لم يشارك شيعة العراق في الحكم على نحو كبير كما شاركوا فيه بعد 2003، فقد عانت الاكثرية الشيعية التي تقدر نسبتها في العراق بنحو 65% من عدد سكان البلاد، من تهميش وإقصاء وظلم طائفي مفرط طوال عمر الدولة العراقية الحديثة.
ولعل أكثر حياة الشيعة ظلاما كانت تحت وطأة نظام حكم حزب البعث الذي نكّل بقياداتهم الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية الفاعلة او زج بها في السجون أو أرغمها على الهجرة وترك العراق.
ومن هنا يمكن اعتبار الإطاحة بحكم حزب البعث في 2003 فرصة تاريخية لشيعة العراق منحتهم لأول مرة حق المشاركة السياسية الفاعلة.
وللإنصاف فان الجماهير الشيعية العراقية كانت تواقة للعب دور سياسي يتناسب وحجمها السكاني وشاركت بقوة في الانتخابات لعدة دورات انتخابية وأوصلت احزابا وتيارات سياسية شيعية للسلطة على أمل ان تنهض هذه التيارات والاحزاب بالمسؤولية وتستعيد الحقوق المسلوبة والمضيّعة لجمهورها وتحمل همومه.
غير أن بعض القوى السياسية الشيعية التي افرزتها الانتخابات افتقرت الى الدراية السياسية التي تمكنها من قيادة دولة احيانا، واستغرقت في احيان أخرى في مماحكات وخصومات بينية موروثة او مستجدة غذاها الاعلام الخليجي والضغط الامريكي الذي كان يراهن على الانقسام الشيعي.
بالطبع هناك قوى عراقية غير شيعية وإرادات اقليمية ودولية لم تكن ترغب بأن يلعب الشيعة دورا سياسيا ناجحا لأسباب مختلفة، أهمها أن نجاح الشيعة سيقودهم إلى حكم البلاد بنظام الأغلبية السياسية وهو ما يعني استقلال القرار العراقي وتخلصه من الهيمنة الخارجية.
لذا عملت بقوة على إفشالهم سياسيا وحرصت على إزاحة شخصياتهم القوية، وجهدت في دعم وصول شخصيات شيعية ضعيفة لرئاسة الوزراء.
كما عملت هذه القوى على تمزيق الصف الشيعي وإثارة الخلافات فيه وتعطيل مشاريع الإعمار الاستراتيجية في العراق وخصوصا في مجال الطاقة، وأسهمت بشكل او بأخر في إشاعة الفساد المالي ومنع محاسبة الفاسدين لاسيما المرتبطين بها.
ويتذكر كثيرون كيف قامت أمريكا بتهريب وزير الكهرباء الأسبق أيهم السامرائي المتهم باختلاس مئات الملايين من الدولارات وحمته من المحاسبة، وكيف أن نظام المحاصصة الذي رعته أمريكا ودول عربية اقليمية قد مكّن فاسدين من الافلات من العقاب بعد أن كانت تصف عملية ملاحقتهم القانونية استهدافا طائفيا.
الى جانب ما قامت به قوى عراقية غير شيعية من منع استجواب او محاسبة مسؤولين متهمين بقضايا فساد في حين سلطت الضوء فقط على عمليات الفساد التي اتُهم بها بعض المسؤولين الشيعة وصورته اعلاميا وكأنه الفساد الوحيد في البلاد.
طبعا نحن هنا لا نعفي الكتل الشيعية من فساد مالي أو إداري ولن نلمع صور المتلكئين من المسؤولين المرتبطين بها، ممن فشلوا في استثمار مناصبهم لصالح مواطنيهم وخصوصا في الحكومات المحلية. لكن الإخفاق الشيعي لم يكن السبب الوحيد في تراجع الخدمات ولا هو الأول بالقياس لما حدث في مناطق أخرى من العراق.
