يقدم الفيلسوف والمؤرخ الفرنسيّ (رينيه جيرارد) النظريّة المُحاكية في إعادة التفكير في العَلاقة الشائكة بين العنف والثقافة والدين،من خلال شرح قدمه مجموعة مؤلفين أبرزهم الكاتب سكوت توماسوآخرون في كتاب بعنوان (إعادة التفكير في العنف الديني نحو مقاربة مُحاكية للعنف في العلاقات الدولية).
وفي ربط هذه العَلاقة ببعض القضايا الأساسيّة في نظرية العَلاقات الدوليّة. وتحت أيّ ظروف إن كان الدين يُسهم في إرساء السلام أو تأجيج العنف، حيث تُعيد النظريّة المُحاكية بناء التأسيس السائد لإشكالية الدين والعنف، انفجار العنف الذي يُقلل السلام الاجتماعيّ أو اللُّحمة الاجتماعيّة. وتفحص هذه النظريّة وبشكل نقديٍّ مصادر العنف المستور والمخفيّ من خلال سعيها لتفسير التباس عَلاقة الدين بالعنف، فهي تحاجج وبشكل صادمٍ، عن نقيض ذلك تماماً لأن العنف يثوي في قلب المقدس نفسه، وأنه قد كان على مدار التاريخ مركزيًّا للطريقة التي أسست بها المجتمعات الثقافة والدين والمقدس تأسيساً اجتماعيًّا.
وبناء عليه، على المقدس والعنف المقدس ترتكز الأساطير المؤسسة لأيّ مجتمع، وليس فقط المجتمعات التي يحكمها طغاة مستبدون أو دول فاشلة، تعاني من حروب أهلية وأزمات إنسانية. ومن ثَم فإن النظريّة المُحاكية تقوم بإزاحة العدسة التي يتم تأويل إشكالية الدين والعنف من خلالها. إنها ترمي إلى فضح مصادر العنف المخفيّ، المستور الذي يحدث في بلداننا وفي سياستنا الخارجيّة وفي البلدان الأخرى، وبفعلها ذلك يمكننا نحن أن نبدأ في التغلب على ضروب أيديولوجيات كبش الفداء التي تُنتج أشكالاً مدمرةً من النظام الاجتماعيّ في المجتمع المحليّ وفي السياسة الخارجيّة وفي المجتمع الدوليّ. وبعد أن أصبحت مسألة العنف الدينيّ مشكلة مهمة من مشكلات السياسة الخارجيّة والأمن القوميّ منذ نهاية الحرب الباردة قدمت النظريّة المُحاكية نقداً لمفهوم العنف الدينيّ في دراسة العَلاقات الدوليّة. فبالنسبة للمُنظرين المُحاكين فإنَّ اختراع مفهوم العنف الدينيّ لم ينجح في الوصول إلى جذور العنف، بل إنه يختزل دراسة الدين والعنف في التماس النظام في التماس أفعال عنف محددة بوضوح، والتحكم فيها بل وحتى السيطرة عليها، وإن العنف حسب هذه النظريّة هو الوصف الطبيعيّ في العَلاقات الاجتماعيّة.
وبالتالي فإن مفهوم مجرد للدين فوق ثقافيّ أو فوق تاريخيّ، بمعنى متجاوز للثقافة والتاريخ يمكن تطبيقه على كل المجتمعات، هي فكرة تم تحديها وعلى نطاق واسع، في تخصصات شتى كالتاريخ واللاهوت والدراسات الدينيّة. ومن هذا المنطلق يمكن للعنف الدينيّ بوصفه مقولةً تفسيريةً أن يُفهم بشكل أفضلَ عن طريق تحليل السياسة الخارجيّة خاصةً في النقاشات الدائرة حول الإسلام والسياسة الخارجيّة والإرهاب. وهو الأمر الذي من شأنه أن يبين أهمية دراسة الدين بوصفه مؤسساً اجتماعيًّا، وليس مفهوماً مجرداً متجاوزاً للثقافة والتاريخ، مفهوماً يتحدى ما يعدّ علمانيًّا أو مقدساً.
أما الكاتب وليام كافانو، في كتابه (أسطورة العنف الديني الإيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث). يوضح أن في الثقافة الغربيّة تنتشر منذ القدم الفكرة الرائجة بأن الدين يسبب العنف، وإذا لم يكن الدين سبباً للعنف فإنه على الأقل عامل يُسهم في العديد من الصراعات في التاريخ الإنسانيّ، وبحسب رأيهم فإنَّ جُل فكرة الغرب هذه اتجاه الدين تأتي بسبب العديد من الصراعات والحروب الدمويّة في التاريخ القديم منذ الحرب المقدسة والحملات الصليبية، ومحاكم التفتيش. وترى الثقافة الغربيّة أن الدين قد شرعن لاضطهاد الفقراء والنساء. ونتيجةً لهذا فقد أعدَّ الغرب الدينَ متورّطاً في المحافظة على البنية الاجتماعيّة للعنف.
ومع بدايات القرن الحادي والعشرين كان استعداد رجال الدين لمباركة أيِّ حرب تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكيّة يمثل دليلاً آخر على نزوع الدين نحو العنف، بالإضافة إلى ذلك الإرهاب الذي تمارسه بعض الفصائل المسلحة والحركات الراديكاليّة والأصوليون المسلمون، عندما أقحمت هذه التيارات الدين أيديولوجيا بالسياسة. وبلا شك فنحن أمام مجموعة كبيرة من الأيديولوجيات والممارسات والمؤسسات: الإسلام والماركسيّة والرأسماليّة والمسيحية والقوميّة والكونفوشية واليهودية، والدولة القوميّة والليبرالية والعلمانية والهندوسية وغيرها، بيد أن جميعها يُمكن أن تدعم العنف تحت ظروف محددة.
وتأسيساً لما تقدم فإن أسطورة العنف الدينيّ هي الفكرة التي تقول” إن الدين بما هو سمة عابرة للثقافة والتاريخ والحياة الإنسانيّة، مختلف جوهريًّا عن السمات العلمانية كالسياسة والاقتصاد، لأنه يميل ميلاً خاصًّا وخطراً نحو العنف، ومن ثّم لا بدّ من كبحه ومنعه من الوصول إلى السلطة العامة”.
ولكن الأسطورة هذه ليست قائمة على حقائق امبريقية عملية، وإنما هي بناء أيديولوجيٌّ يشرعن أنواعاً معينة من السلطة، فقضية أن الدين يمتلك نزوعاً خاصًّا نحو العنف، فهي تخدم أهدافاً محددة لمن يروج لها في الغرب. فعلى المستوى المحليّ استُغلت هذه الأسطورة في تهميش أنواع معينة من الخطابات ذات الطابع الدينيّ. وعلى مستوى السياسة الخارجيّة والعَلاقات الدوليّة تساعد في تعزيز بعض المواقف الغربيّة وتسويغ سياستها في العالم غير الغربيّ، وتحديداً في العالم الإسلاميّ الذي يقع جوهر الخلاف بينه وبين الغرب في رفضه لإقصاء الدين من المجال السياسيّ.