هذا السؤال يفرض نفسه علينا بقوة، نحن الذين نراقب الاحداث، بعد أنْ وجَدْنا شوارع المدن العراقية تمتلىء بالمحتجين يوم الجمعة الماضي.
أنا شخصيا عبرت عن شكوكي من جدوى هذه التظاهرات، ومازلتْ.. ليس لأني راضٍ عن اداء الحكومة، بل على العكس، أنا دائما كنتُ ولازلت انتقد كل صغيرة وكبيرة أجدها في عداد الاخطاء، أو أجد فيها شُبهة فساد أو اختلاس ودائما ماكنتُ اتصدى لأي قرار وموقف تتخذه الحكومة العراقية عندما أجد فيه تجاوزاً واستهانة بحقوق المواطن، حتى القرارات التي تتعلق بالمجرمين كنا ننتقدها إذا لم يتم الالتزام بالحقوق التي ينبغي أن تتوفر للمجرم باعتباره انسانا يستحق العناية والرعاية قبل الترهيب والتعذيب والاساءات المتعمَّدة والمرفقة بعبارات طائفية وعرقية.
كنتُ مُشككا بهذه التظاهرات،لانها خرجت تحت عنوان المطالبة بتحسين الكهرباء،لأن البلاد مرَّت عليها مِحنٌ ونكبات كبيرة كان ينبغي أن يخرج فيها المتظاهرون احتجاجا وتنديدا وارغاما للحكومة من اجل محاسبة المسؤولين عن تلك القضايا، لكنها مرّت مرور الكرام،ولم تترك اثراً، ولم تستفز الثوار، ولا محتجّي هذه الايام !.
من هنا جاء الشكُّ بهذه التظاهرات،لانها لم تخرج قبل الآن،ولم تخرج في قضايا مصيرية، بل تغاضت عنها ساعتها..اليس سقوط الموصل تحت سلطة دولة الخلافة الاسلامية أمراً يستدعي الخروج الى الشوارع في حينها للضغط
على الحكومة من اجل استعادتها؟ الايستدعي أمر سقوطها التظاهر من اجل اعتقال كل القادة الميدانين المسؤولين عنها؟ لماذا التزم الجميع السكوت ولم يتظاهر عندما تم تهجير اكثر من مائة الف مسيحي من بيوتهم و مدنهم وقراهم في الموصل؟ لماذا لم يتم التظاهر عندما استبيحت مدينة سنجار التي تقطنها غاليبة ايزيدية واختطف التنظيم المئات من النساء والاطفال؟ لماذا لم يخرج المتظاهرون من اجل الضغط على الحكومة حتى يتم تحريرهم ؟ لماذا لم يخرج المتظاهرون احتجاجا على الصمت الحكومي ازاء عمليات الابادة الجماعية التي تتم بحق الموصليين الذين يقامون داعش منذ سقوطها في 10 / 6 / 2014. ؟
في نفس الساعات التي كانت التظاهرات قائمة على قدم وساق خلال اليومين الماضيين اقدم تنظيم الخلافة على اعدام اكثر من 3000 شخص في الموصل معظمهم يمثلون خيرة شباب ورجالات المدينة، من اطباء ومهندسين ومدرسين ومحامين وصحفيين،هم شرفائها الذين لم يرتضوا لأنفسم ان يُحكموا من قبل تنظيم ارهابي.
ألا تستحق هذه المصائب التي ندفع ثمنها يوميا أن يخرُج من اجلها المتظاهرون؟
لنا الحق ان نشكك؟ لنا الحق ان نتسائل؟ لماذا خرجتم الآن ولم تخرجوا أمس؟ لماذا خرجتم من أجل الكهرباء ولم تخرجوا من أجل المهجرين والنازحين الانباريين الذين رفضت الحكومة أن يدخولوا بغداد وترتكتهم منذ عدة اشهر ــ وحتى الان ــ في العراء وتحت لهيب الشمس دون أن توفر لهم ابسط الخدمات الانسانية،بل على العكس تفننت الاجهزت الامنية في الاساءة إليهم، وإذلالهم، وكل هذا يجري تحت عِلم وسمع وبَصرالاعلاميين والمثقفين والشعراء والكتاب الذين شكلوا اليوم اساس التظاهرة من اجل الكهرباء .
فهل خرجتم متظاهرين لانكم حُرمتُم شخصيا في بغداد من نعمة الكهرباء ؟ ثم وجدتم انفسكم فجأة بين ليلة وضحاها ــ ودونما قصد منكم ــ امام اهداف وشعارات اوسع مما كانت في حسبانكم ؟
اليس هؤلاء النازحين ـــ سواء العالقين منهم عند جسر بزيبز أو في اربيل أو في بقية المخيمات ــ يستحقون الخروج من اجلهم،وهم المحرومون مع اطفالهم من كل نعم الحياة: التعليم والدواء والغذاء والكهرباء والماء البارد والاحترام والكرامة؟
ألا يستدعي الوضع البائس لهؤلاء ان يخرج المتظاهرون من اجلهم؟ أم أن هناك اسباباً اخرى اكثر اهمية تستدعي التظاهر لانعرفها؟
لربما قد تكون اسباباً مناطقية أو طائفية هي التي منعت المتظاهرين الخروج لاجلهم !
