخ بسيط في مواقف الشعوب العربية “مع العراق أو ضد العراق”، بينما كانت حرب “عاصفة الصحراء” شرخ عظيم في مواقف الشعوب العربية “مع العراق أو مع أمريكا”. برأي أن المسؤول الأول والأخير عن الحرب مع إيران وعن اجتياح الكويت وحتى الاحتلال الأمريكي للعراق (2003) هو صدام حسين “رئيس العراق آنذاك” شخصيا، فكان يصلح ربما زعيما لعشيرة ولكن ليس رئيسا لجمهورية. وللموضوعية أثبتت الأحداث اللاحقة أنه كان وطنيا وقوميا، ولكن حكمه الفردي الاستبدادي الدكتاتوري وحماقاته وعدم فهمه للعالم هم الذين أدوا بالعراق إلى ما وصل إليه.
الاحتلال الأمريكي .. لم يتمكن الشعب العراقي التحرر من نظام صدام حسين الفردي الاستبدادي الدكتاتوري في ثورته ابنان حرب “عاصفة الصحراء” (1991). ولم تأتي فرصة سانحة بعدها للتحرر قبل الاحتلال الأمريكي للعراق (2003). وبعد أن وضع الأمريكيون يدهم على نفط العراق إتماما للمخطط الذي بدءوه بعد حرب “عاصفة الصحراء”- بوضع اليد على نفط الخليج من الكويت إلى عُمان – جزءوا العراقيين على أساس “طائفي، وديني، وقومي، وعشائري”، وأعادوهم حضاريا واجتماعيا لعصر النعمان بن منذر في العهد الجاهلي.
حرقة قلب .. لا أصدق أبدا أن الشعب العراقي في زمن الحصار والاستبداد والدكتاتورية كاد أن يصنع القنبلة الذرية، والآن وبعد اثنا عشر عاما من الانفتاح والحرية والديموقراطية يتلقى أوامره من المرجعية الدينية.
سوريا .. يعتقد البعض أن سوريا كانت بخير، وكانت بغنى عما يجري فيها من دمار، الذي سيعدها إلى الوراء قرون من الزمن. لاشك أن الدمار الذي يحصل في سوريا شيء محزن في كل المعايير “الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، والإنسانية”. لكن الدمار في سوريا لم يبدأ مع الأحداث الأخيرة: أليس إذلال المواطن “نفسيا، وأخلاقيا، واجتماعيا” هو دمار للمواطن، وهو أخطر بكثير من الدمار الذي يحصل الآن؟ أليس تمزيق نسيج المجتمع “دينيا، وأخلاقيا، واجتماعيا” هو دمار للمجتمع، وهو أخطر بكثير من الدمار الذي يحصل الآن؟ أليس تفشي الفساد في جميع أجهزة الدولة “قانونيا، وماليا” هو دمار للدولة، وهو أخطر بكثير من الدمار الذي يحصل الآن؟ أليس بيع معلومات المفاعل النووي في دير الزور مقابل بضعة دولارات هو عيّنة على الفساد في قمة هرم أجهزة الأمن في الدولة. أليس تدمير ذلك المفاعل بواسطة طائرة إسرائيلية استنادا لتلك المعلومات هو تدمير للوطن؟ أليس نقل الاقتصاد من ملكية الدولة إلى ملكية أفراد هو دمار لاقتصاد الدولة، وهو أخطر بكثير من الدمار الذي يحصل الآن؟ فالدمار الذي يحصل في سوريا الآن ما هو إلا استمرار للدمار الذي يجري منذ عقود من الزمن. ولكن اصبح الدمار الآن واضحا حتى لمَن “ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة” ولم يردوا رؤية وسماع هذا الدمار منذ عقود من الزمن، حتى وإن كان فيه دمار مفاعل نووي. فقدراتهم الحسية والعقلية لم تأهلهم لرؤية وسماع ذلك الدمار قبل الأحداث الأخيرة، وقدراتهم المحدودة هذه هي ذاتها سبب تحميلهم المجني عليه المسؤولية بدلا من الجاني.
