تمهيد- هذا السؤال يبدو صادماً نوعاً ما لكل من سيقرأ عنه في بحثنا هذا، أي بمعنى آخر، هل التسامح (يقابل باللغة الانجليزية أكثر من لفظة، وهي:Toleration ، و Sufferance والتي تعني القدرة على الاحتمال، و Allowance وتعني السماح والمسامحة، وسوف تتوضح هذه المعاني المتعددة للتسامح في سياق البحث). كان من انهمامات واهتمامات الفلسفة في نشأتها الأولى عبر التاريخ الفلسفي، شأنه شأن اهتمام الفلاسفة بالمدينة، والدولة، والكون، واثبات وجود الله وخلود النفس والسعادة والعدالة والقوة والفعل والحرب والسلام والواجب والممكن والحدوث والقدم، والقائمة تطول؟؟. أم ان هذا الاهتمام بالتسامح عند الفلاسفة قد جيء به من مجال معرفي آخر، وأخص بالذكر المجال الديني، على تنوع هذا المجال واهتماماته، بفرض حضوره (أي الديني) على الفكر الفلسفي.
ثم، هل الفلاسفة كتبوا في التسامح ونظروا فيه ودافعوا عنه، وجعلوه مقولة فلسفية لها أبعادها الأخلاقية والمعرفية والسياسية والحقوقية، بدافعهم الشخصي الخاص بهم وبمجتمعهم ونظمه السياسية، أم نتيجة للحضور الطاغي لللاتسامح Tolerance In) الذي مورس في داخل النظم الدينية والسياسية في تلك العهود؟؟؟، مع ملاحظة أن النص الديني المقدس قد خلا بنفسه من التعصب واللاتسامح، وانحاز إلى التسامح واحترام الآخر، والشواهد من النصوص الدينية المقدسة كثيرة مما لا يسع المجال لذكرها.
ويبدو باتفاق معظم الباحثين والدارسين للتسامح وتاريخية ظهوره مقولة فلسفية أنهم يؤكدون أن هذا الاهتمام قد عَبَر إلى الفلسفة من منتج معرفي آخر جاء بهذا اللفظ قولاً وفعلاً، فكراً وممارسة. ليجد فيما بعد حضوره في النص الفلسفي بعد ان بلغ مداه في ذلك الحقل الذي أنتجه، وأقصد بالتحديد الحقل الديني التشريعي، والذي نجد مصداقه في تعريف الجرجاني للتسامح في كتابه التعريفات، بقوله: (هو أن لا يعلم الغرض من الكلام ويحتاج في فهمه إلى تقدير لفظ آخر).
وإذا كان بعض الباحثين يذهب على خلاف رأينا هذا، من خلال العودة بفكرة التسامح إلى الفلسفة العربية الإسلامية بدءاً مع الفيلسوف الكندي ومروراً بعلماء الكلام واللاهوت الذين اعتمدوا المناظرة والجدل وصولاً إلى ابن رشد في كتابه فصل المقال، ولكنّا نلفت النظر إلى أن معنى التسامح عند فلاسفتنا المسلمين على عموم مسمياتهم لا يعني عندهم التسامح ما يعنيه اليوم من دلالة اصطلاحية ذات أبعاد معرفية وأخلاقية واجتماعية وقانونية.
هذه التساؤلات وغيرها هي من مهمات هذا المقال أن يجيب عليها، من خلال ربطها بمجمل النتاج المعرفي حول التسامح.
أولاًً- دواعي الكتابة في التسامح
إن مقولة التسامح على وفق ما نرى كانت غائبة في مجمل النتاج الفلسفي بعامة قبل أن تنال اهتمامها المتميز من قِبَلْ الفلاسفة في العصر الحديث. إذ لم يكن عند اليونان قديماً كلمة مرادفة للتسامح، ومع ذلك يبقى التساؤل عما إذا كان اليونانيون متسامحين، وعما إذا كان لدى فلاسفتهم مفهوم التسامح، ذلك إنهم لم يرتضوا التعددية الدينية كما هو الحال في الامبرطورية اليونانية، ومَنْ كان يُعلم في اليونان أن الآلهة كذبة فمصيره على الأغلب شرب السم (سقراط إنموذجاً). فضلاً عن أن فلاسفة اليونان قد نظروا إلى الأمم الأخرى ممن تقع خارج إقليمهم وموقعهم الجغرافي نظرة فيها نوع من التعالي واللاتسامح، إذ وصفوهم بشعوب إما برابرة وإما متوحشين، وإما ثاقبي نظر ولهم علم لكنهم يحبون الاسترقاق والعبودية، وإنهم أي اليونانيون فقط شعوب تحب التفلسف لأنها تعشق الحرية.
