يدور في الولايات المتحدة اليوم، تنافس (وفي اغلب الأحيان متفق عليه مسبقا) ، بين وسائل الاعلام الامريكية التي أطلقت ، حملة إعلامية كبيرة حول نية الإدارة الامريكية ارسال شحنة من أنظمة الدفاع الجوي عالية التقنية ( منظومة الصواريخ الباتريوت ) إلى كييف ، , وبين البيت الأبيض الذي لم يؤكد ولم ينفي هذه المعلومات ، واكتفى بجملة صرح بها منسق الاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض جون كيربي، بأن الإدارة الأمريكية لا تستطيع حاليا تأكيد الأنباء حول إمكانية إمداد كييف بأنظمة صواريخ “باتريوت” .
وعلى ما يبدو ان الإدارة الامريكية ، ارادت من هذا التنافس ” المصطنع ” ، ان يكون بمثابة ” بالونة الاختبار ” ، للتعرف على ردة الفعل الروسية ، وبالفعل فقد حذرت موسكو ، في بيان السفارة الروسية في واشنطن، بأن نقل أنظمة صواريخ “باتريوت” من قبل الولايات المتحدة إلى كييف،” إذا حدث ذلك، فسيكون خطوة استفزازية من قبل الإدارة الأمريكية، قد تؤدي إلى عواقب لا يمكن التنبؤ بها” ، وان هذا الخط من واشنطن يسبب ضررا هائلا ليس فقط للعلاقات الروسية الامريكية ولكنه يخلق أيضا مخاطر إضافية للأمن العالمي ، في حين اعلن السكرتير الصحفي للرئيس الروسي دميتري بيسكوف، ان أنظمة باتريوت ستصبح هدفا مشروعا للقوات المسلحة الروسية إذا تم تسليمها من قبل واشنطن إلى كييف. ويأتي القرار الأمريكي ، في وقت تمر به أوربا ، في تناقضات كبيرة ، فهي اليوم لاهية في السعي الى توفير شحنات من الديزل وفق ما أعلنته وكالة “بلومبيرغ” ، من جميع أنحاء العالم بوتيرة تقترب من معدلات شبه قياسية استعدادا للحظر القادم على الشحنات ، ومن أكبر مورد خارجي لها ، ونقلا عن بيانات من Vortexa Ltd، ففي الأيام العشرة الأولى من هذا الشهر، استوردت بريطانيا والاتحاد الأوروبي أكثر من 16 مليون برميل من الديزل عن طريق البحر، وإذا استمرت هذه المعدلات، فقد يكون رقم ديسمبر هو الثاني بعد الرقم القياسي لعام 2016 عندما أدت الإضرابات في المصافي الفرنسية إلى قفزة في الواردات ، وهي ايضا ( أي أوروبا ) ، وكما أكد مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، قد استنفدت مخزوناتها العسكرية بسبب توفير الأسلحة لدعم أوكرانيا، وكتب على مدونته في ” تويتر ” ، “ان هذه الحرب كانت أيضا بمثابة جرس إنذار لنا جميعا فيما يتعلق بقدراتنا العسكرية ، لقد أعطينا أوكرانيا أسلحة، ولكنّنا من خلال ذلك أدركنا أن مخزوننا العسكري قد نفد” ، وأن نفاد احتياطي الأسلحة الأوروبية سببه عدم تلقي المجمع الصناعي العسكري الأوروبي التمويل المناسب خلال السنوات الماضية.
وكذلك تصريح المندوبة الأمريكية لدى الناتو جوليان سميث، خلال ندوة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، الذي كشف حجم الازمة التي يمر بها العالم الغربي ، وكشفت أيضا حجم الاحراج الذي يقع فيه الغرب والولايات المتحدة الامريكية، وأكدت أن أوكرانيا ودول الناتو يواجهان شحا في الأسلحة والمعدات العسكرية، وإن “هذا تحد خطير بالنسبة للحلفاء في الناتو… وهذا تحد ملموس بالنسبة للقوات المسلحة الأوكرانية التي تواجه الشح ونفاذ المخزونات” ، مشيرة الى ان الدول الغربية أسست مجموعة لتنسيق الأعمال لتقديم الدعم العسكري لكييف، وأن أعضاء تلك المجموعة “يبدؤون ببحث مسألة الترسانات المستنفدة في أوكرانيا ” ، وأن المسؤولين يجتمعون كل شهر مع ممثلي قطاع الصناعات العسكرية “لتحديد ما هي الإشارات الصحيحة التي يمكن أن يعطوها للقطاع الصناعي لمنحه الضمانات الضرورية ليبدأ الإنتاج مجددا ” كما تقول سميث.
وفي الوقت الذي لم يعط البيت الأبيض جوابا واضحا على تلك الانباء ، فقد قالت صحيفة ” واشنطن بوست ” ، ان الرئيس الأمريكي جو بايدن، سيوافق على إرسال أنظمة صواريخ “باتريوت” إلى أوكرانيا، فقط بعد أن يوضح البنتاغون جميع القضايا المتعلقة بصيانتها وتأثيرها على استعداد القوات الأمريكية ، وقد تعلن الولايات المتحدة هذا الأسبوع عن إرسال أنظمة دفاع جوي باتريوت إلى أوكرانيا ، والقرار النهائي بشأن التوريد سيتخذه جو بايدن ، لكن نغمة المنشورات في وسائل الإعلام الغربية تشير إلى أن هذه المشكلة تبدو محسومة ، وتعمل وزارة الدفاع الأمريكية حاليا ، على قضايا تتعلق ببرنامج التدريب العسكري، والذي من المحتمل أن يتم تنفيذه في ألمانيا ، وفي ظل الظروف العادية، يمكن أن يستمر التدريب لأكثر من ستة أشهر .