لا أخشى مطلقا على إعادة بناء ما دُمر في سوريا الآن، فقد أعاد العراق في ظل النظام السابق بناء ما دمرته حروب الخليج رغم الحصار الاقتصادي على العراق، وأعاد الكويت بناء ما دمرته حروب غزوه وتحريره من العراق، وأعاد لبنان بناء ما دمرته الحرب عليه من قِبل إسرائيل، ويعيد أهل غزة بناء ما دمرته الحروب عليها من قِبل إسرائيل رغم الحصار اللاإنساني على غزة. ما أخشاه حقا هو عدم القدرة على إعادة بناء بنية “المواطن، والمجتمع، والدولة” بشكل صحيح، بنية خالية من الإذلال والتمزيق والفساد. وأن لا تُباع قشة من الوطن مقابل كنوز العالم، وليس مفاعل نووي مقابل بضعة دراهم.
فمهما وصل الدمار في سوريا الآن لن يصل إلى مستوى الدمار في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى لو استخدم النظام السلاح الكيمائي فلن يكون حال سوريا أسوء من حال اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فالدمار لم يكن عائقا في إعادة بناء كل من ألمانيا واليابان، ووصلهما إلى ما وصولا إليه، لأن بنية “المواطن، والمجتمع، والدولة” كانت مبنية بشكل صحيح في كل من ألمانيا واليابان. ولتكن ألمانيا واليابان قدوة للشعب السوري استنادا لمبدأ قول أبي الطيب المتنبي:
فلا تقنع بما دون النجوم
كطعم الموت في أمر عظيم
إذا غامرت في شرف مَرّومٍ
فطعم الموت في أمر حقير
وكفى الشعوب العربية الاقتداء والولاء لأخر شعوب الأرض، ولتفعل كما فعل الصين. وأُذكّر بما فعل الصين: اقتدى الصين في عصر ماو سيتغ بالاتحاد السوفيتي فقط، وحصل منه على القنبلة الذرية، وكان الصين منغلقا ومتقوقعا وألغيت فيه جميع المعالم الحضارية حتى الجامعات. وبعد وفات ماو سيتغ انفتح الصين على العالم واقتدى بألمانيا واليابان عوضا عن الاتحاد السوفيتي، وما وصل إليه الصين نتيجة ذلك الانفتاح والاقتداء لا يحتاج لتذكية.
الولاء .. كان النظام الاجتماعي الوحيد في شبه الجزيرة العربية قُبيل ظهور الإسلام هو القبيلة. فكان الولاء الوحيد للقبيلة. وعندما دخلت القبائل في الإسلام انتقل الولاء للأمة، ومعظم الذين دخلوا في الإسلام من الشعوب غير العربية اصبح ولائهم للأمة. بعد ظهور النزعات “الطائفية، القومية، الحزبية، الإيديولوجية” أصبح الولاء “للطائفة، للقومية، للحزبية، للإيديولوجية” أقوى من الولاء للأمة، وبدلا من أن تكون تلك النزعات تنوّعا في الأمة أضحت تعصّبا وتجزئة للأمة، وأمست العداوة فيما بين أصحاب تلك النزعات أشد من العداوة مع أعداء الأمة، لدرجة الاستعانة بأعداء الأمة على إخوانهم في الأمة “كالاستعانة بالصليبين، والاستعانة بالمغول والتتار”. وفي التاريخ أمثلة كثيرة على ذلك لا مجال لذكرها الآن. وأرى أن معضلة الشعوب العربية الآن هي في الولاء. وبعبارة أوضح: لمَن ولاء الشعوب العربية؟
الهند .. واقع الهند في القرنين الماضين أكثر سوء من واقع الأمة العربية. فقد اقتطع الاستعمار البريطاني في منتصف القرن الماضي جزئيين كبيرين من الهند “باكستان، وبنجلادش” لخلق الحروب فيما بينها وإبقائها على تخلّفها. وما تبقى من الهند يتألف من ولايات ذات حكم ذاتي لا يربط فيما بينها شيء سوى الموقع الجغرافي. وقد تكون الدول الإفريقية غير العربية أكثر ترابطا مع بعضها البعض من الولايات الهندية. قبلت الهند – على مضض – ما فرضه الاستعمار البريطاني عليها من ظروف مرة، وانطلقت من تلك الظروف للقضاء على التخلّف بجميع أشكاله، وهي لا تملك سوى الثروة البشرية، التي هي بحد ذاتها معضلاتها. بقيت الهند على النظام الديمقراطي الذي تركها عليه الاستعمار البريطاني، والهند الآن أكبر بلد ديمقراطي في العالم، وقد تصبح عما قريب من الدول العظمى في العالم.
