لا ينكر أحدٌ القيمة الحيوية للنفط في صنع نهضة اقتصادية واجتماعية في العراق خلال فترة السبعينات من القرن الماضي من خلال بناء المصانع والمعامل في كل محافظة عراقية وبالتالي استقطاب أعداد كبيرة من العاملين خاصة خريجي الكليات والمعاهد الفنية كذلك تقديم المساعدات المباشرة للدول الفقيرة بما فيها الدول الإفريقية آنذاك .. لكن لم يمنع ذلك من ظهور بعض السلبيات التي رافقت مرحلة الثمانينيات والتسعينيات بسبب الحروب المستمرة والحصار الاقتصادي , وربما لم يستطع العراق أن يتعاط مع هذه السلعة كمادة إستراتيجية تستخدم أموالها للتنمية الانفجارية والبناء التنموي للبلد… ولقد حاول العراق أن يستفيد من الطفرة النفطية في مراحل متباينة فأنشأ البني التحتية ونشط بعض القطاعات الاقتصادية وزادت الرفاهية بعض الشيء لولا الإرهاب الأعمى وظهور داعش على الساحة العراقية والفساد الإداري والمالي الذي صاحب عملية البناء تلك حالياً , إلا أن ما يؤخذ عليه أن اقتصاده بقي يعتمد على النفط وحده – تقريبا – حتى انتبهت الحكومة العراقية هذا العام وراحت تبحث عن حلول جذرية للتخلص من الأزمة المالية التي خلفها هبوط أسعار النفط مؤخراً .
وأسعار النفط تتقلب من ثلاثة دولارات للبرميل في الستينات إلى مئة وسبعة وأربعين دولارا كقمة سعر تاريخية يصلها برميل النفط في عام 2008 ليهبط إلى أربعين دولارا في أواخر العام نفسه بقيت الأسعار تتقلب هبوطا وصعودا تبعا للمعروض من المادة وظروف المستهلكين وتقلبات الفصول ونشوب النزاعات بل إن النفط نفسه أشعلها في أكثر من مكان واليوم تطيح إلى مستويات قياسية لكن الأمل بارتفاعها في وقت قريب يبدو بعيدا.
إن غالبية الدول العربية ومنها العراق ذات اقتصاديات مستهلكه وغير منتجه حتى المنتج منها فهو منتج للسلع الاستهلاكية وليس الإنتاجية وهي في غالبيتها دولاً مصدرة للنفط بكميات أكثر من حاجة السوق العالمية ومنها السعودية التي صدرت في بداية العام الحالي 2016 ما يقرب من (220) مليون برميل نفط , لذا فهي مرتبطة بالاقتصاد العالمي من خلال ارتباطها بالسوق العالمية كونها تعتمد في دخلها القومي على تصدير النفط آخذين في الاعتبار إن هذا السوق يهيمن عليه الاقتصاد الأمريكي وهذا ما يُعرف بالاقتصاد أحادي الجانب .. وهي جميعها وان كانت منتجه للنفط ألا أنها مستهلكة أيضا , فاقتصادياتها تابعه وليست مستقلة فَجُلُّ موادها الانتاجيه والاستهلاكية هي مستورده من خارج اقتصادياتها لذا فهي محكومه بالأسعار العالمية من جهة ومن جهة أخرى فهي محكومه بتقلبات أسعار صرف عملاتها الوطنية مقابل أسعار صرف العملات الرئيسية المهيمنة على التجارة الدولية وعلى رأسها الدولار الأمريكي الذي يعتبر غطاءً للغالبية الساحقة من العملات الوطنية في العالم والتي تتأثر قيمتها الحقيقية بتقلبات أسعار صرف الدولار وبالتالي
أسعار بضائعها المستوردة نزيد على ذلك إن الفساد المستشري في أنظمتها البنيوية يعزز سرقة المال العام وسوء توجيهه في عمليات الإنفاق الوطني مع غياب نظام وطني صارم يضمن توزيعا عادلا للدخل القومي إضافة إلى غياب الوعي الاستهلاكي لدى المواطن كلها عوامل فعاله تضمن عدم حدوث استجابة فعاله في هبوط الأسعار محليا .
