22 ديسمبر، 2024 8:53 م

هل إن دماء المتظاهرين العراقيين برقبة ( الصين ) ؟!

هل إن دماء المتظاهرين العراقيين برقبة ( الصين ) ؟!

للإخبار إشكال وألوان لا حصر لها ، ومن إشكال الأخبار التي روجت منذ أيام ما تناقله البعض من تبريرات بان التظاهرات التي تشهدها اغلب المحافظات ، وسقط من اجلها العشرات من الشهداء الأبرياء والمئات من الجرحى المساكين الذين يتحول عددا كبيرا منهم إلى شهداء بعد نقلهم للمستشفيات لقصور الخدمات الطبية في بعض الاحيان وفقر مستلزمات الطوارئ والعلاج والعمليات ، سببها زيارة رئيس مجلس الوزراء السيد عادل عبد المهدي ووفد ال56 إلى الصين باعتبار إن الزيارة أغضبت الإدارة الأمريكية التي تقاطع الصين اقتصاديا بسبب الخلافات التجارية بينهما اعتقادا بان العراق يسعى لإنعاش الاقتصاد الصيني وإضعاف أمريكا في حربها مع الصين ، وإذا كان من يطلق هذا الكلام جادا فانه ليس واهما فحسب وإنما يحتاج إلى معلومات وفيرة ، فالاقتصاد الصيني متين جدا لأنه يتكفل بمعيشة 1,4 مليار إنسان وهو تعداد شعب الصين في العام الحالي ( وهناك من يعتقد بان التعداد الحقيقي هو مليار و700 مليون ) ، والذي يروج لمثل هذا التبرير للتظاهرات كأنه لا يعرف الحرمان الذي عناه ويعيشه اغلب العراقيين ليس منذ 2003 وإنما منذ عقود بعد سلسلة المغامرات ودخول الحروب والعسكرة والحصارات وممارسات الإفقار والحرمان والمكرمات التي باتت ترافق اغلب الأفعال والقرارات ، ومما يدل على إن المظاهرات عراقية إلى حد كبير هو حجم وتنوع المشاركة فيها فقد أيدتها الجماهير بعفوية شبه مطلقة بمختلف الاعمار والأصول والتوجهات ودعمها الفقراء والمحرومين والذين يريدون الخير للعراق لدرجة إنها تحولت إلى حالة شعبية يتم تمويلها من قبل الفقراء والمعدمين فتحولت ( ألتك تك ) من وسيلة للحصول على لقمة العيش إلى إسعاف لنقل المصابين .
وان النفي لهذا التبرير سببه أيضا ما يعلمه الجميع بان زيارة عبد المهدي للصين لم تأتي بنتائج ملموسة إعلاميا او واقعيا من حيث توقيع الاتفاقيات او المعاهدات المتوقع أن تكون منتجة بالفعل ، فقد اقتصرت على مذكرات تفاهم ومحاضر اجتماعات ووعودا برد الزيارة ودراسة نتائجها فيما بعد والاتفاق على خطوط عريضة لم توثق بشكل رسمي ولم تنشأ التزامات واجبة التنفيذ بجدول زمني وإنما ( أمنيات ووعود ) ، ونزيد على ذلك إن الزيارة تزامنت مع العطلة الوطنية السنوية للصين التي تمتد لأكثر من عشرة أيام كما إن توقيتها جاء مع التزامات الحكومة الصينية وانشغالها بانعقاد مؤتمر مهم الذي دعي لحضوره الوفد العراقي ربما من باب المجاملة او لشغل الفراغات ، ولا نريد القول إن الزيارة تحولت إلى ترويحية لان إفرادها ليسوا عطشى للسفر والإيفاد والحمد لله ولكن هناك مؤشرات على توقيتاها وتشكيلة الوفد المشارك فيها ولعل التعليقات التي ظهرت بعدها تؤكد عدم تحقيقها للنتائج المرجوة منها ، والقصد إنها لم تشكل خطرا على توجهات الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها العدائية الاقتصادية اتجاه الصين بأي شكل من الأشكال والتي لا شان للعراق بتفاصيلها وأهدافها لا من قريب ولا من بعيد ، فالعلاقة التجارية بين العراق والصين تمتد لسنوات طويلة لا حبا بالصين وإنما لأنها قادرة على إنتاج سلع تشبع جزءا من الحاجات لشرائح من السكان بأسعار متدنية وتحقق أرباحا فاحشة للتجار وتحقق مزايا الاستفادة من منافع مزاد العملة في البنك المركزي العراقي بالحصول على تحويلات خارجية لبعض التجار تحت غطاء الاستيراد ، سيما وان الصين تتوافر فيها إمكانية الإنتاج على وفق رغبات وطلبات التجار العراقيين المستوردين من حيث النوعيات والماركات والأسعار .
