17 نوفمبر، 2024 7:16 م
Search
Close this search box.

هل تتطلب ‘التسوية الكبرى’ زعامة مروان البرغوثي؟

هل تتطلب ‘التسوية الكبرى’ زعامة مروان البرغوثي؟

قد يستغرب المراقب إعادة طرح الصحافة الغربية لاسم مروان البرغوثي خليفة للرئيس الفلسطيني. تلتقي جلبة ذلك الإعلام مع دعوات فلسطينية قديمة جديدة تعتبر أن زعامة البرغوثي قد تكون مدخلا لتسوية تاريخية كبرى.

رغم وجوده في السجن الإسرائيلي منذ 15 عاما ما زال مروان البرغوثي شخصية مزعجة لإسرائيل كما لقيادتي فتح وحماس. تختلف نظرة هذه الأطراف حول هذا الرجل، لكنها تلتقي على عدم الحماس لإطلاق سراحه وإعادته إلى قلب العمل القيادي الفلسطيني.

وإذا كانت إسرائيل تتهم البرغوثي بالإرهاب وتحكم عليه بعدة مؤبدات، فإن حركتيْ فتح وحماس اللتين تقودان الحراك الفلسطيني الراهن، لا تصران كثيرا على المطالبة بتحريره، ولا يضيرهما بقاؤه أسيرا. بدا وضع اسمه على لوائح الأسرى المطلوب إطلاقهم في صفقات التبادل السابقة صوريا يستبطن تواطؤا على ترك الرجل داخل سجنه حتى تقرر قدرة قادر.

يمثل مروان البرغوثي في الوجدان الفلسطيني مرحلة نضالية باتت بالنسبة للكثير من فتحاويي الأمس من الماضي. محبو الرجل ينادونه باسمه الأول “مروان” بما يشي بحميمية النظرة إلى القيادي الفتحاوي داخل جيل الانتفاضة الذي برز داخلها قياديا ميدانيا مناضلا.

برع مروان في مخاطبة العامة من الفلسطينيين كما مخاطبة وسائل الإعلام في العالم. اهتمت به صحافة العالم وسلطت مجهرا ودودا وخبيثا على ظاهرة رجل يسيّر الجموع في تحركها السلمي ضد الاحتلال، فيما يتهمه هذا المحتل بتورطه بعمليات عسكرية قتلت إسرائيليين.

وحين ألقى الجيش الإسرائيلي القبض عليه في أبريل 2002، نقلت وسائل الإعلام الدولية صورا مباشرة لهذا “الإنجاز” الأمني الكبير، فيما تصاعدت همهمات فلسطينية تتساءل عن مستوى التواطؤ الداخلي الذي أسقط مروان بهذه السهولة في يد جلاديه.

كان البرغوثي قياديا يتنافس مع قياديين آخرين في تلك المرحلة. كان العارفون يدركون أن رجل الميدان يخطف قلوب شرائح واسعة تتمدد كل يوم داخل حركة فتح والجمهور الفلسطيني عامة، كما يدركون أن أمرا كهذا يثير قلقا داخل تيارات قيادية أخرى لن تزعجها إزاحة الرجل وتقزيم حضوره. بعض هذا الخلاف مع البرغوثي كان معلنا بشخوصه وتشكيلاته، وبعض هذا البعض كان له دور بارز في إدارة التنسيق مع الجانب الإسرائيلي وفق ما تتطلبه اتفاقات أوسلو الشهيرة.

يعود مروان البرغوثي من جديد مزعجا للجميع. تعيد إسرائيل اكتشاف سجينها وهو يقود إضرابا جماعيا عن الطعام منذ 17 أبريل الجاري يشارك فيه أكثر من 1500 أسير بما يعكس قدرة الرجل على قيادة الفعل الفلسطيني الجامع الذي يتجاوز الحزبية الفتحاوية، إلى مساحات فلسطينية أخرى.

قبل أشهر هاجمت فدوى البرغوثي، زوجة مروان البرغوثي، اللجنة المركزية لحركة فتح، إثر عدم اختيار زوجها لأي من مهام اللجنة المركزية للحركة. واليوم يعود الفتحاويون، من خلال هذا الرجل، لاكتشاف مركزية حركتهم في قيادة الحراك الفلسطيني العام، ولو من منابر تنشط خلف القضبان، ويعود الشارع الفلسطيني للتحرك تضامنا مع الأسرى الذين باتوا قضية الفلسطينيين الكبرى في زمن تهمشت فيه قضية فلسطين الكبرى.

