23 ديسمبر، 2024 10:14 ص

هل انتقل فايروس الفوضى الخلاقة الى داخل اروقة السياسة الامريكية؟

هل انتقل فايروس الفوضى الخلاقة الى داخل اروقة السياسة الامريكية؟

بعد دورتين للديمقراطيين فشلت وزيرة خارجيتهم هيلاري كلينتون (76 عاما) في ان تحافظ على مقعد الرئاسة امام المرشح الجمهوري دونالد ترمب (78 عاما). لم يكن ترمب افضل المرشحين الجمهوريين خلال مرحلة الترشيح الانتخابي على مستوى الاحزاب. ولكن الظروف السائدة آنذاك ساعدت المرشح ترمب، ومن اهمها ان ادارة الرئيس باراك اوباما (63 عاما) ولدورتين متتاليتين اضعفت دور اميركا الخارجي وجعلته هامشيا بسبب انسحابه السريع من العراق والتساهل في قضية البرنامج النووي الايراني. وعانى الاقتصاد الاميركي خلال حكم الرئيس اوباما من اختلالات هيكلية نتيجة لرفع مستويات الضريبة على الاعمال وضعف تحفيز الاستثمارات الخارجية. كل ذلك وسع من حظوظ ترمب في الوصول الى سدة الرئاسة على الرغم من ان هيلاري كلنتون وبالنسبة لكثير من المتابعين كانت هي الأجدر والاكثر حضورا في المناظرات الرئاسية واصبح ترمب الرئيس الخامس والاربعين للولايات المتحدة. وقام مباشرة بعد وصوله للمكتب البيضاوي بفضح الكثير من الفعاليات والمخاطبات التي تثبت تورط ادارة اوباما في ادارة بعض الاحداث الارهابية ومنها العلاقة بين ادارة اوباما وايران، وموضوع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لمواجهة تنظيم القاعدة الذي اندحر وانسحب من افغانستان بعد الغزو الاميركي لأفغانستان، وتم احتضان اغلب قياداته في ايران ومنهم ابو مصعب الزرقاوي (1966-2006).
لقد قام ترمب وبطريقة غير مسبوقة بخرق الكثير من التوازنات الاميركية الداخلية والخارجية، وهدد العلاقات والتحالفات طويلة الأمد للولايات المتحدة الاميركية، وحول اميركا وبسرعة كبيرة لتكون بلطجي دولي. فأخذ يبتز الدول العربية النفطية وبطريقة وقحة. وقام بما لم يجرؤ احد على القيام به من الرؤساء الذين سبقوه، وهو الاعتراف بالقدس عاصمة لـ “أسرائيل”. وانسحب من حلف شمال الاطلسي بعد ان توقف عن دفع اشتراك الولايات المتحدة في ميزانيته. واوقف دعم منظمة الأنروا التي تمثل اتفاقا دوليا شاملا منذ عام 1949. واتخذ موقفا سلبيا متشددا من المهاجرين وهو امر مخالف لحاجة الولايات المتحدة الاقتصادية والديموغرافية على المدى الطويل. ولكن لا بد من الإقرار ان الاعمال قد تطورت على نحو كبير خلال دورته الرئاسية. وعلى الرغم من ان موقفه الاخلاقي من موضوع الحرب في افغانستان والعراق كان جيدا ورافضا للحروب الاميركية التي خاضها سلفه الجمهوري بوش الصغير الا انه لم يتقدم بخطوة واحدة باتجاه تصحيح الوضع في افغانسان والعراق. ويبقى موقفه الرافض للاتفاق النووي مع ايران موضع اختلاف بين ترحيب عربي واقليمي ورفض اوربي.