المغرب العربي .. قد تكون الهند بالنسبة للبعض بعيدة، وقد لا يريد البعض أن يعرف عن الهند سوى أفلامها الاستعراضية الخيالية، فأقول لهؤلاء وهؤلاء ما منع دول المغرب العربي من التقارب من بعضها البعض، وإنشاء اتحاد بشكل من الإشكال أو على الأقل فتح الحدود بين الجزائر والمغرب، حيث أن حركة التنقل على الحدود بين الأردن والكيان الصهيوني – حتى في أوج الحروب – أكثر من حركة التنقل على الحدود بين الجزائر والمغرب. نحمّل الاستعمار مسؤولية كل مصائبنا، وبالأخص تجزئة بلادنا، ولم نتقدم قيد أنملة على طريق وحدتنا أو حتى اتحاد لأجزاء من بلادنا منذ تحررنا من الاستعمار “ظاهريا” قبل أكثر من نصف قرن من الزمن، رغم كثر ثرواتنا البشرية والطبيعة، والتي للأسف أصبحت هي ذاتها مصائبنا.
الخليج العربي .. إذا كانت دول المغرب العربي غير متجانسة الحكم “جمهورية في ليبيا وتونس والجزائر وملكية في المغرب ولا أعلم شيئا عن نظام الحكم في موريتانيا” لهذا لا تستطيع التقارب فيما بينها، وفوق هذا هناك قضية الصحراء الغربية بؤرة الخلاف بين الجزائر والمغرب، فما يمنع دول مجلس التعاون الخليجي “المتجانسة الحكم والقبلية، والمتجانسة الاقتصاد والنفط، والمتجانسة في الولاء للغرب وصداقة الكيان الصهيوني، والمتجانسة في رمال صحرائها” من إنشاء اتحاد كالاتحاد الأوروبي، مع العلم أنه لا توجد بين دول الاتحاد الأوربي صفات مشتركة “كالصفات المشتركة بين دول مجلس التعاون الخليجي”. مكلمون ونحن في أوج الإسراف في ثرواتنا الطبيعة والباطنية “البترول والغاز” فكيف سيكون حالنا عندما لا تبقى لنا سوى رمال صحراء شبه الجزيرة العربية، هذا إن لم تكن قد بيعت لتصنّع منها الرقائق الإلكترونية.
وجهة نظر .. لا أرى مخرجا للشعوب العربية في الوقت الراهن سوى الولاء لأوطانها. فإذا كانت غير قادرة على التخلص من التجزئة فلتحافظ على الأقل عن تلك الأجزاء كاملة، ولا تعيد كارثة السودان تتكرر في “العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، وفلسطين”.