تقلق حركة حماس من ذلك الضجيج الذي ينفخ الأسرى به داخل السجون الإسرائيلية. تدرك الحركة التي تحكم قطاع غزة أن تحرّك البرغوثي على رأس ذلك الإضراب المثير للجدل يسحب البساط من تحتها، وهي التي ما برحت تتقدم بصفتها ممثلة لتيار المواجهة مع المحتل بكافة أشكاله، لا سيما العسكرية منها.

يُؤخذ على فتح أنها باتت حزب السلطة، وقد تقوّضت قوتها وبهت بريقها منذ أن أصبح الالتزام بالمعايير الدولية أولوية، ومنذ أن تمكن الرئيس محمود عباس من تحويلها إلى أداته الأولى في ممارسة السلطة والحكم.

تحوّلت فتح من حركة ثورية تقارب شروط العمل مع العالم وفق المنهج العَرَفاتي، إلى حزب سياسي يرعى مصالح “الدولة” وحسابات رئيسها وفق فلسفة الحكم عند “أبومازن”. في هذا أيضا أن الرئيس الفلسطيني نجح في مؤتمر فتح الأخير في إبعاد تيار القيادي الفتحاوي محمد دحلان الذي يعتبر، بالمناسبة، مقربا من مروان البرغوثي.

لا تشارك حماس في حراك البرغوثي وكأنها توحي بأن لا وحدة فلسطينية حتى بقيـادة هذا الرجل. تنقل الحـركة الانقسام إلى السجون الإسرائيلية، بحيث تنتفي أسطورة وحدة الفلسطينيين خلف القضبان. تعتبر حماس أن للبرغوثي أجندة لن تساهم بها، ولن تقبل به قائدا لحراك تكون هي خارج تزعمه، كما لن تقبل به اسما يتردد دائما بصفته خليفة محتملا للرئيس الفلسطيني.

باختصار لن تقبل حماس بزعامة فتحاوية أزاحتها بالـدم والنـار عن قطاع غزة، حتى لو كانت لهذه الزعامة مكانة خاصة في قلب الفلسطينيين، وحتى لو كان أداء الرجل وشهرته سابقين على حال الانقسام الذي طرأ على الجسم الفلسطيني الكبير بين فتح وحماس، وبين الضفة والقطاع.

ينطلق الإضراب عن الطعام بقيادة البرغوثي عشية اللقاء الذي سيجمع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في 3 مايو المقبل. وعلى نحو لافت لا يخلو من دلالات تنشر صحيفة نيويورك تايمز مقالا لمروان البرغوثي يشرح فيه أسباب الإضراب عن الطعام.

ربما أن توقيت الإضراب ليس صدفة بالنسبة لمروان وربعه. في ذلك الضجيج ما يرسل إشارات للفلسطينيين والعرب والعالم. وفي ذلك الضجيج أيضا ما قد يمكّن الرئيس الفلسطيني من حمل الملف الفلسطيني إلى واشنطن بصفته “قضية” ساخنة، بعد أن أحالها “الربيع العربي” هامشية قلما يُكترث لها إقليميا ودوليا.

قيل إن أزمة الرواتب والكهرباء التي نتجت عن قرارات رام الله المالية إزاء قطاع غزة هدفها تأكيد مركزية قرار الرئيس الفلسطيني وقدرته على تقديم نفسه ممثلا لفلسطين في محادثاته المقبلة مع ترامب في واشنطن. وقد يقال إن حراك الأسرى الذي باتت صحافة العالم تهتم به كما تقارير السفارة الأميركية في إسرائيل، قد يُقوّي من موقف عباس في مداولاته في العاصمة الأميركية.

بيد أن حركة مروان البرغوثي تطرق أبواب لحظة، ربما مفصلية، أو على الأقل هامة في حكاية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ترتب واشنطن أوراقها في الشرق الأوسط.

تبدو إدارة ترامب منهمكة في إعادة صياغة استراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة. تعود واشنطن بقوة إلى دائرة الفعل بعد أن غادرت قبل ذلك بقوة في عهد الرئيس باراك أوباما. تصغي الإدارة الأميركية باهتمام لولي ولي العهد السعودي والعاهل الأردني والرئيس المصري الذين زاروا واشنطن تباعا، فيما يجول مسؤولو تلك الإدارة على عواصم المنطقة في سعي لرسم خارطة التحالفات الأميركية في المنطقة. وداخل هذه الخرائط، لإسرائيل موقع تريده واشنطن علنيا شفافا لا لبس فيه داخل توليفة يشارك فيها العرب.

