29 ديسمبر، 2024 7:12 م

هل الجيش سور للوطن أم سور للطائفة؟

هل الجيش سور للوطن أم سور للطائفة؟

قال الشاعر لبيد:
ذهبَ الَّذين يُعاش في أكنافهم … وبقيتُ في خَلَفٍ كجلد الأجربِ يتأكَّلون مــــــــــلاذةً وخيانةً … ويُعاب قائلــــــهم وإن لم يَشغبِ
ما تزال أناشيد الصباح المدرسية تصدح كرنين الأجراس في أذان طلاب المدارس وهم يقفون في الساحة يوم الخميس حيث يرفع العلم العراقي، وتعلو الأصوات رعدا بأناشيد منها (الله اكبر فوق أيدي المعتدي) و (لاحت روؤس الحراب تلمع بين الروابي) و(الجيش سور للوطن يحميه أيام المحن). ثم تلاها (وطن مد على الأفق جناحا)، هذه الأناشيد الوطنية والقومية وغيرها كنا ننشدها بحماس شديد ورعدة تبدأ من فروة الرأس وتنتهي بأخمص القدمين، أناشيد توطد الركائز الوطنية والعروبية وتقوي العزائم وتلهب والحماس عند الطلاب، وتزرع فيهم بذور محبة الجيش بإعتباره حامي الديار، والمظلة التي يحتمي المدنيون داخلها. لذا كان الكثير من الطلاب في بغداد في الخمسينيات عندما يسأل عما يرغب ان يكون في المستقبل، فيجيب بشكل عفوي جندي! وفي الموصل الحدباء التي تعتبر مدرسة إعداد الضباط العراقيين النشامى تتغنى المراهقات الماجدات بالقول” لو ملازم لو مالازم (اي لا أريد). والحق يقال ان الجيش العراقي كان فعلا وفيا تجاه الإلتزام بمسؤولياته الوطنية ولم يحيد عنها قيد أنملة. لكن بالتأكيد جيش الخمسينيات وما بعده هو ليس جيش التسعينات فقد انعكست ظروف الحرب والحصار الإقتصادي الجائر على بنيته التنظيمية والتسليحية لكنها لم تمس بنيته الإنضباطية والأخلاقية، حيث بقي محافظا عليها. وكان معظم ضباط الصف في الجيش العراقي من المناطق الجنوبية، وقلما تجد فيهم الضباط لغاية السبعينيات من القرن الماضي، وكان السبب وراء ذلك هي فتاوي المرجعية في النجف وكربلاء بعدم الإنخراط للعمل في المؤسسات الحكومية لأنه يعد كفرا حسب إعتقادهم البليد، ولكن بعد الهجرة من الجنوب الى الوسط والعاصمة بغداد، وقلة الفرص في سوق العمالة، انخرط الكثير منهم للعمل في المؤسسات العسكرية، وعزفوا عن فتاوى مراجعهم. وقد عرفوا أهل الجنوب بشدة إلتزامهم بالأوامر العسكرية وإحترامهم للرتب العليا، وكان البعض يتندر على هذه الإلتزامات بروح الدعابة ولكن بقلوب طيبة لا تحمل الضغينة.
فقد اصدر المرجع الشيعي مرزا محمد تقي الشيرازي عام 1920 وكذلك المرجع الشيعي مهدي الخالصي عام 1921 فتاوى حرمت قبول الوظائف الحكومية على شيعتهم لأنها من أعمال التعاون مع الكفار على حد وصفهم. ( راجع عبد الله النفيسي/ دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث) بل ان المجتهدين الشيعة شنوا حملة شعواء ضد التعليم في المدارس عموما بإعتبارها علمانية، وثنوا ابنائهم عن ارسال ابنائهم لها، مما زاد من عدد الأميين في صفوف الشيعة. (راجع علي الوردي/ دراسة في طبيعة المجتمع العراقي)، علما ان وزراء التربية والتعليم كان معظمهم من الشيعة فقد استوزرها عبد الحسين الجلبي ثماني مرات للفترة 1022 ـ 1935 حتى سماه ساطع الحصري حينذاك ” جوكر الوزارت العراقية” .