لهذا، ولغيره كما سنبين لاحقاً، وجدنا فلاسفة العصر الحديث قد كتبوا نتاجات فكرية ونصوص فلسفية متخصصة تحت هذا العنوان العريض (التسامح)، ولاسيما مع الفيلسوف الانجليزي جون لوك في كتابه رسالة في التسامح، والتي موضوعها الرئيسي التسامح الديني، ومثله الفيلسوف الفرنسي فولتير في رسالته في التسامح، حتى استمر التأليف والكتابة في هذا الموضوع بعد ذلك حتى يومنا هذا مع الفلاسفة الغربيين المعاصرين من أمثال كارل بوبر، وميخائيل فالزر وغيرهم.
إن اهتمام الفلاسفة المحدثين بخاصة بالبحث في التسامح، لم يكن من بناة أفكارهم، بل هو نتيجة ردّ فعل حركة الإصلاح الديني في أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، أي أنه جاء انعكاساً لما ساد من غياب للتسامح داخل النظم الدينية ولاسيما الكنسية منها تجاه المخالفين لها من داخل الدين المسيحي نفسه، ثم مع من يخالفها الرأي والمعتقد من الملل الأخرى. لهذا ولدت كتابات هؤلاء الفلاسفة هذه عن التسامح عقب الحروب التي وقعت في القرن السادس عشر والنصف الأول من القرن السابع عشر بين الكاثوليك من جهة وخصومهم في الدين البروتستانتي من جهة أخرى والتي انتهت بتسامح بعضهم تجاه البعض الآخر، بعد تحولت أوربا بفعل تلك الحروب إلى أرض يباب، ولهذا كان الحل عندهم وعند غيرهم هو في الفصل بين الدين والدولة، إذ التعصب والدمار والحروب الدينية علما البشرية أقصر السبل الممكنة لدرس التسامح القاسي، فهو وليد حركة الإصلاح الديني في أوربا.
فضلاً عن الحروب الدينية التي ولد من رحمها التسامح، هناك من الباحثين من يضيف بعداً آخر لنشأة التسامح ألا وهو بعد الاكتشافات الجغرافية، تلك الاكتشافات التي أفرزت نقاشات لاهوتية لها علاقة وثيقة بالأخلاق والحق،..، بسبب ذلك التصادم الحضاري العنيف بين الأوربي المستعمر والهندي الأحمر الساكن الأصلي للقارة الأمريكية، مما طرح معه مسألة تحديد نوعية العلاقة بينهما، فكان أن طرح السؤال: هل ينبغي معاملة هؤلاء على قدم من المساواة أم لا؟؟ وهنا طرح للنقاش بين فقهاء الحق الطبيعي الذي تباينت آرائهم بين مقرٍّ لاستعمال العنف المضيع لحقوق الهنود الحمر، وبين نابذ له ومقر لحقوقهم الطبيعية. وسوف نحدد فيما بعد معنى الحق الطبيعي والقانون الطبيعي.
تم إنَّ تفعيل التسامح فكراً وواقعاً وممارسة وسلوكاً قيمياً وبكل ما تعنيه الكلمة لمواجهة مفاهيم التشدد والتزمت والتعصب والانغلاق والانحياز والعداء والافراط والتفوق على الآخرين، ولاسيما في الأفكار والآراء والقيم والمعتقدات الدينية منها والتاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعرقية، في إقرار مباشر بمبدأ الاختلاف وقبول الآخرين أو بالحق بالاختلاف في الاعتقاد وفي حرية التفكير، على الرغم من عدم الاتفاق معهم عقائدياً وفكرياً وقيمياً. إذ الحق بالاختلاف يحيل إلى معنى آخر للتسامح هو التحمل، والذي يعني قبول الآخر على عِلاته.
