23 ديسمبر، 2024 3:09 ص

هل الحقيقة مجرد أوهام ؟

هل الحقيقة مجرد أوهام ؟

الحقيقة كما قال الفيلسوف نيتشه مجرد أوهام نسينا أنها كذلك، من فرط قدمها وتغلغلها في أعماق المنطق والفكر الخالص، فرضت نفسها على الناس كحقائق صلبة ويقينية ، من فرط تقادمها نسي الناس أنها بالفعل حقائق مطلقة ونهائية، يرويها الناس كأساطير وحكايات من نسج الخيال، نحكيها كقصص واقعية من الأمس القريب والبعيد، نعتبرها وقائع صحيحة أو روايات مبالغ في تقديرها، في تبجيل شخصيات معينة من التاريخ إما بالتهويل أو التهوين، لكن الصواب ليست كل الحقائق أوهاما، وليست كل الأفكار أصناما، يكفيك الحفر في أعماق التاريخ وترسبات المعرفة حتى يمكنك استخلاص النتائج المفيدة في فهم العالم، وفي كل ما ترسخ في أذهاننا من حقائق وأوهام، جزء من الأوهام بفعل الأيديولوجيات، والجزء الآخر بفعل المؤرخين والمربين، وما بقي عبارة عن أقوال متناثرة وسرد دو طابع بيداغوجي تربوي عن الحكايات والقصص، وكل ما تراكم في المخيال الاجتماعي من زمن الماضي، كما لا يخلو تاريخ المجتمعات من حقائق تاريخية يتم تدريسها للأجيال اللاحقة كجزء من الفهم للماضي واستشراف المستقل وأخذ العبر، وهذا الأمر يندرج ضمن فوائد التاريخ وأحداثه، ضمن صيانة الذاكرة الجماعية، وتقوية الهوية . هنا تتجلى الحقيقة من خلال وظيفتها بناء على آليات وقنوات في ترسيخها، الحقيقة في عوالم مختلفة، في مجال السياسة والسلطة، والتي يعاد إنتاجها من خلال أدوات وإجراءات غاية في الدقة والتمويه، الحقيقة في المجال الاجتماعي والأخلاقي والثقافي، وهنا تعتبر موضوعية ومادية، تقاس بالنفع والنتائج، فليست الحقيقة متعالية، ولا تعني أنها مفارقة للعالم الواقعي، لكنها موجودة في هذا العالم، إنها مفعمة بالسلطة والعمل في التحليل الفوكوي، وتحتاج لسبر أغوارها وانتشالها كذلك من كل الأبعاد الأيديولوجية، عندما نكتشف حقيقة الخطاب الحقيقي من الخطاب المزيف، نفهم طرق تمرير الحقائق بشكل مرن وباليات محكمة والتي تنم عن غايات وأهداف معينة لإعادة إنتاج الأنساق الفكرية والثقافية أو الحفاظ على السائد من الأنظمة والأفكار المسيطرة، الحقيقة الموجهة بالمنافع، وكل ما يفيد الناس لأن الجماهير الواسعة ليست متلهفة للحقيقة، ولا تجهر بقولها لأنها تجلب الضرر والعواقب غير الحميدة، ويخفي الإنسان نواياه، ويطمع في النتائج الحسنة، ويستخدم في ذلك العقل والمهارات اللغوية، فلا يقول الإنسان الحقيقة إلا لأجل جلب المنافع والحفاظ على ذاته ومصالحه، وعلى الطريقة البرغماتية، يعتبر وليام جيمس أن الحقيقة ليست سوى فرضية يفترضها الإنسان لكي يستعين بها على حل مشكلات الحياة ، بهذا المعنى نفهم الحقيقة بعيدا عن الصرامة المنطقية والتعريفات الفلسفية، من حيث التطابق والتوافق بين الفكر والواقع المادي، وبين ما في الأذهان وما في الأعيان، وعلاقة المنطوق بالحكم والأشياء . الحقيقة هنا في مصداقية الأفكار لإنتاج المفيد للفرد والمجتمع، للفكر والسلوك بحيث تؤدي الأفكار للتغيير في خطة العمل .