أصبحت الشعوب العربية اليوم تترحّم على الاستعمار “البريطاني، الفرنسي، الإيطالي” بشكله القديم، وعلى اتفاقية “سايكس – بيكو”، التي أضحت بالنسبة لهم مقدسة في الوقت الرهن. ذلك مقارنة بالاستعمار “الإسرائيلي، الأمريكي، الروسي، الإيراني” بجميع أشكاله القديمة والحديثة والاستيطانية، وربما يكون في الأفق اتفاقيات سرية أو علنية لتفتيت الشعوب العربية كالرمال ونثرهم فوق صحرائهم.
الكيان الصهيوني وإيران .. يستهجن البعض تدخل الكيان الصهيوني وإيران بالشؤون الداخلية للدول العربية. واستهجن أنا ذلك الاستهجان، لأنه بدلا من أن تستر الدول العربية عورتها تطلب من أعدائها غض البصر. وقبل تسليط الضوء على هذه النقطة أحب أن أذكر مثالين على تدخل دول متحالفة مع بعض البعض في الشؤون الداخلية لبعضها البعض، فكيف نطلب من دول متعادية مع بعضها البعض عدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض.
الولايات المتحدة وألمانيا الاتحادية .. من المعروف أن الولايات المتحدة وألمانيا الاتحادية دولتان حليفتان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهما من المؤسسين للحلف الأطلسي “الناتو”، وتوجد على الأراضي الألمانية أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في أوروبا. ومع ذلك فقد كُشف قبل عدة أشهر أن أكبر جهاز استخبارات ألمانية عمل على مدى سنوات لصالح وكالة الاستخبارات الأمريكية. وقبلها بأسابيع قليلة كُشف أن وكالة الاستخبارات الأمريكية كانت على مدى أعوام تتنصت على مكالمات المستشارة الألمانية، بما فيها المكالمات الشخصية.
الولايات المتحدة والكيان الصهيوني .. لا داعي للتذكير بأن الولايات المتحدة هي الحليف الاستراتيجي الأول للكيان الصهيوني وهي التي تضمن أمنه وبقائه. ومع ذلك فإن أكبر وأكثر عمليات تجسس يقوم بها الكيان الصهيوني هي في الولايات المتحدة تحديدا، وهذا استنادا لتصريح أحد ضباط وكالة الاستخبارات الأمريكية السابقين. وذلك لضمان الكيان الصهيوني تعهدات الولايات المتحدة لـه، على مبدأ: ليطمئنّ قلبي. ففي العلاقات الدولية لا توجد أخلاق مطلقا بل توجد مصالح فقط.
إذا كان هذا هو حال الدول المتحالفة مع بعضها البعض فكيف يمكن أن يكون حال الدول المتعادية مع بعضها البعض. وأعود الآن للنقطة الأساسية.
الكيان الصهيوني .. استغل الكيان الصهيوني منذ نشأته الخلافات بين الأنظمة العربية وأنظمة الدول المحيطة بها “تركيا، إيران، إثيوبيا” للتحالف مع أنظمة تلك الدول، والتحالف مع زعيم “أكراد شمال العراق”، ضد الشعوب العربية. هذا على الرغم من وجود علاقات جوار تاريخية وروابط دينة بين العرب وشعوب تلك الدول منذ عشرات القرون. وإذا اعتبرنا أن الأنظمة في تلك الدول كانت إمبريالية آنذاك، وتحت الهيمنة الأمريكية، لكن توجد أقلّية عربية مضطهدة في كل من تركيا وإيران، كما توجد أقلّية مسلمة مضطهدة في إثيوبيا، فلماذا لم تمد الأنظمة العربية يد العون لتلك الأقلّيات لزعزعة الأنظمة الإمبريالية في تلك الدول؟ ولازالت تلك الظروف قائمة حتى الآن. وقد استفاد حافظ الأسد “رئيس سوريا السابق” من النزاع بين أكراد جنوب تركيا والحكومة التركية للعب بتلك الورقة فترة من الزمن. ويستفيد بشار الأسد “رئيس سوريا” من تلك الورقة الآن، ومن ورقة الأقلية العلوية في تركيا المناهضة للحكومة التركية الحالية، للحد من دعم الحكومة التركية للثورة السورية.