وهذا اللفظ (التحمل) هو ما زودتنا به اللفظة اللاتينيةTolerate التي تعني فعل التحمل، بمعنى أن التسامح مع الآخر هو أن نتحمله كما هو صابرين أراق لنا ذلك أم لم يرق، وعلى وجه الخصوص هو قبول أن يؤكد الآخر حقيقة مختلفة عن حقيقتنا أو يجاهر بمعتقد مختلف عن معتقدنا، إذ قد نرى أنه مخطأ لكن ما دامت أفكاره لا تغذي ايدولوجية ناكرة لحقوق الكائن الإنساني، فإنا نقر له بحق التعبير عن خطئه، بل أكثر من ذلك، أن لا نألوا جهداً في حمل الميالين إلى عدم احترام هذا الحق على احترامه، واذا كان التسامح لا يعني عدم الاكتراث على ما يرى جاك بوسويه إذا ما سمحنا لأصحاب المعتقدات أن يمارسوا آراءهم بحرية، وهذا هو موقف الفيلسوف غوته، أي الاعتراف والاحترام. إذ يعتقد الفيلسوف غوته ان التحمل يحمل معنى سلبي، وهو الصبر على الأذى، بقوله: ان التسامح يجب أصلاً ألا يكون موقفاً مؤقتاً فقط، إذ يجب أن يقود إلى الاعتراف بأن التحمل إهانة.
وقد اجتهد معجم وبستر الانجليزي أن يحدد مقابلان لمعنى التسامح، الأول هو Tolerance ومعناه استعداد المرء لتحمل معتقدات وممارسات وعادات تختلف عما يعتقد به، وقد ظهرت هذه الفظة تاريخياً قبل كلمة Tolerationالتي تعني سياسة التسامح المتبعة مع كل الآراء الدينية وأشكال العبادة المناقضة أو المختلفة مع المعتقد السائد، فهذه اللفظة وصف للمبدأ المعلن والقائل أن على المرء أن يكون متسامحاً، أي فعل ممارسة التسامح. ويبدو أن الفلاسفة في العصر الحديث قد انتبهوا لهذا التفرقة بشكل جيد، ولاسيما فولتير في كتابه التسامح، الذي عقد فصولاً عدة في ذلك.
لكن المعنى اللاتيني للتسامح الذي هو التحمل، لا نجد له في اللغة العربية حضوراً على الرغم من ثرائها في بحثها عن التسامح، بل تعطي معنى آخر للتسامح هو الجود والعطاء عن كرم وسخاء أو العطاء، أو المتابعة الانقياد، أو الموافقة على المطلوب، أو طلب الحق، أو التساهل، على حد قولهم: تسامحوا تساهلوا، ولاسيما في الأشياء التي تربح صاحبها في البيع والشراء، وبهذا تبقى الدلالة اللغوية عند العرب لا تحيل إلى معنى التسامح المتداول بيننا اليوم والذي يقوم على مبدأ المساواة الذي يعتبر شرطاً أساسياً له، بل تفيد معنى الجود والكرم وليس الذي يتنازل عن رأي الآخر ويقبل به ويدافع عنه.
فهل يعني أن اللغة العربية لم تكترث بمعاني التسامح كما هو في دلالته الغربية اللاتينية مروراً بلغاتها المحلية، أم أن الشخصية العربية لم تدرك معنى التسامح بسبب عقليتها التي نبتت في أرضها، أم بسبب عدم وجود اضطهاد ديني وعرقي واثني لدى العرب تجاه مخالفيهم في العقيدة والعرق والقومية؟؟؟. هذه تساؤلات أظنها غير مشروعة ولكن تبحث عن أجوبة مشرعنة ومشروعة.
ثانياً- البعد الدلالي للتسامح
تزودنا المعاجم المتخصصة والموسوعات بمعاني عدة للتسامح، منها:
1. الصفح عن مخالفة المرء لتعاليم الدين، وهذا خاص بعلماء اللاهوت( ).
2. الاحترام لحرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآراءه السياسية والدينية، كما جاء في قاموس لاروس الفرنسي.
3. القبول لآراء الآخرين على مبدأ الاختلاف، وهو يتعارض مع مفهوم التسلط والقهر والعنف، كما جاء في معجم العلوم الاجتماعية. ويعدّ هذا المفهوم أحد سمات المجتمع الديمقراطي.