وحجم الاستيراد من الصين يفوق ال20 مليار دولار سنويا فالبضائع الصينية تملأ الأسواق والبيوت العراقية بعشرات او مئات العلامات والماركات التجارية الأصلية والمقلدة ، وليس سرا إن معظم الشعارات والإعلام ومواد الزينة والصور التي ترفع في المناسبات الاجتماعية والوطنية والشعائر الدينية هي بصناعة او طباعة صينية بنسب وكميات عالية جدا ، وفي المقابل فان السلع الأمريكية تكاد تخلو من الأسواق العراقية لأنها مرتفعة الأسعار ولا يمكن الاستثناء من ذلك سوى سيارات ( الوارد الأمريكي ) التي هو عبارة عن نفايات أمريكية يقوم التجار بالتهافت على استيرادها للعراق بأثمان بخسة لأنها عبارة عن مركبات متضررة ولا يسمح باستخدامها في الولايات الأمريكية ، وتباع في أمريكا بشبه المجان للتخلص منها لما تشكله من أخطار وأضرار على السلامة العامة والبيئة وغيرها من الأمور ، ولا يعني ذلك إن أمريكا ليست لديها غايات دنيئة في العراق لحرمان شعبه من الثروات التي انعم بها الخالق على العراقيين ، او إن الصين لاتمتلك قدرات هائلة لتنمية اقتصاديات البلدان فنحن لم نستثمر جزءا من طاقاتها التنموية بالقدر الذي يفيد الاقتصاد إذ انشغلنا باستيراد سلع الاستهلاك غير المتينة التي لا يدوم استخدامها لسنوات ، فالصين (مثلا ) استثمرت في مصر ب7 مليارات دولار وقد خصصت لصناعة السيارات والسفن وقطاع البناء والإنشاء وتشييد الأنفاق وفي صناعات التعدين والزراعة ، وتمكن هذا الاستثمار الذي سينتقل إلى مصر بنسبة 100% بعد سنوات من تشغيل عشرات الآلاف من العمالة المصرية وإكسابهم المهارات التطويرية والتقنية والتنفيذية ولم يكن الدفع مقدما وإنما بقروض ميسرة بعلم ومباركة البنك الدولي .