إيران .. نشأتُ وعشت في بيئة شعبية تحوي ما هب ودب من الأديان والمذاهب والقوميات. وهذا ما جعلني غير متعصب لأي من الأديان أو المذاهب أو القوميات. سافرت في العام 1980 إلى الجزائر، وكانت الحرب العراقية – الإيرانية في بدايتها، ولا أخفي أني كنت إلى جانب العراق في جميع حروبه. كان يسألني الجزائريون عن أسباب الحرب، وكانت الجزائر إلى جانب إيران، لأن اتفاقية العام 1975 عُقدت في الجزائر، وفيها تنازل العراق عن عربستان “الأهواز” مقابل تعهد إيران بعدم دعم الأكراد في شمال العراق. ما كان يلفت انتباهي في حديث الجزائريين أنهم لا يميزون بين العرب والمسلمين، فبالنسبة لهم: كل عربي هو مسلم وكل مسلم هو عربي. اعتقدت في البداية أن المستعمر الفرنسي قد شوه هذين المفهومين كما شوه آلاف المفاهيم غيرها. وقد شعرت بتطابق هذان المفهومان عند الفرنسيين أيضا، عندما زرت فرنسا في صيف العام 1981. اكتشفت لاحقا إن تطابق هذان المفهومان ليس في الجزائر وحدها وإنما في المغرب العربي بأكمله. فيُقال أن معمر القذافي لم يستقبل وزير الإعلام السوري “جورج صدقني”، وقال للسوريين معاتبا: لو أرسلتم لي “محمد كذبي” كان خيرا من أن ترسلوا لي “جورج صدقني”.
بالطبع مفهوم العرب مختلف عن مفهوم المسلمين، فالعرب هم أقلية بين المسلمين، ويوجد بين العرب أقلية مسيحية وأقلية يهودية. إنما العلاقة بين مفهوم العرب ومفهوم المسلمين هي علاقة جدلية. فإذا لم يعتز العربي بالمسلمين فبمَن سيعتز. أيعتز بـ”فليب العرب” أم بـ”زنوبيا تدمر”. فبالرغم من عظمتها لم يكونا سوى مأمورين من أسيادهم الرومان، وقد سيقت زنوبيا إلى روما مكبلة عندما حاولت الخروج عن الطاعة. أم يعتز العربي بالكيان الصهيوني، الذي يبيد العرب؟ وكذلك المسلم إذا لم يعتز بالعرب، الذين جاهدوا بأرواحهم وأموالهم لإيصال الإسلام إليه، فبمَن سيعتز إذاً؟
كانت المراحل الثلاثة الأولى للإسلام على الشكل التالي. مرحلة الرسول: كانت للتضحيات الجسدية والمادية لأتباع الرسول في مكة الفضل بنشر الإسلام في مكة، وكانت لنصرة أهل المدينة للرسول واتباعه ماديا ومعنويا الفضل بنشر الإسلام في المدينة، وكانت لعشرات الغزوات في شبه الجزيرة العربية وللتضحيات بآلاف الشهداء الفضل بنشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية. مرحلة أبي بكر الصديق: كانت للانتصارات في حروب الردة وللتضحيات بآلاف الشهداء الفضل باستمرار الإسلام في شبه الجزيرة العربية. مرحلة عمر بن الخطاب: كانت للفتوحات في الشام والعراق ومصر وبلاد فارس وللتضحيات بآلاف الشهداء الفضل بنشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية. وحتى نهاية هذه المرحلة لم تقطر “نقطة دم واحدة من غير عربي” في سبيل الإسلام.