مع التفاوت في نسب الضباط وضباط الصف والمتطوعين في الجيش من الناحية الدينية والمذهبية والعنصرية بحكم العوامل التي أشرنا إليها، لكن الجيش كان خيمة ضم كل الشرائح العراقية، ولم يكن للعوامل الدينية والمذهبية والعنصرية دورا أو تأثيرا على العامل الوطني، كما أن التجنيد الإلزامي
جعل جميع العراقيين متساوين في واجبهم الوطني. فضلا على أن القانون العسكري كان شديدا في أحكامه، وهي لا تخضع لأية مؤثرات خارجية. هذا لا يعني أن الجيش كان جيشا من الملائكة ولا توجد فيه أخطاء! لا يوجد جيش في العالم يخلو من الممارسات الخاطئة والإنتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان، وقد لمسنا عن قرب إنتهاكات أفضل الجيوش في العالم خلال غزو العراق عام 2003 فكيف الأمر بجيوش من العالم الثالث؟ ولكن والحق يقال أن الأخطاء والإنتهاكات كانت محدودة للغاية ولا تؤثر على جمالية الصورة الجميلة للجيش العراقي قبل الغزو عام 2003.
منذ السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي تغيرت صورة الجيش العراقي، فقد إختلفت نسب الضباط وفق المعايير الدينية والمذهبية والعنصرية، فلم تعد الموصل مهيمنة على صنف الضباط كما هو الأمر في السابق، على الرغم من ان الضباط الموصليين القدامى كانوا يدفعون بأبنائهم الى السلك العسكري، كما أن الأبناء يرغبون في الإقتداء بآبائهم وسيرهم المجيدة، سيما ان الضباط القدامى كانوا يمارسون الضبط داخل أسرهم وليس داخل المعسكرات فحسب. ولم يشهد الجيش تمييزا طائفيا أو دينيا لغاية الغزو الأمريكي الغاشم للعراق.
فقد تم حلٌ الجيش العراقي رغبة من الزعيم الكردي مسعود البرزاني وعبد العزيز الحكيم زعيم المجلس الإسلامي الأعلى، فلبى الحاكم الأمريكي بول بريمر رغبة الزعيمين بسرعة مثيرة للعجب وأصدر القرار رقم (2) في 13/6/2003. وزاد الطين بلة بالقرار رقم (91) في نفس العام بدمج عناصر الميليشيات الإجرامية والإرهابية بالجيش الجديد الذي بني على أساس طائفي بحت، وتم منح ضباط الدمج رتب عالية وفقا لأهواء زعماء الكتل السياسية، ولم يكن للمستوى التعليمي والثقافي والخبرة العسكرية والولاء الوطني أي دور في منح الرتب. بلا شك ان هذه الطريقة العشوائية والمنحرفة نتؤكد بما لا يقبل الشك بأن الإدارة الأمريكية لم تكن جادة في بناء جيش عراقي وطني، وانما جيشا مهلهلا وضعيفا، وهذا ما تبين خلال التجارب اللاحقة على الرغم من صرف المليارات من الدولارات على بناء آيل للسقوط في أية لحظة. وإذا وضعنا أعيننا نصب الحقيقة، وفكرنا في الطرف الذي وقف وراء هذه الخطوة الخطيرة والفاشلة وجني ثمارها، سندرك فورا أن المستفيد منها هو الكيان الصهيوني وفقا لنظرية الأمن القومي الصهيوني، ونظام الملالي ثأرا لجرعة السم التي شربها الخميني، والقيادة الكردية التي لا ترغب ان ينافس البيشمركة قوة أخرى في العراق.