4. السماح بحرية العقل أو الحكم على الآخرين، وهو تحديد الموسوعة البريطانية، وهذا المعنى يفيد الكشف عن أحد أهم سماته ألا وهي الحرية.
5. طريقة تحمل أذى مألوفاً مسَّ حقوقه بينما في إمكانه رد الأذية.
6. انحراف يسمح به القانون مسبقاً أو يقره العرف.
7. استعداد عقلي أو قاعدة سلوكية قوامها ترك حرية التعبير عن الرأي لكل فرد حتى وإن كنا لا نشاطره رأيه.
8. مَيل إلى تقبل طرق تفكير وعمل ومشاعر تختلف عن طرقنا ومشاعرنا.
9. سعة صدر تفسح للآخرين أن يعبروا عن آرائهم ولو لم تكن موضوع تسليم أو قبول، وهو ضد التعصب الذي هو غلو في التعلق بشخص أو فكرة أو مبدأ أو عقيدة بحيث لا يدع مكاناً للتسامح.
10. الحق بالاختلاف.
11. استعداد لتقبل وجهات النظر المختلفة فيما يتعلق باختلافات السلوك والرأي دون الموافقة عليها.
12. امتناع المرء عن نشر آرائه بالقوة والقسر والقدح والخداع، في مقابل عدم تخليه عن معتقداته، أو الامتناع عن إظهارها أو الدفاع عنها، أو التعصب لها، أي احترام آراء غيره لاعتقاده أنها محاولة للتعبير عن جانب من جوانب الحقيقة، مما يعني ان الحقيقة أغنى من أن تنحل إلى عنصر واحد،…، فليس تسامحنا في ترك الناس وما هم عليه من معتقدات منّة نجود بها عليهم، وإنما هو واجب أخلاقي ناشيء عن احترام الشخصية الإنسانية .
13. التعامل مع الآخر بروح سلمية وألا يمنع أحداً غيره حقوقه الطبيعية، وأن يتولى المرء بكل لطف دحض الآراء الخاطئة التي تقال على منابر الوعظ، والتي يكتبها القائمون على هذه المنابر، وأن يجتهد المرء بكل تواضع وتعقل لتعليم غيره ما هو أفضل.
وهذا التحديد الأخير يخدم في نهاية الأمر غرض التبشير، الذي هو بعيد كل البعد عن المعنى الذي أراده الفيلسوف ليسنج للتسامح، إذ أراد هذا الفيلسوف إيجاد أساس من نظرية المعرفة لمطلب التسامح، باعتبار ان البشر لا يستطيعون الوصول إلى الحقيقة المطلقة، وما ممكن هو الاقتراب من الحقيقة فقط، وبهذا يصبح مطلب التسامح مؤسساً على نظرية المعرفة من خلال الفرق بين المعرفة المحدودة للبشر والحقيقة المطلقة التي لا يمكن الوصول إليها، بل يمكن الاقتراب منها فقط، وقد عرض لفكرته هذه عن التسامح في كتابه الردّ الصادر عام 1778م.
إن فكرة ليسنج هذه عن التسامح قد سبقه إليها الفيلسوف الانجليزي جون لوك، عندما وضع للبعد المعرفي أهميته في التسامح، واعتبر هذا البعد أقوى من البعد الخلقي لارتباطه بنظرية المعرفة وبفلسفته بعامة، فجون لوك يذكر في كتابه مقالة في العقل البشري، ان حدود المعرفة البشرية ضيقة، وان احتمال الخطأ فيها كبير، ولاسيما في الأمور التأملية، لدرجة أننا لا يمكن ان نجزم بيقين ما بأية حال فيما يتعلق بآرائنا الدينية بحيث نقطع أنها صحيحة، بينما آراء الآخرين مخطئة، فإذا كان كذلك، وإذا كان من الصعب أن ندرك وجه اليقين في معرفتنا الروحية، فإن من الصعب في نظر لوك أن نتحامل على الآخرين لمجرد أنهم لا يعتقدون في آرائنا، ولكن هذا الفيلسوف على الرغم من دفاعه عن التسامح ببعديه الخلقي الديني والمعرفي، إلا انه عاد واستثنى من تسامحه بعض الأفراد، ومنهم: الملحدون، أو غير المؤمنين، وكل شخص تتضمن عقيدته الدينية الولاء لسلطة خارجية أجنبية، والأفراد الذين لا يتسامحون مع معارضيهم في حين أنهم يطلبون التسامح من الغير. ومن المعتقد ان لوك كان يقصد باستثناءاته من التسامح الكاثوليك، لأنهم في نظره خاضعون لسلطة خارجية أجنبية عن الكنسية الانجليكانية، وهي كنيسة روما، وبالتالي فكل كاثوليكي بنظر لوك يدين بالولاء الاعتقادي لسلطة خارج انجلترا، وقد تعرضت آراؤه هذه في التسامح للنقد من قبل بعض الباحثين( ).
