23 ديسمبر، 2024 8:31 ص

هل الكون والعقل مجرد كومبيوتر؟

هل الكون والعقل مجرد كومبيوتر؟

الصراع لا ينتهي بين الفلسفة المادية التي تعتبر أن الكون والعقل مجرد كومبيوتر والفلسفة اللامادية التي تقول إن الكون والعقل مختلفان عن أي آلة. في هذه المقالة نرصد الموقف المادي المتمثل بنظريتي عالِم الهندسة الكمية سيث لويد  و السيكولوجي دانيال دينت كما نطرح الموقف المنافس لهما المتمثل بنظريتي عالِم الرياضيات روجر بنروز والفيلسوف روبرتو أنغر. أما غياب الحكم النهائي حول أي مذهب من هذه المذاهب المتنافسة هو المذهب الصادق فيدفعنا نحو القول بلا محدّدية الكون و العقل.
    يُقدِّم عالِم الهندسة الكمية سيث لويد تصوراً فريداً عن الكون فيعتبر أن الكون كله مجرد كومبيوتر يقوم بحسابات رياضية. بالنسبة إلى لويد ، كل نظام فيزيائي عبارة عن عملية حساب للمعلومات. فأي نظام فيزيائي يحتوي على معلومات ويتكوّن منها ومن عملية حسابها. أما تغير أي نظام فيزيائي فهو مجرد تحوّل في عملية حساب المعلومات. من هنا من الممكن تصوّر الأنظمة الفيزيائية كافة على أنها حسابية كالكومبيوتر تماماً ، و لذا يصف لويد الكون على أنه كومبيوتر ويفسّره على ضوء أنه يتشكل من حسابات للمعلومات كالتي يتضمنها الكومبيوتر ويتشكل منها. بالنسبة إلى لويد ، كل الأشياء ومن بينها الذرات والجسيمات كالألكترونات تحتوي على معلومات ، و أي تفاعل بينها ليس سوى عملية تحويل للمعلومات. فالكون كومبيوتر كمي. لكن ماذا يحسب الكون؟ يجيب لويد بأن الكون يحسب ذاته أي تصرفه بالذات. 
(Seth Lloyd : Programming the Universe. 2007. Vintage  Books)
     يشرح لنا لويد اختلاف الكومبيوتر الكمي عن كومبيوتراتنا العادية. فالكومبيوتر الكمي يُبنى على ضوء ميكانيكا الكم ، و بذلك يتخذ صفات النظام الكمي. بالنسبة إلى ميكانيكا الكم، الموجات تتصرف كالجسيمات ، و الجسيمات تتصرف كالموجات ، و الشيء نفسه قد يوجد في مكانين مختلفين في الوقت ذاته. على هذا الأساس ، الكومبيوتر الكمي ينجح في القيام بملايين من الحسابات معاً. ففي هذا الكومبيوتر كل ذرة والكترون و فوتون تشارك في تسجيل المعلومات و حسابها. من هنا يكتسب الكومبيوتر الكمي قدرة هائلة على القيام بحساباته بدقة و سرعة لا نعهدها في كومبيوتراتنا التقليدية رغم أننا اليوم لم نتمكن من بناء هذا الكومبيوتر الكمي المتطور إلى هذا الحد. وبما أن الكون بكل أجزائه و طاقاته ومواده يمتلك تلك القدرة الهائلة (على تحقيق حساباته) التي يمتلكها الكومبيوتر الكمي المتطور ، إذن يستنتج لويد أنه لا يوجد فرق بين الكومبيوتر الكمي و الكون. و بذلك الكون ليس سوى كومبيوتر كمي (المرجع السابق).
    لكن مما يتكوّن هذا الكومبيوتر الكوني؟ يجيب لويد بأن قوانين ميكانيكا الكم و التقلبات الكمية تشكّل الكومبيوتر الكوني ؛ فقوانين ميكانيكا الكم هي برامج الكومبيوتر الكوني ، و التقلبات الكمية هي التي تجعل الكومبيوتر الكمي يعمل. بالنسبة إلى ميكانيكا الكم ، مبدأ اللايقين يحكم عالم ما دون الذرة ؛ فمن غير المُحدَّد مكان الجسيم و سرعته في آن. فالكون عرضة لتقلبات كمية تجعله غير مُحدَّد في ماهيته و صفاته. و هذه التقلبات الكمية تزوِّد الكون بمعلومات جديدة باستمرار و كأنها الأفراد و العلماء الذين يتحكمون بعمل الكومبيوتر. من هذا المنطلق ، يفسّر لويد التعقيد في الكون على النحو