وبشكل عام فهذه الاسباب وغيرها أدت الى انفراط عقد الشيعة السياسي تدريجيا بدءً من منتصف الولاية الأولى لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وصارت كتل وتيارات فاعلة في حكومته تمارس الاستقواء ولي الاذرع ضد بعضها تارة أو تسعى لإفشال المالكي تارة أخرى.
فعلى الرغم من كون تلك القوى شاركت فعليا في حكومتي المالكي الا انها سرعان ما كانت تتنصل عنها وتتهمها بالفشل دون أن تعيب على وزرائها ضعف ادائهم او فشلهم، وهم قد تولوا وزارات خدمية مهمة لو عملوا بجد وإخلاص ومهنية لقدموا الكثير.
ولاشك أن هذا الأداء من جانب بعض التيارات والقوى السياسية الشيعية يختلف تماما عن أداء القوى الكردية والسنية التي كانت أكثر تماسكا خصوصا حين تتفاوض في بغداد مع القوى الشيعية على مكاسبها وحصصها السياسية.
ما يلفت في الأداء السياسي الشيعي أنه لم يلحظ حجم المخاطر التي تهدد وجوده السياسي وغير السياسي واستمرت قوى شيعية معروفة في المشاكسة واختلاق الخلافات، والأخطر أنها اتخذت مواقف أكثر شراسة خصوصا في الولاية الثانية لنوري المالكي وباتت تتحرك بالضد من تحركه وفي اتجاهات معاكسة تماما.
فمثلا حين كانت الخلافات تتفاقم بين المالكي وتركيا والسعودية وبعض دول الخليج ورئيس اقليم كوردستان آنذاك مسعود البارزاني، كان قادة هذه القوى الشيعية الفاعلة يزورون الرياض وأنقرة واربيل ويعربون عن تضامنهم معها .
أما حين كان المالكي يحذر من منصات التظاهر التي شهدتها المناطق الغربية من العراق قبل 2014 ويعتبرها غطاء يخفي تحته خطة لإسقاط العملية السياسية، كان قادة شيعة يؤيدون علنا وسرّا تلك المظاهرات على الرغم من أن تنظيم القاعدة كان يهتف من على منصاتها.
وقد انعكست الخلافات السياسية الشيعية الحادة تلك على الشارع الشيعي فشقت وحدته وهو ما أثار شراهة القوى المتربصة بالشيعة فكثفت من جهودها السياسية والاعلامية والاقتصادية لتزيد من شق الصف الشيعي وصارت تعلن الفيتو ضد من يتولى رئاسة الوزراء ان كان لا يلبي اهدافها واطماعها .
وهكذا وصل الحال بالقوى الشيعية الى عدم قدرتها على الاتفاق على اختيار رئيس وزراء بعد أن استفحلت خصوماتها وخلافاتها الداخلية، وأوكل هذا الأمر المهم والخطير الى رئيس الجمهورية، وهي خطوة تنطوي على مخاطر جسيمة.
فمن يختاره رئيس الجمهورية سيكون ممثلا له من الناحية الفعلية وليس ممثلا للأغلبية الشيعية التي من حقها اختيار مرشح لمنصب رئيس الوزراء، هذا إن لم نقل إنه سيكون على هوى الرئيس والقوى الدولية التي باتت تتحكم بالقرار العراقي، وربما لا يستطيع رئيس الجمهورية التخلص من ضغوطها.
لقد أصبح الشيعة بسبب خلافاتهم أقلية سياسية على الرغم من كونهم يشكلون أغلبية يمكنها أن تدير البلاد دون الرجوع الى قصة التوافق والشراكة والفضاء الوطني التي كانت بمثابة فخ وقع فيه الشيعة فخسروا قرارهم وإرادتهم وتمثيلهم السياسي التنفيذي في رئاسة الوزراء دون مقابل.
ولكن هل يمكن معالجة الإخفاق الشيعي على الصعيد السياسي وكيف؟
“للحديث بقية”