والمعروف انه وبعد بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة ، طالب مكتب فلاديمير زيلينسكي بنقل أنظمة الدفاع الجوي بشكل شبه يومي ، لكن البنتاغون والبيت الأبيض لم يتعجلوا في تلبية هذه الطلبات ، فقد ارتبط الرفض بمخاطر تتعلق بسمعة المجمع الصناعي العسكري الأمريكي ، إذا دمرت القوات الجوية الروسية أنظمة الدفاع الجوي أو استولت عليها كغنيمة ، بالإضافة إلى ذلك ، تعتبر مخاطر السمعة مرافق متأصلة في نظام الدفاع الجوي باتريوت ، فمن المعروف أن هذه المجمعات أثبتت نفسها بشكل غامض خلال الغزو الأمريكي للعراق ، وفشلت هذه المنظومة الكبير في المملكة العربية السعودية ، عندما أطلق ” الحوثيون ” من الأراضي اليمنية النار بنشاط على البنية التحتية النفطية للسعوديين ، باستخدام أبسط الطائرات بدون طيار وصواريخ كروز ، ولوحظت وجود مشاكل مماثلة في ” إسرائيل ” ، وعجزها عن التصدي للأهداف الجوية المنطلقة من قطاع غزة .
ويرى المراقبون الروس ، انه لا احد ينكر ان منظومة الدفاع الجوي الامريكية ” باتريوت ” ، بانها واحدة من المنظومات الجيدة ، ومن حيث خصائصها ، فهي تتقدم بشكل ملحوظ على أنظمة الدفاع الجوي المتاحة للقوات المسلحة الأوكرانية ، ولذلك يحتاج العاملين على هذه المنظومة الى فترات تدريب طويلة قد تمتد الى عدة شهور ، باعتبار انه منظومة متكاملة تتكون من عدة مراحل ، لكنها لم تظهر نفسها جيدا في الصراعات من التسعينيات وحتى الوقت الحاضر ، حتى وان تم استخدامها كنوع من الأسلحة الهجومية ، ولكن حتى بدون ذلك ، فإن الولايات المتحدة تزيد بجدية المخاطر في القتال من أجل سماء أوكرانيا.
ومع ذلك ، يدرك الخبراء العسكريون في الولايات المتحدة أن البنتاغون يخاطر بشكل كبير من خلال تزويد أوكرانيا “بالباتريوت” ، ويشير عالم السياسة الأمريكي مالك دوداكوف ، انه يلزم ما يصل إلى 90 شخصًا للحفاظ على نظام واحد ، والظاهر انه سيتم تدريب الأوكرانيين على عجل ، وهذه الصعوبات حالت حتى الآن دون إمداد البيت الأبيض بصواريخ باتريوت ، فضلاً عن تكلفة صيانتها ، في وقت يبلغ سعر صاروخ واحد 3 ملايين دولار ، ويمكن أن تكلف بطارية الصواريخ ما يصل إلى مليار دولار ، ومن ناحية أخرى ، بالنسبة إلى الشركة المصنعة لهذه الأنظمة – شركة Raytheon – يعد تزويد أوكرانيا بأنظمة الدفاع الجوي فرصة “لمعرفة مدى فعالية هذا النظام في مقاومة الصواريخ والطائرات بدون طيار في ساحة المعركة ، ” وذا فشلت في التعامل معهم ، فيمكن لواشنطن دائمًا تحميل المسؤولية عن ذلك على الأوكرانيين أنفسهم – الذين ، كما يقولون ، لم يكن لديهم الوقت لتدريبهم على استخدام مثل هذه المعدات الحديثة.
ويجمع الخبراء العسكريون ، على أن أنظمة “باتريوت” التي ستمد بها الولايات المتحدة أوكرانيا ليست “سلاحا معجزة” ، وأن لهذه المنظومة لن يكون لها تأثير على مسار الأعمال القتالية في أوكرانيا، لأن هذه المنظومة معقدة إلى حد ما، وتتطلب تدريبا للأفراد وتنسيقا قتاليا، وكل ما هو مطلوب عند وصول نظام أسلحة جديد ، وعلى الأقل، في المستقبل القريب، لن يكون هناك أي تأثير لهذه المنظومات على سير العملية العسكرية الروسية الخاصة ، وبرأي أستاذ علوم السياسة في المدرسة العليا للاقتصاد بجامعة الأبحاث الوطنية الروسية، فلاديمير باتيوك ، فأنه لا ينبغي للمرء أن يخلق أسطورة من أي (أسلحة عجيبة)، فحتى لو ظهرت (باتريوت) وفي جاهزية قتالية كاملة في خدمة القوات المسلحة الأوكرانية، فمن غير المرجح أن يكون هذا قادرا على تغيير أي شيء لاحقا ، والحسنة الوحيدة ، لا تتعدى عن كونها تضيف رقما جديدا الى منظومات الدفاع التي تسلمتها أوكرانيا من الدول الغربية جميعا .