التالي : في النظام الكومبيوتري ثمة برامج بسيطة مع معلومات كثيرة تؤدي إلى نشوء نتائج معقدة. وبما أن الكون كومبيوتر كمي حيث برامجه هي قوانين ميكانيكا الكم ومعلوماته متدفقة من التقلبات الكمية ، إذن من الطبيعي أن ينتج الكون بوصفه كومبيوتراً كمياً التعقيدات الموجودة فيه. هكذا يفسّر لويد وجود التعقيد الكوني على ضوء نموذجه العلمي القائل بأن الكون مجرد كومبيوتر. و بذلك يكتسب نموذجه قدرته التفسيرية. و هذا ما يطلبه أي نموذج علمي. من هنا تملك النظرية القائلة بأن الكون كومبيوتر فضائل معرفية منها تفسير نشوء التعقيدات في الكون ما يدعم مقبوليتها (المرجع السابق).
    من جهة أخرى، كما من الممكن دراسة الكون على أنه كومبيوتر من الممكن دراسة العقل على أنه كومبيوتر أيضاً. من هنا يدعونا الفلاسفة إلى تصوّر عالمة تدعى ماري. يقولون : تخيلوا معنا أن ماري عاشت معظم عمرها في مختبر علمي حيث كل شيء من حولها أسود و أبيض فقط  فلم تتعرض إلى أي لون ولم ترَ لوناً. رغم ذلك ماري عالمة فيزيائية بعلم الألوان ؛ فهي قد درست مما تتكوّن الألوان و كيف تتكوّن. لكن تنتهي قصة ماري في أنها تخرج أخيراً من مختبرها لتواجه العالم الواقعي بكل ألوانه ، فترى الألوان المختلفة التي نراها. هنا يبدأ الصراع بين الفلاسفة. فأصحاب المذهب المادي أو الوظائفي يقولون إن ماري هذه لن تندهش برؤية الألوان و لن تكتسب تجارب جديدة تعلمها ما هي الألوان و كيف من الممكن الاحساس أو الشعور بها. أما الفلاسفة الذين يرفضون اختزال العقل إلى مجموعة حالات دماغية أو مجموعة وظائف و ميول سلوكية فيقولون إن ماري هذه سوف تندهش برؤية الألوان وستكتسب تجارب جديدة تعلمها المزيد عن الألوان وكيف نحس أو نشعر بها.
 (Daniel Dennett : Consciousness Explained.1991. Penguin Books).
    مثل ذلك أن الفيلسوف و السيكولوجي دانيال دينت يعتبر أن ماري لن تكتسب معرفة إضافية عندما ترى الألوان لأنها تعرف كل ما يجب معرفته عن فيزياء وكيمياء الألوان. وبذلك يعبّر دينت عن مذهبه المادي الوظائفي في العقل. بالنسبة إليه ، بما أن العقل مجرد دماغ و وظائف و ميول سلوكية ، إذن بمجرد أن تملك ماري المعرفة العلمية بالألوان فهي حينها تعلم أيضاً كيفية الشعور و الاحساس بالألوان. من هنا يؤكد دينت على أن ماري لا تكتسب معرفة إضافية بعد خروجها من مختبرها الخالي من الألوان ، بل لقد تمكنت من استنتاج كيف نشعر نحن بالألوان و نحس بها من خلال معارفها العلمية بعلم الألوان. و يتهم دينت المعارضين بأنهم يقعون في المصادرة على المطلوب حين يقولون إن ماري ستكتسب معرفة إضافية بعد خروجها من مختبرها. فبما أنه قدّم برهاناً على أن ماري لا تكتسب معرفة جديدة بسبب علمها الحق بالألوان ، إذن الاصرار على أن ماري ستكتسب معرفة إضافية برؤيتها الألوان هو مجرد مصادرة على المطلوب لأن المطلوب هو البرهنة على أنها ستكتسب معرفة جديدة بينما المعارضون يسلّمون بذلك بدلاً من أن يبرهنوا عليه (المرجع السابق). هنا يظهر العقل على أنه مجرد كمبيوتر يقوم بحساب المعلومات ؛ فعلى ضوء قوانين و معلومات معينة في الدماغ تنشأ بشكل آلي كل وظائف العقل و صفاته من أحاسيس و مشاعر. فإذا كان العقل مجموعة وظائف ، و بما أن الكومبيوتر مجرد وظائف معينة ، إذن العقل ليس سوى كومبيوتر. هذه هي النتيجة الأساسية للمذهب المادي الوظائفي في العقل.

