22 نوفمبر، 2024 4:16 م
Search
Close this search box.

هل التعارض بين قانونين يشكل مخالفة دستورية ويوجب عدم دستورية إحداهما؟

هل التعارض بين قانونين يشكل مخالفة دستورية ويوجب عدم دستورية إحداهما؟

(قانون الادعاء العام انموذجاً)
أصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارها العدد 112/اتحادية/2021 في 9/11/2021 الذي قضت فيه بعدم دستورية عدة عبارات وبنود في قانون الادعاء العام رقم 49 لسنة 2017 وكانت الدعوى بناء على طلب رئيس مجلس القضاء الأعلى إضافة لوظيفته، وجاء في الفقرات الحكمية الحكم بعدم دستورية العبارة الآتية (يتمتع بالاستقلال المالي والإداري) الواردة في المادة (1/أولاً) من القانون، وكذلك البند (ثانياً) من المادة (1) من القانون التي كانت تنص على الاتي (يتمتع جهاز الادعاء العام بالشخصية المعنوية ويمثله رئيس الادعاء العام او من يخوله) وكانت المحكمة الاتحادية العليا قد سببت قرارها بالحكم بعدم دستورية هذين البندين على ان عدم تقديم مشروع القانون أو المقترح عبر مجلس القضاء الأعلى يشكل خرقاً دستورياً لان المادة (3/عاشراً) من قانون مجلس القضاء الأعلى رقم (45) لسنة 2017 قد نصت على الاتي (يتولى مجلس القضاء الأعلى المهام الآتية: اقتراح مشاريع القوانين المتعلقة في شؤون السلطة القضائية الاتحادية) ولان عبارة الاستقلال المالي والإداري والتمتع بالشخصية المعنوية لم تكن ضمن مشروع القانون الأصلي المقدم من مجلس القضاء الأعلى فان ذلك يعد مخالفة دستورية ترتب عليها الحكم بعدم الدستورية. ولان السبب قد توضح في قرار الحكم الصادر عن المحكمة الاتحادية العليا بان مخالفة القانون لقانون اخر يعد مخالفة دستورية وللوقوف على معنى المخالفة الدستورية اعرض الاتي :
ان جميع فقهاء القانون الدستوري اجمعوا بان المخالفة الدستورية تظهر بشكل واضح في القانون الذي يصدر خلاف لنص صريح في الدستور وتسمى المخالفة الموضوعية، أو انه يصدر خلاف للإجراءات الشكلية التي نص عليها الدستور لتشريع القوانين وتسمى بالمخالفة الشكلية. ومثال المخالفة الموضوعية الحكم الذي قضت به المحكمة الاتحادية العليا بقرارها العدد 62/اتحادية/2018 في 28/5/ 2018 نص المادة (17) من قانون الموازنة العامة رقم 9 لسنة 2018 الذي فرض غرامة على استيراد المشروبات الكحولية وقضت المحكمة الاتحادية بعدم دستورية هذه المادة لأنها خالفت نص دستوري صريح يتضمن مبدأ من المبادئ المتعلقة بالحقوق أما من المخالفة الشكلية فان المخالفة الدستورية تلحق بالتشريع إذا صدر على خلاف ما نصت عليه الآليات الدستورية لغرض تشريعه والمحكمة الاتحادية العليا في العراق قد مارست هذا النوع من الرقابة في اغلب أحكامها لان بعض النصوص القانونية قد صدرت خلاف آليات التشريع المنصوص عليها في الدستور ومنها عدم اخذ رأي الحكومة في التشريعات التي فيها جنبة مالية ومنها القرار العدد 24/اتحادية/2016 في 7/8/2016 الذي جاء فيه بإن قيام مجلس النواب بإضافة بعض المواد لقانون الموازنة العامة الاتحادية رقم (1) لسنة 2016 وهي المواد (22) و(45) و(46) دون الرجوع إلى الحكومة وخلافاً لما تنص عليه المادة (60/ثانياً) من الدستورالمدنية والسياسية وهو نص المادة (19) من الدستور التي جاء فيها (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص أو بناء على نص)
عند العودة إلى موضوع قانون الادعاء العام نجد ان سبب الحكم بعدم دستورية الذي استندت اليه المحكمة الاتحادية العليا بان بعض عباراته او بنوده لم تقدم عن طريق مجلس القضاء الأعلى أو لان مجلس النواب لم يقم باستشارته، واعتبرت المحكمة الاتحادية العليا ان هذا الواجب على مجلس النواب يستند إلى نص المادة (3/عاشراً) من قانون مجلس القضاء الأعلى رقم (45) لسنة 2017 التي جاء فيها الاتي (يتولى مجلس القضاء الأعلى المهام الآتية: اقتراح مشاريع القوانين المتعلقة في شؤون السلطة القضائية الاتحادية) ، وبما ان هذا التسبيب يندرج ضمن مفهوم المخالفة الشكلية، فإننا نقف عند السؤال الاتي هل المادة (3/عاشراً) من قانون مجلس القضاء الأعلى تمثل نص دستوري أو مبدأ دستوري لا يجوز مخالفته؟ الجواب بالتأكيد سيكون بالنفي، لان الدستور لم يرد فيه أي نص يمنح مجلس القضاء الاعلى أو غيره حق تقديم مشروعات القوانين أو المقترحات من اجل التشريع وانما حصر ذلك من خلال ثلاث منافذ الأول رئيس الجمهورية والثاني مجلس الوزراء وعلى وفق المادة (60/أولا) من الدستور التي جاء فيها الاتي (مشروعات القوانين تقدم من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء) أما المنفذ الثالث وهو تقديم المقترحات من عشرة أعضاء فاكثر من أعضاء مجلس النواب أو من احدى لجانه المختصة وعلى وفق ما ورد في المادة (60/ثانيا) من الدستور التي جاء فيها الاتي (مقترحات القوانين تقدم من عشرةٍ من أعضاء مجلس النواب، أو من إحدى لجانه المختصة) ومن هذه النصوص نجد ان لا سبيل اخر دستوري لتقديم مشاريع القوانين ومقترحاتها، وكانت المحكمة الاتحادية العليا قد اعتبرت وجود هذا النص في قانون مجلس القضاء الأعلى هو نص قانوني وليس مبدأ دستوري وقضت بانه لا يخالف الدستور بمعنى انه تشريع ادنى من الدستور وليس بمستوى الدستور ويتم الطعن به لبيان مدى مطابقته للدستور، وبذلك فان صدور قانون الادعاء العام رقم 49 لسنة 2017 لم يخالف الدستور عند إدراجه عبارة (يتمتع بالاستقلال المالي والإداري) وكذلك عند أدراجه البند ثانيا من المادة (1) التي جاء فيها الاتي (يتمتع جهاز الادعاء العام بالشخصية المعنوية ويمثله رئيس الادعاء العام أو من يخوله) حتى وان كان على خلاف ما ورد في قانون مجلس القضاء الأعلى لان كلا القانونين بمستوى تشريعي واحد وليس لأي قانون سمو على القانون الآخر، وان حصل تعارض بينهما فإننا نكون أمام قواعد الفصل في التنازع الداخلي بين القوانين عند التطبيق أو عند التفسير لها في دعوى ينظرها القضاء ومنها الخاص يقيد العام واللاحق ينسخ السابق، وكان للمحكمة الاتحادية العليا قرار يؤكد هذا الاتجاه حيث اعتبرت تعارض النص القانوني المطعون فيه مع نص قانوني آخر لا يخالف الدستور، فالنص اللاحق زماناً هو المعول عليه حيث أن النصين صادران من مجلس النواب حيث صلاحيته التشريعية وبنفس القوة وعلى ما ورد في قرارها العدد 43/اتحادية/2017 في 20/6/2017 و فحوى الادعاء في تلك الدعوى بان قانون الادعاء العام رقم 49 لسنة2017 قد جاء في الفقرة ثاني عشر من المادة (5) الإشارة إلى اختصاص الادعاء العام في التحقيق في جرائم الفساد المالي والإداري وكافة الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة المنصوص عليها في( قانون العقوبات المرقم 111 لسنة1969 المعدل) وبما ان التحقيق في جرائم الفساد الإداري والمالي تكون من اختصاص مكتب المفتش العام، وحسب الأمر 57 لسنة 2004 والصادر من سلطة الائتلاف المؤقتة حيث حدد القسم (1) منه الغرض من هذا الأمر الذي جاء ما نصه: كما ينشئ من هذا الأمر مكاتب مستقلة للمفتشين العموميين تمكنهم فيها من القيام بإجراءات التحقيق والتدقيق والتقييم والتفتيش، لكنها عادت في قراراها محل البحث العدد 112/اتحادية/2021 وقضت بعدم دستوريته، وأشارت إلى إنها عدلت عن قرارها السابق، وان كنت أرى ان هذا لا يعد عدول لأنه يتقاطع مع مبدأ حجية أحكام المحكمة الاتحادية العليا كونها باتة وملزمة للسلطات كافة بما فيها المحكمة الاتحادية العليا، وإنما العدول يكون عن مبدأ كانت قد استقرت عليه في دعوى أخرى ضد نص قانوني اخر، ولي ضد القانون ذاته الذي صدر حكم بدستوريته، وهذا الموضوع فيه بحث مطول كنت اشر تاليه في كتابي الموسوم (عدم دستورية القوانين بين الانحراف التشريعي والمخالفة الدستورية وأثره في الأحكام القضائية) الصادر عام 2020 .
ومن خلال ما تقدم فان استناد المحكمة الاتحادية العليا الى اعتبار ما ورد في قانون مجلس القضاء الاعلى بمثابة نص دستوري أرى انه توجه يتقاطع مع المبادئ الدستورية التي وردت في الدستور العراقي باعتبار ان القوانين كلها في مستوى واحد من حيث القوة عندما قرر الدستور حق القضاء الدستوري بالرقابة على القوانين والأنظمة النافذة، ولم يقرر الرقابة على الدستور وانما منح القضاء الدستوري سلطة تفسير النصوص الدستورية فقط، فضلا عن منح مجلس النواب سلطة وصلاحية تعديل القوانين وإلغائها لأنه هو من يصدرها، بينما لا يجوز له تعديل الدستور لأنه اسمى من القانون وله اليات خاصة بالتعديل نص عليها في صلب الدستور.

أحدث المقالات