بمناسبة الزيارة الاخيرة الاخيرة التي قام بها قائد الجيوش الاميركية ديمبسي الى العراق وتصريحه بخصوص حاجة الجيش العراقي الى مزيد من التدريب والتسليح ، وتلميحه الى ان المعركة مع الارهاب قد تطول سنينا !. ما الذي تهدف اليه هذه التصريحات المتكررة من قبل قادة وسياسيين اميركيين على مختلف المستويات غير نقل اوحصر صراعاتها ونزاعاتها في الساحة العراقية عبورا لتحقيق اهداف بعيدة المديات ؟!.
كان للنزاعات الاقليمية والدولية، والتهديدات والتوترات التي طبعت علاقاتها أثرا سلبيا على الأوضاع في العراق. واتضح هذا الأثر بعد سقوط السلطة السابقة وقيام النظام الديمقراطي الجديد حيث أسهمت تلك الصراعات في زعزعة الأوضاع الأمنية بعدما تحول العراق الى ساحة لتصفية الحسابات وفض النزاعات بعيدا عن ساحة المتخاصمين. وهذا ما بدا جليا في الخلافات التي تأزمت بين الولايات المتحدة وبعض دول المحيط الاقليمي للعراق من جهة وبينها وبين قوى الارهاب الدولي المنظم من جهة اخرى. ناهيك عن صراعات تلك الدول مع بعض قوى الارهاب التي أسهمت في احتضانه وتمويله وتدريبه في فترات سابقة قبل ان ينقلب السحر على الساحر.
وليت الأمر توقف عند حدود نزاعات الولايات المتحدة مع بعض دول الجوار أو مع الارهاب العالمي. فقد أصبح للصراعات السياسية داخل الدولة الاميركية تأثير مباشر على الأوضاع في العراق بشكل عام، لا بل حتى الإنشقاقات الفرعية داخل مؤسسات الولايات المتحدة. والنزاعات المستمرة بين الأحزاب فيها صارت تلقي بتبعاتها على الأوضاع المتأزمة في العراق لتزيدها تعقيدا واضطرابا.
وبطبيعة حال فإن مرد ذلك يأتي من مساهمة الولايات المتحدة في إسقاط السلطة السابقة، وقيادتها لتحالف دولي واسع لإتمام تلك العملية كما انها تحتفظ بعشرات الآلاف من الجنود الذين يمثلون قوات متعددة الصنوف تشرف على قيادتها وادارتها مؤسسات قد تختلف بعض أجندتها على الساحة العراقية الملتهبة، فكثيرا ما تقاطعت قرارات “البنتاغون” مع أهداف الـ “C.I.A ” كما ان نشاطات وكالة المخابرات الفيدرالية قد لا تتفق تماما مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة الاميركية.
أما على صعيد الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة: الجمهوري والديمقراطي فانعكاسات نزاعهما على ساحة الأحداث العراقية أو ضح من ان توصف فقد تم التركيز على الحالة العراقية بحيث استغلت أبسط الثغرات ووظفت أصغر الأخطاء لتصفية الحسابات بين الحزبين المذكورين.
فما ان فاز الحزب الديمقراطي بالأغلبية في “الكونجرس” الاميركي حتى بدأت التحركات السياسية لكلا الحزبين وباتجاه الساحة العراقية المضطربة تحديدا. وكنا نترقب بحذر نتائج تلك الزيارات المكوكية. ولعلمنا المسبق بخلافات الحزبين الأزلية، وترصد أحدهما لأخطاء الآخر وتسقط عثراته لإلحاق أكبر وأسرع هزيمة به فلم نتوقع من تلك الزيارات- برغم كثافتها وتنوع شخوص القائمين بها ومراكز مسؤولياتهم- انها ستعجل باعادة اعمار العراق، والعمل على استتباب الأمن والاستقرار فيه!. فخلال الفترة المنصرمة- أعقبت فوز الحزب الديمقراطي- توافد على العراق عدد كبير من المسؤولين الاميركيين ومن كلا الحزبين أمثال وزير الدفاع الجديد روبرت غيتس ووزيرة الخارجية كوندليزا رايس وهما جمهوريان كما هو معروف، ومن الحزب الديمقراطي هيلاري كلنتون عضو مجلس الشيوخ ونانسي بيلوسي رئيسة المجلس.
وخلال الفترة ذاتها تعاقب على زيارة العراق أعضاء بارزون في مجلسي النواب والشيوخ. كان المفروض ان يكون اولئك المسؤولون صورة عن كثب للشأن العراقي وتداعيات سقوط السلطة الدكتاتورية حيث كان معظمهم يجهل التفاصيل الدقيقة لمجريات الأمور في العراق، ولا يمتلك القدر الكافي من المعلومات عن حجم الهجمة الارهابية واختلاط الأوراق لأجندات خارجية على ساحته. لكن الذي حصل ان بعض اولئك المسؤولين كانوا يبدون تعاطفا كبيرا مع الشأن العراقي، ويتعهدون بتنفيذ التزامات ومقترحات لمعالجة الأوضاع الأمنية والاقتصادية على وجه الخصوص لكنهم ما ان يعودوا حتى تطغى نبرة الخطاب الحزبي المتحيز لتحقيق مكاسب حزبية على حساب هذا الطرف أو ذلك والساحة العراقية ارض خصبة ما دامت تشهد اضطرابا أشد سخونة!. واللافت ان العرف الاميركي قد تغير هذه المرة فالمعروف عن السياسة الاميركية انها مبنية على ثوابت لا تتغير ولا تتأثر بتعاقب الجمهوريين والديمقراطيين خاصة في معالجة القضايا العالمية وخاصة التي يشترك الجيش الاميركي في خوض معاركها، حيث تتوحد جميع الأصوات وتتفق كل الأحزاب وفي مقدمتها الحزب الحاكم والحزب المعارض على دعم السياسة الخارجية ودعم الجيش في تلك المرحلة.