ثالثاً- هل التسامح من ضمن الحق الطبيعي أم القانون الطبيعي
هذا هو السؤال المركزي الذي يطرح بوجه المؤمنين باللاتسامح عبر تاريخ الممارسة العملية للاضطهاد واستعمال العنف والإكراه تجاه الخصوم على كافة الصعد. أي هل التسامح يقع ضمن الحق الطبيعي أم من ضمن القانون الطبيعي، أو الحق الوضعي؟؟. ومعنى الحق الطبيعي: Natural Right هو الحق الكائن في طبيعة الإنسان، مثل حق الحياة والحرية والمساواة، ويجب توفيرها لكل البشر وفي كل الأوقات مهما كانت الظروف، أي أن الحق الطبيعي هو حق موروث وفطري في الإنسان ولا يجوز التنازل عنه، كما لا يجوز لأي سلطة اغتصابها أو انتزاعها عنه، أما الحق الوضعي فهو الحق الذي تقرره القوانين المكتوبة والعادات المقررة، في حين يكون القانون الوضعي: هو القانون الذي تصدره هيئة تشريعية، وهو مجموعة القواعد القانونية التي تسود دولة معينة في عصر ما، والتي تفرض الدولة تطبيقها مهما كانت طبيعتها تشريعية أو غير تشريعية وأياً كان مصدرها إرادة صريحة أو ضمنية لأفراد المجتمع أو كانت إرادة الله تعالى. يراجع، أحمد خورشيد النوره جي، مفاهيم في الفلسفة والاجتماع، بغداد 1990، مادة حق طبيعي وقانون طبيعي، ويقارن، جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج1، بيروت، مادة حق. كذلك يقارن، ديديه جوليا، قاموس الفلسفة، ترجمة إيلي نجم وجماعته، ط1، بيوت 1992، مادة حق.
فمّن الذي يعطيه الحق الطبيعي ولمَنْ، هل يعطيه القوي للضعيف، أم الضعيف ينتزعه من القوي، باعتبار ان الحق يناقض القوة والعنف؟؟. وبما أن العنف هو اللاتسامح الذي تستعمل وسائل القوة والقهر والاستبداد ضد من لا يؤمن بفكر ما ولا يمارسه، لاسيما اذا كان ذلك الفكر دينياً عقيدياً، أو أيدلوجياً شمولياً حاله حال الأفكار الشمولية التي مورست بسلطات وحكومات عبر التاريخ. لذا جاء التسامح رداً بكل ما يعنيه هذا الرد على ممارسات اللاتسامح العنفية على كافة الصعد.
وهنا يتساءل المؤمنون باللاتسامح، هل يمكن للحق أن يتسامح مع الباطل؟؟، فتجيب الحكمة بأن الحق يجب أن يتسامح في الباطل، لأن الباطل لا قدرة له على المساس بالحق، ولهذا حصراً لا يجوز التساهل حيال الحقيقة والركون إلى لا مبالاة متشككة، على العكس، فالحقيقة التي نجاهر بها تقتضي في حد ذاتها احترام حرية الآخرين. كذلك فإن تحلينا بالتسامح قد يكون إقراراً منا أننا كائنات غير معصومة من الغلط، وأنه لا يجوز لنا فيما يخص أموراً عديدة ادعاء الاستيقان من حيازتنا الحقيقة، وفي هذا اعتراف منا بوجه من وجوه الحقيقة عند الذين يفكرون تفكيراً مختلفاً عن تفكيرنا.