بني الجيش العراقي الجديد على أسس طائفية بحته وليست وطنية، كما ان البيشمركة بنيت على أساس قومي وليس وطني، لذا لم يكن من الغرابة ان يتساءل النائب العراقي فائق الشيخ كيف ان جميع قتلى سبياكر من الشيعة ولا يوجد أي سني من بينهم؟ ولا يستغرب المرء أن يرى ساحات عرضات الجيش العراقي تشهد لطميات عاشوراء بإشراف ومشاركة الضباط وهو يمارسون اللطم كالنساء الثكالى وبالملابس العسكرية! ولا غرابة ان يقوم عقيد في الجيش العراقي يصنع الشاي في خيمة عاشورائية ويقدم ملازم أول الأقداح للمواكب الحسينية! ولا غرابة ان يقوم مراتب من الجيش العراقي بتدليك الزائرين الإيرانيين لكربلاء إعتذرا منهم عما فعله الجيش العراقي الوطني بهم خلال الحرب العراقية الايرانية! وليس من الغربة أن يكشف القائد العام للقوات المسلحة حيدر العبادي عن وجود (50000) الف جندي فضائي في عدد من الفرق ـ وليس كل الجيش ـ يتقاضى الضباط رواتبهم، ووعد بكشف المزيد، لكنه لم يوفِ بعهدة لغاية مجهولة لم يفصح عنها، لكنها تتعلق بدور حزبة بالطبع في تفاقه هذه الظاهرة المعيبة!
لا غرابة أن تهاجم القطعات العسكرية المتظاهريين السلميين وترتكب جرائم مريعة في صفوفهم في مخالفة صريحة للدستور الذي حدد واجبات الجيش.
لا غرابة أن تقرأ تصريح العميد عبد الكريم سوادي آمر جناح في الكلية العسكرية ” نحن هنا اليوم لتأدية القسم في حضرة الإمام الحسين عليه السلام ونعاهد إمامنا الحسين وأخاه أبا الفضل العباس عليهما السلام أن نكون جنودا أوفياء في خدمة الوطن وأن يكون هدفنا الأول هو حفظ الوطن وشعبه
ومقدساته”. نسأل: هل يا ترى كان ضباط الجيش العراقي خلال الحكم السابق يرددون القسم في مرقد الإمام ابو حنيفة؟
لا غرابة أن يَهزم بضعة مئات من الدواعش فرق عسكرية كاملة بكل قواها وتجهيزاتها العسكرية وأسلحتها الجديدة وذخيرتها المهولة!
ربما يسأل البعض ولهم الحق: لكنكم تتناسون أن وزير الدفاع من أهل السنة؟
نعم هو فعلا من أهل السنة، لكنه من سنة المالكي أو سنة السلطة الشيعية الحاكمة، وإلا كيف نفسر وجود وزير دفاع يأخذ مقدمة برامج في رحلة جوية تاركا قيادة قطعاته العسكرية لجنرال إيراني؟ وعندما يسأل عن وجود الجنرال سليماني في العراق يقول لا أعرف!
كيف نفسر وجود وزير من أهل السنة تحمل قواته راية الحسين بدلا من راية الوطن الأم؟
كيف نفسر وجود وزير دفاع من أهل السنة ومعظم دباته ومدرعاته وآلياته تحمل صور الحسين والخامنئي والخميني والسيستاني وشعارات طائفية مقززة ضد رموز أهل السنة؟
كيف نفسر وجود وزير دفاعي عراقي من الموصل وقد اذاق قواته أهل الموصل الأمرين من سجن وتعذيب وإهانات وظلم، ويتعجب البعض من وجود حواضن لداعش في الموصل! عندما وصف أحد النواب وزير الدفاع العراق بأنه إطار صورة فقط، فقد كان محقا في قوله، لكنه إطار مهشم ووركيك وملطخ باللون الأحمر.
رحم الله عباس المبرد عندما قال” مر نصر بن سيار الليثي بأبي الهندي وهو يميل سكراً، فقال له: أفسدت شرفك! فقال أبو الهندي: لو لم أفسد شرفي لم تكن أنت والي خراسان”. (الكامل3/34).