لقد شكلت السرديات الثورية، سواء العربية أو العالمية، جزءًا أساسيًا من وعي المجتمعات خلال القرنين الماضيين. فقد كانت هذه السرديات بمثابة “منظومة تفسير” تقدم أجوبة على أسئلة العدالة، الحرية، والاستقلال، وتجسد طموحات الشعوب في مواجهة الاستعمار والاستغلال والقمع. غير أن المشهد الدولي الراهن يوحي بانحسار واضح لهذه السرديات، بل وبانهيار كثير من رموزها ومقولاتها الكبرى.
فهل يعكس هذا الواقع نهاية السرديات الثورية كأفق للتغيير؟ أم أننا أمام تحولات أعمق أعادت تشكيل مفهوم الثورة وأدواتها؟
شهد القرن العشرون ذروة الحركات الثورية، سواء في بعدها التحرري ضد الاستعمار، أو في بعدها الاجتماعي المناهض للرأسمالية والإمبريالية. في الوطن العربي، تجسدت هذه السرديات في الحركات القومية (كحركة القوميين العرب)، ( وحزب البعث العربي الاشتراكي ) وحركات التحرر الوطني (مثل جبهة التحرير الوطني الجزائرية، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. عالميًا، كانت الثورة الكوبية (1959) والثورة الفيتنامية (1945-1975) من أبرز معالم هذا الزخم، إلى جانب الحركات اليسارية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا.
كانت هذه الحركات ترفع شعارات العدالة الاجتماعية، المساواة، التحرر الوطني، وحق تقرير المصير، وقد استندت إلى تحالفات دولية، خاصة مع المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي.
لكن، مع نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي في 1991، تلقت السرديات الثورية العالمية ضربة قاصمة. إذ انهارت بذلك أهم قوة كانت توفر الدعم السياسي، الاقتصادي، والأيديولوجي لهذه الحركات. شهد العالم منذ تسعينيات القرن الماضي تحولات جوهرية يمكن تلخيصها في: اولا :هيمنة النظام النيوليبرالي: إذ أصبح السوق الحر والتجارة العالمية إطارًا ناظمًا للعلاقات الدولية، مما أدى إلى تفكيك الكثير من آليات التضامن الدولي بين حركات التحرر. ثم سيطرة التكنولوجيا والإعلام الجديد: أصبح الإعلام أداة فعالة في صياغة الرأي العام لصالح قوى الهيمنة، وتم تهميش الأصوات الراديكالية أو تشويهها. مع احتكار العنف المشروع من قبل الدولة: بفضل تطور تقنيات الرقابة والسيطرة، استطاعت الدول (خصوصًا الاستبدادية) إخماد أي بؤر للتمرد بسرعة وفعالية. بلا ضافة الى تحول الصراعات الكبرى إلى صراعات هوية: مع تصاعد الخطابات الطائفية والعرقية بدلًا من الخطابات الطبقية والتحررية.
هذه التحولات أضعفت بشدة قدرة الحركات الثورية على الاستمرار أو استعادة المبادرة.
مثّلت ثورات ما سمي بـ ( الربيع العربي) لحظة فارقة أعادت الاعتبار مؤقتًا لمفهوم الثورة. ففي تونس، مصر، اليمن، ليبيا، وسوريا، خرجت الملايين إلى الشوارع للمطالبة بإسقاط الأنظمة الفاسدة والمستبدة. لكنها سرعان ما اصطدمت بجملة من العراقيل: منها تفكك البنى الاجتماعية والسياسية التي كان يمكن أن تحتضن مشروعًا ثوريًا متماسكًا. وتدخلات القوى الإقليمية والدولية التي أعادت تشكيل المشهد بما يتماشى مع مصالحها لا مع تطلعات الشعوب. فضلا عن غياب قيادة سياسية موحدة قادرة على توجيه الحراك الشعبي نحو تحقيق أهداف واضحة.
النتيجة كانت عودة الاستبداد بشكل أقسى في مصر، وتحول ليبيا وسوريا واليمن إلى ساحات حروب أهلية وصراعات دولية.
في ظل هذا السياق، يبدو أن السرديات الثورية بشكلها الكلاسيكي (القومية، الاشتراكية، التحرر الوطني) قد فقدت كثيرًا من فعاليتها. لم تعد قادرة على استيعاب التحديات الجديدة التي تواجه الشعوب:العولمة الاقتصادية التي جعلت من الاقتصادات الوطنية رهينة للشركات متعددة الجنسيات.أزمات البيئة والمناخ التي باتت تهدد بقاء المجتمعات ذاتها. تحديات التكنولوجيا والرقابة التي جعلت من المقاومة أكثر صعوبة.
لكن، في المقابل، ظهرت أشكال جديدة من الحركات الاحتجاجية التي قد لا تنتمي إلى السرديات الثورية التقليدية، لكنها تحمل روح التمرد: منها الحركات النسوية الجديدة التي تطالب بالعدالة الجندرية. وحركات البيئة والمناخ مثل “أيام الجمعة من أجل المستقبل” و”تمرد الانقراض”. بالاضافة الى الحركات الاجتماعية ضد الفقر وعدم المساواة (كما في حراك “السترات الصفراء” بفرنسا). وحركات الحقوق المدنية مثل “حياة السود مهمة” في الولايات المتحدة.
هذه الحركات تُعبر عن تحولات في معنى الثورة، من الثورة المسلحة إلى ثورة الحقوق، الوعي، والسياسات الاجتماعية.
المطلوب اليوم ليس مجرد استعادة السرديات القديمة، بل إعادة صياغة مشروع ثوري جديد يجيب عن التحديات المعاصرة، ويستوعب قضايا مثل: العدالة الاجتماعية العالمية. ومواجهة الرأسمالية المتوحشة. مع حماية البيئة من الاستنزاف. و مقاومة أنظمة الرقابة الرقمية.
إنها سردية ثورية عابرة للحدود، تتجاوز القومية الضيقة والأيديولوجيات التقليدية، وتبحث عن عدالة شاملة تجمع بين الإنسان والطبيعة، بين الحرية والكرامة. لا يمكن القول إن السرديات الثورية قد انتهت، لكنها بالتأكيد تعيش أزمة عميقة. وربما يكون هذا الانهيار الملموس للثورات التقليدية فرصة ضرورية لإعادة التفكير في معنى الثورة وأدواتها في القرن الحادي والعشرين. إنه وقت التأمل الجاد في كيف يمكن أن تقوم ثورة تستجيب لعالم شديد التعقيد، مسيطر عليه من قوى اقتصادية وإعلامية وسياسية هائلة.
فالثورات، في جوهرها، ليست مجرد حركات مسلحة أو شعارات في الميادين، بل هي فعلٌ إنساني دائم للبحث عن الحرية والكرامة.
والسؤال اليوم: كيف نصنع هذه الحرية في عالم لا يعترف إلا بالقوة والمال؟