يمكن لنا أن نضع هذا الاحتمال لاننا في العراق قد غرقنا في مشاعر الطائفية الى الحد الذي لم نعد نشعر بالالم عندما يُقتل جارنا فقط لأنه ليس على طائفتنا ؟
هذا الكلام ليس تجنيا على أحد بعينه ولا على شخص بعينه ولاطائفة بعينها،لأنه بات واقعا نعيشه..فانتمائنا الطائفي بات الحد الفاصل بين أن نكون ثواراً أو لانكون،متواطئين أو ساكتين أو راضين بما يجري .
انتمائنا الطائفي هو الذي يدفعنا لان نجيّش الأقلام والكُتَّاب والمواقع الالكترونية والصحف والفضائيات عندما يتعرض احد من الطائفة التي ننتمي لها الى إعتداء أو إساءة أو قتل من قبل جهة ما؟ وفيما لوتعرض المئات الى التهجير أوالذبح ــ كما هو حاصل هذه الايام في مدينة الموصل ــ نجد حالة من السكوت والتطنيش والتثويل تسود جميع اولئك الكتاب والثوار؟
اليست المعايير هنا طائفية؟ السنا هنا طائفيون؟ فكيف نكون ثواراً في لحظة ما ونكون طائفيين في لحظة اخرى؟
كيف نلتزم السكوت على الجريمة في مكان وندينها في مكان آخر،بينما الجريمة نفسها في كلا المكانين،وإنْ كان القاتل غير القاتل والضحية ليست نفس الضحية.
لماذا نذرف الدمع هنا،ونبتسم تشفِّيا هناك ؟ لماذا نصرخ بشعارات الكرامة والعدالة هنا،ونلتزم السكوت هناك ؟
بِمن نثق بعد الآن، وكيف لنا أن نثق ،اذا كان الحال على هذا الحال ! ؟
لنا الحق اذن عندما نكون في حالة شك..مِن حقنا أنْ لانكون مُطمئنين ..مِن حقنا أنْ نكون حذرين. .فبعد الذي جرى ويجري من مشاهد تثير العجب طيلة الاعوام الماضية التي اعقبت 9/ 4 / 2003 على مافيها من تناقضات وشُبهات ليس لنا أنْ نسمح لأنفسنا التورَّط مرة أخرى،وأن نندفع دونما تفكير طويل وراء عواطفنا..فلسنا على ثقة بعد الآن بأي شيء قد يحدث أمام أعيننا،فكيف اذا كان كل شيء يجري خلف أعيننا ! .
سننتظر ماذا ستفسر عنه الاحداث.. سننتظر ماذا سيكون لهذه التظاهرات من نتائج..لاتعنينا القرارات السريعة التي تصدر الآن،والتي تبدو في ظاهرها منسجمة ومستجيبة لطلبات المتظاهرين،بل يعنينا مدى الجدية في تطبيقها. لاننا ندرك جيدا أن مسألة التغيير ليست بتلك السذاجة عندما يتعلق الامر ببلد مثل العراق عشش فيه الفاسدون في كل مفاصل الدولة والحكومة والحياة واصبح لهم اذرع ومخالب تمتد الى كل مَن يتحرَّش بمصالحهم.فكيف لنا أن نقتنع بانهم سوف يستجيبوا ويخنعوا ويرضخوا ويركعوا هكذا بكل بساطة وبكل اريحية لضغط عشرات من المتظاهرين .! .
الفاسدون والمجرمون واللصوص ماعادوا افرادا ولااشخاصا معدودين في الدولة العراقية،بل اصبحوا احزابا ومؤسسات وميليشيات ومافيات تنمو وتتكاثر علنا ً دونما حذر ولاخوف،وفي كثير من الاحيان،بمباركة واضحة من السلطة وحتى من مراجع وشخصيات دينية كبيرة التأثير..فهل مِن
السهولة بمكان أنْ يتم تنفيذ قرارات العبادي الهادفة الى الاصلاح والتغيير هذا إذا سلمنا بجديتها ؟
لسنا نشك ابدا في نوايا المتظاهرين،ولا نوايا السيد العبادي.وليس لنا قدرة على معرفة إنْ كانت صادقة أم لا ،لكننا لانستطيع أن نثق بها إلاّ بعد أنْ نجدها قد تحولت الى قوانين وممارسات يتم تنفيذها.سنثق بها عندما نجد رموز الفساد والدمار الذي حل بالبلاد قد جلسوا امام لجان التحقيق لمعرفة مدى المسؤولية التي تسببوا فيها..سنثق بها عندما نرى الذين يثبت عليهم الجُرم ينالون العقاب الذي يستحقون.. حينها سنثق.