يوقظ ترامب المسألة الفلسطينية وينزع عنها الكثير من الغبار الذي تراكم بسبب يأس أوباما وإدارته من تحقيق إنجاز ما. تترك الإدارة السابقة الأمر متعفنا، فالمفاوضات متوقفة، وورش المستوطنات لا تتوقف، وإسرائيل تهنأ بسماح دولي يتيح لها اغتيال العملية السلمية والبطش دون أي رقيب بأي مقاومة عسكرية. ومن موقع المتحيّز لإسرائيل والمدافع عن أمنها والواعد بنقل سفارة بلاده إلى القدس، يطل الرئيس الأميركي ممنّيا النفس بتسوية ليس هدفها بالضرورة خير الفلسطينيين، بقدر ما هي مناورة لقبول إسرائيل حليفا علنيا للعرب تحت الرعاية الأميركية.

أعطت القمة العربية الأخيرة في البحر الميت إشارة لافتة في هذا الشأن. في إعادة تفعيل المبادرة العربية للسلام ما يستبطن قبولا عربيا بالمسعى الأميركي من خلال تقديم العرب خارطة طريق لذلك. بدا أن واشنطن تحتاج إلى هذه الخارطة لتسويق مشروعها بسبل حديثة، وبدا أن “استدعاء” الرئيس الفلسطيني جزء من تلك الخارطة. لكن الإخراج التاريخي لأي تسوية قد يحتاج إلى جراحات داخل إسرائيل كما لدى الفلسطينيين.

قد يستغرب المراقب إعادة طرح الصحافة الغربية، وبمناسبة الإضراب عن الطعام، لاسم مروان البرغوثي خليفة للرئيس الفلسطيني. تلتقي جلبة ذلك الإعلام مع دعوات فلسطينية قديمة جديدة تعتبر أن زعامة البرغوثي منطقية وطبيعية وحقيقية (كافة استطلاعات الرأي تعتبره الأكثر شعبية بين الفلسطينيين)، وأن تبوءه سدة الرئاسة الفلسطينية قد تكون مدخلا لتسوية تاريخية كبرى.

لم يخطئ البرغوثي يوما في قراءة البوصلة الدولية، وهو منذ أن برز قياديا تتسابق وسائل الإعلام على استضافته، كان يردد أن السلم هو مبتغاه، وأن الصدام مع المحتل لا يمنع من الحديث والتفاوض معه. وحتى من داخل سجنه بقي البرغوثي يرسل رسائل السلم ويصرخ بها أمام الكاميرات التي قُيّضَ لها تسجيل حضوره داخل جلسات محاكمته.

لا يحيد البرغوثي عن روحية أوسلو، ولا يشوش على التفاهمات الدولية المبرمة بين السلطة الفلسطينية ودول العالم، حتى أن إضراب الأسرى الحالي عنوانه المطالبة بتحسين شروط الاعتقال، وكأنه يقول إن للتسويات السياسية منابر أخرى خارج هذا السجن.

قد يحتاج العالم إلى إخراج “مانديلا فلسطين” من معتقله. لا يبدو الأمر واردا لدى القيادة الإسرائيلية، على الأقل داخل التوليفة التي يقودها بنيامين نتنياهو. في الصحافة الغربية من يسرّب أن أمر إطلاق البرغوثي يتم تداوله همسا في الأروقة الدولية على قاعدة أن التسوية الكبرى لن يستطيع تسويقها إلا قيادي يمتلك من الزعامة ما يمكنه من إقناع شعبه بابتلاع لقمة صعبة قد تتطلب المزيد من التنازلات. قيل ذلك يوما عن ياسر عرفات الذي تمكن من خلال قيادته التاريخية من تمرير اتفاقات أوسلو وسَوْق جل الفصائل الفلسطينية داخلها. فتح له الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران قصر الإيليزيه قبل أن تكر السبحة وتفتح له باقي عواصم العالم أبوابها وتنقله الأيام رئيسا لفلسطين في قلب فلسطين.

قد يفتش العالم من جديد عن عرفات آخر. الأمر يستوجب نضوج ظروف تستدعي أيضا تبدلا في طبيعة الحاكمين في إسرائيل. فإذا ما كانت عقلية إسرائيلية معينة هي التي غيّبت “أبوعمار” على ما يشاع، فإن نفس العقلية ما زالت تتحكم بالقرار الإسرائيلي الذي لن يبتلع ظهور عرفات آخر. بالانتظار، تتداول واشنطن أمر فلسطين مع رئيسها الحالي، على أن يتولى ضجيج الأسرى التمهيد لاحتمال لم يعد مستحيلا.
نقلا عن العرب

أحدث المقالات