    لقد رأينا نجاح تفسير الكون و العقل على أنهما مجرد كومبيوتر ؛ فهما كومبيوتر لأنهما يتشكلان من عمليات حسابية. لكن عالِم الرياضيات روجر بنروز يقدّم حجة قوية ضد هذا الموقف. يعتمد بنروز في حجته على نظرية عالِم المنطق كارت غودل التي تقول إن أي نظرية رياضية تحتوي على عبارات من غير الممكن البرهنة على صدقها رغم أنها صادقة. وبذلك تلك العبارات الرياضية غير حسابية ، أي من غير الممكن أن تكون جزءاً من عملية حسابية. من هنا يستنتج بنروز أن الادراك الرياضي ليس آلياً ولا حسابياً ، و لذلك من الخطأ تصوّر العقل على أنه مجرد كومبيوتر يقوم بعمليات حسابية.
 ( Roger Penrose : The Emperor’s New Mind.1999.
Oxford University Press (

     من المنطلق ذاته ، من الخطأ اعتبار الكون مجرد كومبيوتر أو مجموعات من عمليات حسابية آلية لأن ثمة عبارات صادقة تشير إلى حقائق رياضية من غير الممكن أن تكون جزءاً من عمليات حسابية كومبيوترية. أما الفيلسوف روبرتو أنغر فيعتبر أنه من الخطأ تحليل العقل على أنه كومبيوتر لأسباب عدة هي : أولاً ، التفكير لا يعمل فقط على أساس التسليم بمسلّمات أو معلومات معينة و القيام بالاستنتاج منها كما يفعل الكومبيوتر ، بل العقل حر في الانتقال من مسلّمات إلى أخرى و من استنتاجات إلى أخرى.  ثانيا ً، التفكير لا يعتمد على القواعد المتشابهة لتحديد المعاني المتشابهة ، بل يستخدم القواعد اللغوية نفسها ليُظهر معاني مختلفة و يُظهر معاني متشابهة من خلال قواعد لغوية مختلفة على نقيض مما يفعل الكومبيوتر. ثالثاً ، العقل ليس قياسياً. لا يُحصر عمل العقل في جزء من الدماغ دون جزء آخر منه ، و عمل العقل غير مُغلق في سجون مجموعة معينة من القوانين أو مجموعة معينة من مبادىء التفكير. فمثلاً ، يستنتج العقل نتائج جديدة تعارض نتائجه القديمة ، و لذا العقل غير قياسي على نقيض الكومبيوتر. بالنسبة إلى أنغر ، يفكر العقل و يكتشف ما قد لا نستطيع البرهنة عليه و ما قد لا نفهمه أصلاً. و هذا ما لا يفعله الكومبيوتر. لذا العقل مختلف عن الكومبيوتر. باختصار ، العقل يفاجئنا و يدهشنا بأفكاره ونتائجه، و هذا ما يفتقر إليه الكومبيوتر لأن الكومبيوتر محكوم بمبادىء و قوانين مُحدَّدة.
Roberto Unger : The Self Awakened : Pragmatism)
(Unbound . 2007.  Harvard   University  Press
    قد يصدق الموقف السابق على الكون ككل لأن الكون أيضاً يدهشنا بما يملك و يُنتج. الآن ، يبدو أن لدينا أدلة قوية على أن الكون و العقل مجرد كومبيوتر ، كما لدينا أدلة قوية على أن الكون و العقل ليسا مجرد كومبيوتر. من هنا ، من غير المُحدَّد ما إذا كان الكون و العقل مجرد كومبيوتر أم لا. هذا هو موقف السوبر حداثة التي بالنسبة إليها اللامُحدَّد يحكم العالم. تعتبر السوبر حداثة أنه من غير المُحدَّد ما هو الكون و ما هو العقل ، و لذا تنجح النظريات المختلفة في وصف و تفسير الكون و العقل رغم التعارض فيما بينها. فمثلاً, بما أنه من غير المُحدَّد ما إذا كان الكون و العقل مجرد كومبيوتر أم لا ، إذن من الطبيعي أن ينجح إلى حد معين تفسيرنا لهما على أنهما كومبيوتر كما أوضح لويد و دينت ، و أن يفشل إلى حد آخر هذا التفسير ذاته كما أوضح بنروز و أنغر و تنجح نظرات أخرى في الكون و العقل. هكذا تتمكن السوبر حداثة من تفسير نجاح المواقف و النظريات المتعارضة في وصف الكون و العقل ، و بذلك تكتسب السوبر حداثة قدرتها التفسيرية فمقبوليتها.