ليست هناك حقائق ثابتة في تعريف نيتشه بل هناك تأويلات، والعالم الذي نفهمه ونعتقد أننا نعيش في وسطه ما هو إلا حلبة للصراعات والنزاعات على الخيرات والزعامة، عالم تطبعه القوة والنزوع نحو السلطة والتسلط ، يستعين الناس باللغة والخطاب في إقناع الجماهير بالحقيقة المعطاة، وسائل مهمة في الخطابة والإقناع لاستمالة الجمهور بكل ما يمنحه المنفعة ويعزز المصلحة، الحقيقة ليست حرة مجردة من كل القيود، بل الحقيقة هنا تعني القيود ذاتها ، وهم يُرسي في العقول حقائق من خلال الأخطاء العالقة في الذهن، والتي تسربت في غياب العلم والفهم، لعل الفلاسفة في مجمل أعمالهم حاولوا بالفعل انتشال الحقيقة من كل السلبيات العالقة والراسخة، لكنهم وضعوا الحقيقة في خانة معينة بناء على رؤيتهم للعالم، لم تكن تلك الرؤى سوى تأويلات لما يحمله الفلاسفة من أحلام وأوهام، رؤى تندرج ضمن تحسين المدارك، ونداء من أجل عالم أفضل . الحقائق التي يبنيها العقل والمنطق، والحقائق التي ترسمها الحواس وتؤطرها الخبرات والتجارب الذاتية للفرد، في احتكاكه بالعالم، والحقيقة التي تأتي من خلال اللغة في قدرتها على الترميز ومنح المعنى والدلالة للأشياء، كل ما في العالم يغري الإنسان، وكل ما تنطوي عليه الحياة من متعة ولذة يصيب الإنسان في ماهيته باعتبارها كائن راغب .
الحفر آلية مهمة في فهم ترسبات الأفكار، للتعمق في التاريخ البعيد والقريب، للنبش في أهداف وغايات الخطاب، كل ذلك لا يستهوي الجمهور لأن الحياة مرحلة أو مدة زمنية يقضيها الإنسان وينتهي، الحقيقي هو المفيد والصائب لفكرنا وسلوكنا كما قال وليام جيمس، الحقيقة موجودة في العالم المرئي، فليس العالم عبارة عن وهم كما قال بركلي، والحقائق التي تم تثبيتها في أذهاننا مقياس صدقها الواقع والنقد البناء، فلا حاجة لنا للأفكار المجردة الآتية من زمن الماضي، الحقائق النسبية في كل لحظاتها مفيدة، أكثر الأوهام أن يعتقد الإنسان أنه يستطيع إدراك الحقيقة وكل خفايا الأشياء، طموح الإنسان أن يزيل الحجب عن الحقائق التي وصلت إلينا من خلال قراءة الكتب أو امتلاك الحس النقدي وأدوات الحفر في ترسبات الأفكار والمذاهب، الوهم أحيانا يُظهر لنا العالم كما نريده ونرغب فيه، يزيح عنا التفكير المنطقي والصرامة البرهانية والتفكير العقلاني، ويلقي بنا في المتاهات، ونحس أننا في دوامة من الأشياء المبهمة، لا ينفتح العالم ولا تنكشف العوالم لذاتها، عالم الأشياء والأفكار والأشخاص، كلما سعى الإنسان للكشف والتقصي، وتقدم في البحث والتنقيب إلا وأحس ببساطة معارفه، يرغمك التاريخ على الاعتقاد في صدق الأحداث والوقائع، وتقدم هذه الوقائع نفسها على أنها كذلك ، ومن شدة ما ينسى الإنسان، وينغمس في الواقع حتى تلوح في الأفق حياة جديدة، ينغمس في اليومي وينام هادئا على حطام الماضي حتى يقتنع نهائيا بالحقائق، الوهم شيء غير واقعي يصيب الحواس، نوع من التضليل والخداع، فساد يصيب الحكم والمعرفة، ومع ذلك لا يمكن محوه أو إزالته بسهولة، الوهم ينتج عن الرغبة ، نعتقد أننا على خطأ ونتمادى في التصديق .
الحقيقة موجدة في الذات وخارجها، قناع يخفي أهداف الإنسان في تكريس المعرفة وترسيخها، أشكال من الخطاب يستهدف الإنسان ويعيد بنائه من جديد، العقل بدوره يساهم في ترسيخ هذه الأفكار المجردة والثابتة، صنم العقل يمكن تحطيمه إذا ثبت بالفعل أنه يولد معرفة ضد الحياة وضد الغريزة، وكل ما فطري وطبيعي في الإنسان، التحطيم هنا يعني التفكيك والكشف عن حدوده، اللغة كذلك مجرد استعارات وكنايات وصور بلاغية، تعيد إنتاج خطاب على أنه الحقيقة، ولذلك يعتبر نيتشه أن الحقيقة لا يمكن أن توجد بمعزل عن ما يسميه “اللاحقيقة” أي أضداد الحقيقة لأنها غالبا ما كانت مرادفة للمعنى الايجابي كالصدق والصواب والواقع والحكم الصائب، فأصبح لأضداد هذه الكلمات والمفاهيم مغزى ومعنى في فهم الحقيقة كالكذب والخطأ والوهم، فلا يمكن فهم الحقيقة إلا بارتباطها بالحياة والتساؤل عن غريزة الحقيقة، عن الدوافع والمعنى، حفظ الحياة وصيانة