فإذا كان هذا الجزء من التاريخ صحيحا، وإذا كان فهمي لـه صحيحا، فلا أستطيع فهم من يختصر الإسلام على “الرسول وآل بيته” فقط، ويكفر بفضل “أبي بكر الصديق” باستمرار الإسلام، ويكفر بفضل “عمر بن الخطاب” بنشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية، ويكفر بفضل التضحيات بآلاف الشهداء من العرب بنشر الإسلام. فلولا “العرب والتضحيات بآلاف العرب” لما رأى الإسلام النور خارج بيت الرسول، وليس خارج شبه الجزيرة العربية.
إذا لم يفتخر ويعتز العربي بالإسلام فبماذا سيفتخر ويعتز؟ وإذا لم يفتخر ويعتز المسلم بالعرب فبمَن سيفتخر ويعتز؟ فالعلاقة بين العروبة والإسلام علاقة جدلية، ومن يحاول فصلها يشوه التاريخ والحقيقة. والتجارب الفاشلة للقوميين والإسلاميين في محاولة فصل تلك العلاقة خلال النصف الثاني من القرن الماضي إثبات قاطع لصحة هذه النتيجة.
حتما لا أقصد بالاعتزاز هنا التعصب وإنما العرفان بالجميل. وسأسلط الضوء على المتعصبين من السُنّة وعلى المتعصبين من الشيعة من منظار علمي لا طائفي. فالمتعصبون من السُنّة يعلنون على الملأ هدفهم، وهو العودة إلى الخلافة الراشدة. وسيان إن اتفقنا أو اختلفنا معهم فعلى الأقل أننا نعرف هدفهم. أما المتعصبون من الشيعة فما هو هدفهم؟ أولا: من جهة يتباكون ويلطمون لأنهم السبب في فناء آل البيت “الحسن والحسين” ذكورا وإناثنا، ومن جهة أخرى ترى الأسياد “وهم من أحفاد آل البيت – أحفاد الحسن والحسين – حسب اعتقادهم” يملئون مللهم من لبنان غربا إلى الصين شرقا، وحتى الدولة الفاطمية برمتها، التي قامت في مصر وتونس والشام، والتي جلبت لنا الصليبين وولاتهم مائتين عام، هم من آل البيت حسب اعتقادهم أيضا. فمن أين جاء هؤلاء الأسياد وهذه الدولة بعد فنان آل البيت؟ أهم جميعا كعيسى بن مريم من روح الله؟ ثانيا: يعتبرون السُنّة جميعا أولاد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. ويجب إفنائهم جميعا ثأرا لآل البيت. ألم يفني أبو العباس السفاح بني أمية عن بكرة أبيها؟ ألا يكفي ذلك ثأرا لآل البيت؟
لاشك أن أكبر جريمة في تاريخ المسلمين هي قتل الحسن والحسين “الحفيدين الوحيدين للرسول”، أياً كان قاتلهما وأياً كان المسبب في قتلهما. ولكن الثأر لهما هو ظاهر القضية فقط، لدغدغة عواطف ومشاعر البسطاء من المسلمين “السُنّة والشيعة على حد سواء”، وأما جوهر القضية فهو الثأر من العرب جميعا لإسقاطهم الدولة الساسانية، والدليل على ذلك هو كره الشيعة المطلق لعمر بن الخطاب، الذي سقطت الدولة الساسانية في عهده، ورغم أنهم قتله ولكن قتله لم يطفئ نار الساسانية في صدورهم. ودليل آخر هو المعاملة المذرية التي يُعامل بها أهل الأهواز “العرب” رغم أنهم “شيعة”. ودليل أخير هي المظاهرات في بيروت التي قام بها “شيعة” ضد تدخل حزب الله في سوريا وكان ضحيتها قتيل وعدد من الجرحى. فالحرب الحالية ليست حرب بين “السُنّة والشيعة” وإنما هي حرب بين “العرب والفرس”، وهي امتداد لموقعة القادسية. أما النظام في سوريا فلا يمت بصلة لأي من الطرفين، فهمه الوحيد نهب خيرات سوريا وإذلال شعبها، وإنما يستفيد من الطرفين. فيستفيد من المغفلين من القوميين العرب ومن المتعصبين من اليساريين لكرههم للمسلمين من طرف، ويستفيد من المتعصبين من الإيرانيين لكرههم للعرب من الطرف الآخر. كما يستفيد من جميع المنبوذين من أنحاء العالم.