لم يكن فشل ترمب في مجاراة المرشح الديموقراطي جو بايدن (81 عاما)، امرا مفاجئا للكثير من الاوساط المطلعة على السياسة الاميركية وخباياها. فان ترمب وان حاول جاهدا ارضاء اصحاب الاعمال والطبقات العاملة التي حاول ان يحميها من خلال ايقاف الهجرة الاجنبية الى اميركا، الا انه ادخل اصبعه في وكر الدبابير، ولم تكن دوائر الحكم السرية في الولايات المتحدة راضية عمّا صنعه ترمب في اربعة اعوام. فقد اشار ترمب ولمرات عديدة الى فساد الدولة العميقة في الولايات المتحدة. ولم يكن ترمب بعيدا عن وقائع الرشوة والابتزاز وعمليات شراء الرأي والاصوات التي تحدث يوميا في الولايات المتحدة، وذلك لأنه رجل اعمال كبير وبامكانه ان يرى الكثير من تلك العمليات الفاسدة التي تمر امامه صدفة او عمدا. وقد اصبح معروفا كيف تتدخل السفارات الاجنبية لتشتري ذمم اعضاء الكونجرس الامريكي. وكذلك يفعل كبار رجال الاعمال في العالم.
لقد فتحت الليبرالية ابوابها مشرعة امام غير الليبراليين للتحكم بسياسات الولايات المتحدة. واصبح لفلاديمير بوتين، وشي جين بينغ، وكيم جونغ اون، ورجب طيب اردوغان، وعلي خامنائي وغيرهم من قادة الخطوط غير الليبرالية في العالم، اعوان وادوات داخل الإدارات الاميركية مع تنامى ملحوظ لتأثير شركات الدعاية في القرار الامريكي. واصبح بالامكان ان تقابل الرئيس الامريكي بعد ان تدفع لإحدى شركات الدعاية مبلغأ وقدره 150 الف دولار امريكي، وحتى وان كانت مقابلته له لا تضيف شيئا الى المصلحة الامريكية. واصبحت شركات الدعاية تروج، لكل من له حاجة في البيت الابيض من سياسيي العالم الثالث، الى امكانية تغيير وجهة النظر الامريكية من خلال حملة دعاية تؤثر على الرأي العام الامريكي. وكانهم يقولون ان البيت الابيض خاضع للراي العام وليس لدوائر الحكم السرية او الدولة العميقة. ويمكن متابعة حملات الدعاية والمقالات التي تظهر في الصحف الاميركية ومن بينها النيويورك تايمز والواشنطن بوست قبل زيارة اي رئيس من العالم الثالث الى الولايات المتحدة الاميركية، لأن هذه الشركات توهم سياسيي العالم الثالث بحجم تاثير تلك الصحف والاعلانات على الرئيس الامريكي وحاشيته.
رفض ترمب ان يكون جزءً من هذه اللعبة وحارب الاعلام الذي يسيطر عليه روبرت مردوخ (93 عاما) ورفاقه، وحارب الدولة العميقة. وعين مديرا جديدا لمكتب التحقيقات الفدرالي وهو الجمهوري كريستوفر راي (58 عام) من اجل مساعدته بالتحرك ضد الاجنحة الخفية في الدولة العميقة، وحرك الماء الراكد في وزارة الدفاع وفي الوزارات الاخرى. لذلك خسر ترمب امام بايدن على الرغم من انه كان ولا زال افضل من بايدن في مخاطبة عقلية الكاوبوي الامريكية، وحتى في ادارته للفعاليات الخارجية للادارة الاميركية، وان كان اقل ثقافة واضعف في القضايا البروتوكولية من كل الذين سبقوه. ولم يقبل الخسارة كما هي عادة المرشحين الخاسرين في الولايات المتحدة. بل حرض الشباب والداعمين له على اقتحام مبنى الكابتول.
تخلّت الولايات المتحدة خلال عشرين عاما عن الكثير من مكونات منظومتها القيمية التي لطالما روجتها للعالم. ولم يعد الناس في العالم، ولا حتى في اميركا، يرونها النموذج، فهل انتقل فايروس الفوضى الخلاقة الى العملية السياسية في الولايات المتحدة الامريكية؟