كما ان التسامح على ما يرى البعض ليس الاحترام، لانا نحن بوجه عام لا نكن كثير احترام لما نتسامح فيه، لأن التسامح هو أساساً امتناع عن الإدانة، عن التحريم، عن الإكراه، عن اللجوء للعنف.
مما تقدم يظهر ان التسامح ليس هو من ضمن الحق الطبيعي، بل يقع ضمن الحق الوضعي أو القانون الوضعي الذي يصدر عن هيئة تشريعية، لأن التسامح لو كان من ضمن الحق الطبيعي لما تعرضت البشرية عبر تاريخها لانتهاكات عنفية واضطهادات دينية كبيرة ومعروفة، مما اضطر الفلاسفة والمفكرين إلى التفكير بالتسامح حلاً عقلانياً وقيمياً وقانونياً تشريعياً تصدره الدولة لحماية الناس من الاضطهاد نتيجة للخلافات العقيدية والدينية.
رابعاً- من ممارسات اللاتسامح في الفكر الفلسفي
وإذا ما فتشنا عن مصاديق لما قدمنا من تساؤلات عدة، نجد أن تاريخ الفلسفة القديم والوسيط لم يزودنا عبر اشتغالات الفلاسفة في نصوصهم من أيام اليونان وحتى العصر الحديث، بمصطلح يطلق عليه التسامح. فلا أفلاطون تسامح مع السفسطائيين لأنهم لم يتسامحوا مع سقراط، ولا أفلاطون وأرسطو تسامحوا مع الأمم الأخرى لأنها تقع خارج حدود الإقليم الذي تقع فيه مدن اليونان وان اشتركت معهم جغرافياً في ذات الإقليم وأنتجت حضارات مديدة وعميقة وفكراً وحكمة وعلوماً، ولأنهم أي أفلاطون وأرسطو يونانيون وسموا الأمم الأخرى من كنعانيين ومصريين وشرقيين بأوصاف لا تليق بهم منطلقين من نزعة ضيقة تزعم ان التفلسف خاصية اليونان دون غيرهم.
كما لم يزودنا تاريخ ظهور الأديان الكبرى ومن تفلسف فيها من الفلاسفة اللاهوتيين عن وجود نصوص في مؤلفاتهم تدل على التسامح، سوى نص للكندي ومثله لابن رشد يبينان فيه احترامهما للأمم الخالية من قبلهم فيما انتجت من أفكار وآراء، فإن لقت قبولاً فنعما هي، وان لم تلقى قبولاً فنشكرهم عليها لانهم نبهونا على مواطن الخطأ.
ناهيك عن التنكيل بفلاسفة ظهروا في داخل النظم الدينية التي مارست دور السلطة السياسية وتبنت مذهباً فقهياً معيناً لها، حتى إنا لنجد تلك السلطات التي تبنت مذهباً دينياً محدداً تغيب الآخرين من مفكري تلك المذاهب المخالفة لها بكل ما أوتيت من قوة وقهر وشوكة وسلطان، فتمحوا الآخر مهما كان فكره وعقيدته بالقهر والإذلال والسجن والتشريد والتعذيب والقتل، والأمثلة والنماذج على ذلك كثيرة مما تزودنا بها كتب تاريخ الفكر الديني والعقيدي الذي يعتمد المواقف الجدلية في أحكامه.
فضلاً عن ذلك، نجد أن فلاسفة اللاهوت من علماء الكلام في الأديان السماوية الكبرى لم يتسامحوا فيما بينهم حتى في داخل كل دين من هذه الأديان، على الرغم من ان النصوص الدينية تحمل في طياتها أبعاداً كثيرة للتسامح، إلا إنا لا نجد عند هؤلاء اللاهوتيين أي تسامح حتى مع غيرهم من لاهوتيي الأديان الأخرى ومللها، والسبب يعود في ذلك للمنتج العقلاني العقيدي القائم على العقل الجدلي، إذ العقل الجدلي يميل بطبعه إلى الجدال والخصام لا التسامح، أي ان الجدل مهمته الرئيسية غلبة الخصم والانتصار عليه وإفحامه وإظهار ضعف حجته. وهو ما تخبرنا به نصوص هؤلاء الجدليون ومناظراتهم وكتبهم التي تحمل العنف في عناوينها، مما لا يسع المجال هنا لضرب الأمثلة وإيراد النصوص، وإن كانت لا تغيب عن الباحث المتخصص في هذا المجال.