صرّح نائب رئيس إيران أيام احتلال دول التحالف لكل من أفغانستان والعراق: أن كابول وبغداد لم تكن لتسقطا بهذه السهولة لولا مساندة إيران للولايات المتحدة. أما بالنسبة لكابول فقط أعدمت حكومة طالبان عددا من الدبلوماسيين الإيرانيين قبل الحرب بأسابيع قليلة. وهذا وحده سبب كاف في الأعراف الدولية لقيام إيران بشن حرب على أفغانستان. وقد جاءت الحرب من تلقاء نفسها فساهمت إيران بنصيبها في تلك الحرب، وذلك بـتسريب معلومات عن أفغانستان لدول التحالف. أما بالنسبة لبغداد فمَن ساهم بالحرب على العراق أكثر إيران بـتسريبها معلومات عن العراق لدول التحالف أم الدول التي فتحت أجوائها وأراضيها ومياهها وبترولها لقوات دول التحالف؟ هذا إذا تناسينا تماما حرب العراق على إيران مدة ثمان أعوام. أنطلب من إيران أن تكون أكثر من ملاك؟
دول الخليج وإيران .. تبيّن المعلومات الاقتصادية الصادرة عن دول الخليج أن دول الخليج في وضع اقتصادي جيد بينما إيران في وضع اقتصادي مذرٍ نتيجة العقوبات الاقتصادية الغربية عليها. ومع ذلك تستطيع إيران دعم حلفائها في دول الخليج وفي اليمن بينما لم تستطيع دول الخليج مجتمعة دعم الشعب العربي في الأهواز “عربستان”. وهذا علاوة على دعم إيران للنظام السوري لقمع الثورة، ودعم حزب الله في لبنان منذ نشأته في العام 1982.
ذكرى للمقارنة .. أذكر تماما أنه بعد اجتياح العراق الكويت (1990) لم يتعامل أحد من الكويتيين مع القوات العراقية المحتلة، ولا حتى من المعارضة. مما اضطر العراق لإرسال أحد الضباط لتعينه محافظا للكويت، حيث أصبحت الكويت مجرد محافظة من محافظات العراق.
تساؤل .. لو فرضنا أنه لا توجد قواعد عسكرية أمريكية في الكويت، ولو فرضنا لا قدر الله اجتاحت إيران الكويت، فهل ستجد القوات الإيرانية المحتلة من الكويتيين مَن يتعامل معها؟
العرب من وجهة نظر يابانية .. لا أعلم مصدر هذه المعلومات، إنما منطقية هذه المعلومات ومحاكاتها للحقيقة جعلتني أعرضها كمثال على واقع الشعوب العربية. يُقال أن “نوبواكي نوتوهارا” ياباني عايش العرب حوالي 40 عاما، وتنقل بين مدنها المختلفة، حضرها وريفها. وفي العام 2003 كتب كتابا عن انطباعاته عن العرب، فما يلي أهمها:
* ضيافة العرب فريدة ممتازة.
* الدين أهم ما يتم تعليمه، لكنه لم يمنع الفساد وتدني قيمة الاحترام.
* العرب متدينون جدا، وفاسدون جدا.
* لكي نفهم سلوك الإنسان العربي العادي، علينا أن ننتبه دوما لمفهومي الحلال والحرام.
* مشكلة العرب أنهم يعتقدون أن الدين أعطاهم كل العلم. عرفت شخصا لمدة عشرين عاما، ولم يكن يقرأ إلا القرآن. بقي هو ذاته، ولم يتغير.