ومع ان الجيش الاميركي قد دخل معركة مصيرية متداخلة هذه المرة هدفها الرئيس القضاء على الارهاب الذي ضرب الولايات المتحدة في عقر دارها، ومحاولة ابعاده عن الساحة الاميركية وهدفها الآخر بناء شرق أوسط جديد، وهذا الهدف تصب نتائج مردوداته في صالح السياسة الاميركية حال تحققه. فمع ما درجت عليه السياسة الخارجية للولايات المتحدة ومع تحقق هذه الأهداف الواضحة نرى ان بعض السياسيين الاميركيين يصرون على كسر كل القواعد في سبيل تحقيق هدف حزبي ضيق وهو إلحاق الهزيمة بالحزب المنافس لتحقيق مكاسب انتخابية. قد يتصور البعض ان تلك التغيرات أو الخروج عن المألوف والأعراف السياسية شأن يخص الاميركيين أنفسهم، والى حد ما فإن مثل هذا التصور صحيح، لكن انعكاسات ذلك التغير على الممارسات والمراوغات السياسية والميدانية في الساحة العراقية هو ما يجعلنا نتوجس حصول شرخ في العمل المشترك الذي تم الاتفاق عليه بين الحكومة الوطنية والولايات المتحدة وما يحمله هذا الهاجس من مخاطر على الوضع الأمني بشكل خاص وحالة التغيير بصورة عامة والتي ما تزال في خطواتها الاولى تعترضها المفخخات والعبوات والأسلاك الشائكة وتحدق بها المخاطر والمؤامرات من بين يديها ومن خلفها ومن فوقها وتحتها!.
ان الستراتيجية الجديدة التي أعلنها الرئيس باراك اوباما بخصوص الشأن العراقي والتي تزامنت مع الخطة الأمنية الجديدة التي قررت الحكومة العراقية العمل بها تتطلب توحيد الخطاب والقرار في كلا الادارتين العراقية والاميركية طالما ان الهدف هو مواجهة الارهاب التكفيري وانجاح مشروع الشرق الأوسط الجديد وعليه فإن أي تصريح أو عمل يخالف هذا المنحى يصب في صالح قوى الارهاب العالمي ويؤدي الى إفشال كل الجهود المبذولة في سبيل استقرار المنطقة وقيام مشاريع التنمية فيها. ومع ان الرؤساء الاميركين كلنتون وبوش واوباما قد أكدوا- خلال فترات حكمهم- مرارا ان خيارهم الوحيد هو النصر على الارهاب مؤمنين بانه نصر للإنسانية وتصب نتائجه في صالح البشرية وليس في صالح العراق أو الولايات المتحدة فقط. الا ان ما يردده بعض المسؤولين الاميركيين و الديمقراطيين منهم بشكل خاص يهدم كل مقومات ذلك النصر ولا يصب الا في مصلحة الارهاب. ومثال ذلك التصريحات المتناقضة التي أدلوا بها في بغداد مقيمين اداء الحكومة الوطنية وكيف تغير ذلك التقييم حال وصولهم واشنطن وتحت تأثيرات معينة تصب في احراج الادارة الحالية. ولا يخفى ماللتسريبات من الأثر السيء على خارطة الستراتيجية الجديدة.
لا شك ان القرار السياسي العراقي له استقلاليته، وما تحقق من تسلم الملف الأمني وتنفيذ الأحكام التي أصدرها القضاء المستقل، وتطور العلاقات العراقية مع أنظمة تتقاطع مع السياسة الاميركية وكثير من الأمثلة الاخرى دليل واضح على تلك الاستقلالية لكن الشراكة العراقية الاميركية في بناء عملية التغيير تحتم التزام جميع الأطراف بما ألزمت به نفسها. وإبعاد الساحة العراقية المضطربة عن كل النزاعات الحزبية الاميركية وتداعياتها، ففي ذلك تحقيق الأهداف المشتركة وعلى رأسها القضاء على الارهاب المنظم، واعادة الاستقرار والأمن ليس للعراق وحده بل للمنطقة بأسرها. وبخلاف ذلك تكون الولايات المتحدة هي المعنية باضطراب المنطقة والمسؤولة عن فشل المشاريع المطروحة ويتحمل قادتها الجدد كل ما يترتب على ذلك الفشل من تداعيات وأزمات. اننا نتطلع الى مواقف وافعال جادة من قبل الادارة الاميركية تجاه العراق سياسيا واقتصاديا وعسكريا وخاصة بما يتعلق بملف القضاء التام على الارهاب واعادة الان والاستقرار الى العراق ..مواقف وافعال تؤكد التزام الجانب الاميركي بما الزم به نفسه لقيام علاقة صداقة وتعاون مشترك مبنية على الاحترام المتبادل والمنافع المشتركة.