لكن مع مطلع عامي 2015 و 2016 بدأت أسعار النفط بالهبوط التدريجي وأخيرا وصلت إلى ( 28 ) دولار لنفط برنت , أما النفط الأمريكي فقد هبط إلى ( 27 ) دولار أمريكي , وقد تصل إلى ( 20) دولار في القريب العاجل ,ما لم تخفض دول الأوبك وبقية الدول المنتجة للنفط تصدير النفط إلى ما يقرب من مليوني برميل يومياً , هذا الهبوط في الأسعار له أسباب كثيرة منها إغراق السوق إغراقا غير طبيعي تساهم فيه أمريكا بشكل أكبر عندما استخدمت خزينها النفطي البالغ (500) مليون برميل من أجل إسقاط أسعاره في السوق العالمية , إضافة إلى (30) مليون برميل تخرج يومياً من دول العالم النفطية المعروفة .. حرب الأسعار تلك غير جديدة علينا أنما بدأت عام 1973 عندما كان النفط سلاح في المعركة مع إسرائيل آنذاك, وقد انتهت الحروب معها دون أن تسقط وأعتمد الفلسطينيون في تحرير بلدهم على الحجارة بدلا من النفط العربي والإسلامي , لكن هذه المعركة أصبحت غير شريفة في القرن الواحد والعشرين , لآن الذي يتحكم بأسعار النفط اليوم شركات الكارتل النفطي والبيع بالأجل وليست منظمة الدول المصدرة للنفط ( الأوبك ) التي فقدت وجودها وسُيست مهماتها الأساسية , مما أثر سلباً على الدول التي تعتمد في اقتصادها على النفط فقط أو ما يسمى بالاقتصاد ألريعي مثل العراق ,حيث انخفضت إيرادات النفط العراقية من (8) مليار دولار شهرياً إلى (3) مليار حالياً أي بنسبة هبوط تقدر بـ 70 بالمائة ,فيما أعلنت فنزولا حالة الطوارئ الاقتصادية , كذلك الدول التي ارتفعت فيها كلف الاستخراج مثل البرازيل التي تصدر ( 2,6) مليون برميل يومياً وتصل كلفة استخراج البرميل الواحد فيها إلى (27) دولار مما يدفعها وبقية الدول الأخرى إلى التوقف عن إنتاج النفط لان سعر البيع في السوق لا يسد كلف الاستخراج ,أما السعودية فأنها تستطيع تحمل أسعار نفط متدنية لفترة طويلة في ظل توقعات بأنفاقها مبلغ قدره (100) مليار دولار على الطاقة المتجددة بدلا من اعتمادها على النفط .. وهذا يدق ناقوس الخطر في العالم وخاصة عالمنا العربي بأن – عصر النفط – أيل إلى الزوال حاله حال – عصر الفحم الحجري – الذي زال عندما بدأ التاريخ الحديث للنفط عام 1853 باكتشاف عملية التقطير والحصول على الكيروسين .
وأخيرا هل نحن مقبلون على عبور – عصر النفط – إلى عصر الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح ؟ مثلما لكل عصر انتهى بوفرة مادته يمكن أن يحصل ذلك مع النفط , فإمّا أن ينتهي المخزون منه قريبا خلال عقود قليلة من الزمن ودلالة ذلك هو الإنتاج الفائض عن حاجة العالم والمقدر بـ 80 مليون برميل يومياً مرشحا للزيادة , أو أن يفقد بريقه أمام مصادر بديلة لطاقة نظيفة وصديقة للبيئة , بدلا من مادة استخدمت كسلاح في المعارك التاريخية أرعبت العالم وأثارت فيه النزاعات ولوّثت البيئة حقبة من الزمن, فما نحن فاعلون في مرحلة ما بعد النفط ؟.