الفرد والاستمرار في البقاء للنوع الإنساني أساس الوعي والتفكير، حاجة الإنسان للعيش منسجما ومنتشيا بالحياة دون أغلال، الحقيقة وما رسمه الفلاسفة من أفكار وأوهام عن المطلق واليقين ليست سوى تأويلات ذاتية للعالم، ما نفهمه مع أفلاطون في عالم المثل، وتجرد الفرد من قيود الحواس والارتقاء في سلم المعرفة وصولا إلى الحقائق الأزلية الخالدة، عام الذهن، وكل الصور والجواهر، العالم كذلك الذي رسمه فرانسيس بيكون، عالم القوة المعرفية والعلمية، الهيمنة على العالم والسيطرة على الجنس البشري، قوة التجربة والمنهج الاستقرائي في إزالة الغموض عن هذا العالم، وحسن استعمال العقل في السيطرة على الطبيعة، لكن الأوهام الأربعة غير مفيدة، إنها تعرقل مسار البحث العلمي والتقدم الفكري، أوهام القبيلة وأوهام الكهف وأوهام السوق وأوهام المسرح، كلها أوهام تصيب الفرد وتحد من سلطة العلم على الحياة، الأوهام تعمي الإنسان عن تلمس الحقيقة ، الكشف وإزالة الحجب عنها حتى نجعلها متفردة وواضحة يدركها الإنسان بالحدس والتجربة ، فكل ما يصيب الذهن من تخيلات وترسبات مثبتة يعزز الأفكار المزيفة والحقائق المغلوطة، انعكاس غير دقيق للوعي وتشويه للحقائق والعمل على استمرايتها، حقائق تعمل الإيديولوجيات المعاصرة على تكريسها وتثبيتها من قبيل ما تدعيه الرأسمالية من الحرية الفردية والمساواة وفلسفة حقوق الإنسان، وما تقدمه العولمة من وعود عن الرخاء الاقتصادي والتنمية الشاملة، وتحقيق الوحدة العالمية من خلال ما يسمى بالقرية الكونية، عولمة النماذج الراقية في الاقتصاد والسياسية، والتقليص من الحروب والصراعات، وما تدعيه الشيوعية من هيمنة للدولة والقضاء على الطبقية والاستغلال، وإعطاء السلطة للشعب والقيادة للعمال، وتحويل الملكية الخاصة إلى عامة، وسيادة الشعب على كل الخيرات، وما تدعيه التيارات القومية من التشابه والتطابق في الهوية والتاريخ المشترك والوحدة المتراصة، حقائق معلنة في شكل خطابات موجهة للنشر والتعميم، مجرد آمال وتطلعات تعكسها النخبة المتنورة، وأصحاب الضمائر الخيرة ، لكنها لا تعكس الواقع في شموليته لأسباب مختلفة لكونها نظريات وتيارات تعبر عن الممكن، ولعل المفكر العربي علي حرب أصاب التحليل والتشخيص من خلال نزعته التفكيكية للمثقف وللنخب من خلال تسليط التحليل على أوهامه التي حددها في الوهم الثقافي، والأيديولوجي والماورائي والحداثي والتاريخي أي في مجموعة من القضايا والأهداف التي يسعى المثقف إلى تحقيقها، وتتعلق بالتنمية والتقدم، والهوية والمطابقة والتنوير، أوهام تعني ببساطة أن التفكير أداة للتنوير والكشف عن المزيف داخل الخطابات الموجهة على أشكالها، الفكر يمكن أن يكون إذا أداة للتضليل وتغليف الحقائق وتركها ، حتى لا تنهض الجماهير من سباتها، وحتى تستمر الايديولوجيا في عملية التمويه والتشويه وإعادة إنتاج الفكر المعاق ، وبقاء الأنظمة على حالها .
أكثر الأوهام أننا نعتقد في قوة ماضينا على حاضرنا، وفي سمو الغرب على الشرق، ونعتقد أن كل ما يصيب عالمنا من تخلف وصراعات مردها للمؤامرة الخارجية، ونحن كيانات متطابقة الرؤى والنوايا، وسبب تخلفنا أننا لم نعد نتشبث بقيمنا ، والعصر الذهبي من فتوحات وشجاعة الأولين في قهر الأمم أكثر العصور الزاهية في حضارتنا، وأننا بالفعل قدنا العالم في العلم والحضارة، وأننا ساهمنا في نهضة الغرب بأعلامنا وأفكارنا التي شملت ميادين عدة كالفلسفة والعلم الطبيعي، هويتنا متماسكة، وحدتنا صلبة في تاريخنا المشترك، هواجسنا متطابقة، سحر الشرق لا يضاهيه عقلانية الغرب، جزء من حقائق لا يمكن نكرانها في ظل التثاقف بين الحضارات والأمم، هنا نحتاج للتاريخ وفلسفته ، ونستعين أكثر بالمؤرخ وفيلسوف المعرفة العلمية حتى نقترب من الحقيقة، ونزيح ما هو إيديولوجي خاص بالتبجيل للتاريخ أو التهوين من قيمة الحضارات في صنع أحلام الإنسانية، لكننا عندما نكتفي بالقراءة الأحادية ونسكب على ماضينا ما هو ايجابي، ونقوم بعملية الاختزال والبتر فغالبا ما نسقط في الأوهام .