* الرجل العربي في البيت يلح على تعظيم قيمته، ورفعها إلى السيطرة والزعامة. وفي الحياة العامة، يتصرف وفق * ميزاته وقدراته ونوع عمله. هذان الشكلان المتناقضان ينتج عنهما غالبا أنواعا شتى من الرياء والخداع والنفاق.
* مفهوم الشرف والعار يسيطر على مفهوم الثقة في مجالات واسعة من الحياة العربية.
* انعدام حس المسؤولية طاغ في مجتمعاتهم.
* الشعور بالاختناق والتوتر سمة عامة للمجتمعات العربية. توتر شديد ونظرات عدوانية تملأ الشوارع.
* أستغرب لماذا تستعمل كلمة “ديمقراطية” كثيرا في العالم العربي.
* الحكومة لا تعامل الناس بجدية، بل تسخر منهم وتضحك عليهم.
* عقولنا في اليابان عاجزة عن فهم أن يمدح الكاتب السلطة أو أحد أفراد السلطة. هذا غير موجود لدينا على الإطلاق. نحن نستغرب ظاهرة مديح الحاكم، كما نستغرب رفع صوره في أوضاع مختلفة كأنه نجم سينمائي، باختصار نحن لا نفهم علاقة الكتاب العرب بحكوماتهم.
* المجتمع العربي مشغول بفكرة النمط الواحد، على غرار الحاكم الواحد، لذلك يحاول الناس أن يوحدوا أفكارهم وملابسهم.
* على العرب أن يفهموا التجربة اليابانية، فسيطرة العسكر على الشعب هي سبب دخول البلاد في حروب مجنونة.
* في اليابان قيادة الدولة المعاصرة أكبر من إمكانيات أي شخص مهما كان موهوبا أو قويا، وهذا المنصب يمارسه المسؤول مرة واحدة فقط، وهكذا نضمن عدم ظهور مركزية فردية مهيمنة. الحال مختلف عند العرب.
* السجناء السياسيون في البلاد العربية ضحوا من أجل الشعب، ولكن الشعب نفسه يضحي بأولئك الشجعان.
* حين يدمر العرب الممتلكات العامة، فهم يعتقدون أنهم يدمرون ممتلكات الحكومة، لا ممتلكاتهم.
* لازال العرب يستخدمون القمع والتهديد والضرب خلال التعليم، ويسألون متى بدأ القمع؟
* العرب مورست عليهم العنصرية، ومع هذا فقد شعرت عميقا أنهم يمارسونها ضد بعضهم البعض.
* في مجتمع كمجتمعنا – المجتمع الياباني – نضيف حقائق جديدة، بينما يكتفي العربي باستعادة الحقائق التي اكتشفها في الماضي البعيد.
* لماذا لا يستفيد العرب من تجاربهم؟
* لماذا يكرر العرب أخطاءهم؟
ذكرت في المخطوطة أمثلة على النقطتين الأخيرتين. وهذا غير كاف إذا لم تكن الفكرة التالية واضحة. الفكرة: أعتقد أن شفاء المريض يتألف من مرحلتين متتاليتين لهما نفس الدرجة من الأهمية.
المرحلة الأولى: اكتشاف المرض، واقتناع المريض بأنه مريض بهذا المرض.
المرحلة الثانية: إرادة المريض بالشفاء، وقيام المريض بالعلاج الصحيح حتى الشفاء.
…
المساجد عامرة بالمصلين .. الدعاء للسلطان ليلا نهارا لا ينقطع .. فلان الفلاني أعلن إسلامه في جزر الواق الواق .. فأين المرض؟
ألا يكفينا أن الله أنعم علينا بالإسلام دينا، وجعلنا خير أمة أُخرجت للناس؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* مدرس سابق في قسم الرياضيات – كلية العلوم – جامعة دمشق