ومع ذلك ونتيجة لسيادة هذا اللون من التعصب الفكري في العقيدة تجاه الخصوم، نجد بعض هؤلاء الجدليين من قنن طريقة الجدل والمناظرة بضرورة احترام الآخر في مناظرته وعلى رأسهم الجويني، وقد وجدنا قرينة لموقف الجويني هذا عند الفيلسوف ليسنج، إذ تبنى فكرته في طريقة الجدل لدعم جهود الذات الهادفة إلى الوصول للمعرفة، إذ بنظره ولا يمكن ذلك ممكناً إلا باحترام الآخر والاعتراف به، فضلاً عن ذلك، فضلاً عن ذلك، تزودنا النصوص التاريخية، إنا الفيلسوف ليسنج قد تأثر في الإسلام وفلاسفته، ومنهم على الأخص ابن طفيل، إذ قرأ قصته حي بن يقظان وكتب على منوالها رواية غير منشورة في حياته تعود لعام 1763، تحت عنوان: حول نشوء الديانة الموحى بها، حتى ان التلقي المثمر لعلم الكلام الإسلامي وتاريخه يظهر جلياً في مسرحيته ناتان الحكيم الصادرة عام 1779م، التي أيد فيها التسامح كما لم يفعل في أي عمل آخر( ).
وتساوقاً مع هذا التصور، نجد أن الفلاسفة القدماء، ولاسيما الذين كتبوا في جغرافية المناخ والإقليم ووصفوا الشعوب الأخرى من غير شعوبهم ممن تقع في أقاليم جغرافية بعيدة عنهم، (تتميز بالحرارة أو البرودة الشديدتين)، فقد وصف هؤلاء الفلاسفة القدماء وأقصد بالتحديد أفلاطون وأرسطو تلك الأمم والشعوب بصفات لا تدل على الاحترام والقبول للآخر الذي هو من صلب سياسة التسامح وممارسته، وهو ما يشكل النظرة الجوهرانية حسب تصور سلفيا هورش. (يراجع، للتفصيلات، كتابنا جغرافية التفلسف، بيروت 2011).
حتى أن السائد في فكر هؤلاء الفلاسفة القدماء ونصوصهم ازدراء الآخر وتقبيح صورته من أجل استعباده وإذلاله بعدم احترامه، وإلا لو كان التسامح يعيش في ثنايا فكر هؤلاء الفلاسفة القدامى، لجعلوا ما تزودهم به العلوم الأخرى منظوراً لهم ينطلقون به تجاه غيرهم من الأمم والشعوب.
فضلاً عن ذلك، استمر هذا التصور تجاه الأمم الأخرى حتى مع فلاسفة محدثين كبار مثل الفيلسوف كانت، الذي يعيد الفروق بين الشعوب إلى مسببات متعددة مثل المناخ والهواء والتغذية، وان كانت العلامات المميزة الخارجية تعيد أيضاً إلى استعدادات نفسية وخواص طبعية ثم هرمية ترتبط مع هذا. فالعرق الأبيض يحتل المكانة الأعلى بعيداً عن الهنود الصفر وبعيداً جداً عن الزنوج، ومثل ذلك القول عن العرب المسلمين. فالعرب المسلمين يمنحون بالتوافق مع المناخ الصحراوي قوة توهم حارة. وهي صفة تلون بالطبع دينهم الذي يوصم بالخرافة والتعصب، فالإسلام بنظر الفيلسوف كانت يمكن استعماله كمثال على التعصب.
واختم بقولي: أن التسامح سلوكاً وفكراً لم يكن من شواغل الفلاسفة وانهمامهم بشكل رئيسي قبل العصر الحديث. بسبب الوضع الاجتماعي والسياسي والديني والأديلوجي السائد في عهودهم التي عاشوا فيها، والتي تحكمت في انتاجهم لنصوصهم. فغاب فيها هذا اللفظ بشكل لافت للنظر، وإن حضر فحضر بصورة لا تدل على احترام الآخر من داخل ذاته لا لقوة الآخر في ذاته.