ويمكن الاستنتاج من خلال هذا الوصف إن أمريكا ليس من المستبعد أن تكون المحرض لإيذاء العراقيين ولكن ليس في حالة القيام بتظاهرات بهذا الحجم والشمول بسبب زيارة الوفد العراقي للصين كما يشاع ، لان اغلب العراقيين قد خبروا السياسات الأمريكية التي ثبت إنها لا تحقق خيرا لهم بدليل احتلالها الذي جلب السوء الذي كان محفزا لكل التظاهرات التي شهدتها البلاد لضعف وقصور الأداء والفساد ، وفي وقتنا الحالي من الصعب أن تمرر مخططاتها إلا على ذيولها فحسب ، وهو ما يعني أن سبب اندلاع التظاهرات تعود لحاجة الشعب إلى إصلاحات حقيقية بعد أن سأم الوعود وهذا يخالف الرأي المتعلق بزيارة الصين ومن يصر على تلك الفرضية عليه أن يبحث عن مسوغ آخر ( أكثر إثباتا إذا كان لايزال مصرا بالفعل ) لإقناع المواطن العراقي ومنظمات حقوق الإنسان والرأي العام الدولي بأسباب إراقة هذه الدماء والمحاولات لقمع التظاهرات او منعها او التخفيف منها على الأقل ، فهي تزداد انتشارا لتكون جامعا للعراقيين رغم صدور أربع حزم للإصلاحات من مجلس الوزراء ونجاح مجلس النواب في عقد جلسة مفتوحة ليومي 28 و 29 من تشرين الأول بعد غياب امتد لأسابيع ( للتمتع بعطلة الأربعينية او الاعتصام داخل بناية البرلمان ) ، ويضاف لذلك كله استقالة 4 نواب من مجلس النواب من أصل 329 عضوا ( يمكن استبدالهم بموجب النظام الداخلي للمجلس بترشيح من كتلهم ) وفرض حظر التجوال من الساعة 12 لغاية الساعة 6 صباحا وحتى إشعار آخر الذي يقاومه المتظاهرون ومن يتعاطف معهم ، ونضيف لذلك دخول طلاب المدارس والجامعات إلى المظاهرات وإعلان اغلب النقابات مشاركتها في التظاهرات التي ربما تتحول إلى إشكال أخرى عند الازدياد التصاعدي لعدد الشهداء والجرحى والمتضررين في لقمة العيش من انتشار هذه الممارسات التي لم تتضح خارطة الطريق لنهاياتها الفعلية رغم وضوح المطالب التي كفلها الدستور .
وباستبعاد النظرية الصينية في هدر دماء وأرواح وأجساد العراقيين ، فان من الواجب معالجة مشاكلنا الداخلية بأيادي عراقية وبرجحان العقل ونكران الذات قبل أن تتسلل الأيادي الأجنبية تحت عناوين الحريات وحقوق الإنسان ولكي نبعد التدويل والوصايا الأجنبية التي تعيدنا إلى البند السابع الذي نبعد عنه ببضعة أصابع ، فاغلب ما يحصل هو من تداعيات التدخل الأجنبي ومن فواتيرالتحرير من النظام البائد الذي قدمته أمريكا بطبق مسموم وليس في سلة زهور ، والحلول لكل المشاكل هي بعناوين وتفاصيل معروفة للجميع ولكن هناك من يقوم بالتغطية عليها لأنها تتضارب مع مطامعهم ومنافعهم او مصالح من يأمرونهم ، واغلب الحلول يمكن أن تتم بأيادي عراقية نظيفة لم تهدر الدماء او تسرق أموال العراقيين وأبرزها ( الدستور ، التعداد العام للسكان ، مفوضية وقانون الانتخابات والأحزاب ، الفساد وإعادة الأموال المنهوبة ، العلاقة مع العالم والإقليم ، العدالة في توزيع الثروات ، العلاقة مع إقليم كردستان ، رفض التبعية الأجنبية والعلاقة المتوازنة مع الآخرين ، الخدمات ، الشباب ، المنافذ الحكومية ، اعتماد الكفاءة في إسناد المناصب ، تقليل التفاوت في الدخول ، تنمية الاقتصاد الوطني ، جولات التراخيص ، مكافحة البطالة بالعمل وليس بالصدقات ، مراجعة وتصحيح بعض القرارات التي صدرت بعد 2003 ، معالجة العسكرة والعودة للحياة المدنية كلما أمكن ذلك ، غيرها ) ، والسؤال الذي كان وما يزال يطرح هل من الممكن الاضطلاع بهذه المهام بنزاهة ووطنية وشفافية وبعيدا عن الأجندات والتدخلات ، فمن شدة اليأس لدى البعض فأنهم يعولون على التدخل الأجنبي ، ولهم يمكن إن يقال إن شعبا بتعداد 38 مليون غالبيتهم من الأذكياء والأوفياء وهو ليس عاجزا عن اختيار أبناء بررة يتولون الإصلاح والأعمار ليس بحاجة لأي تدخل أجنبي ، فالشرفاء والمخلصين والأوفياء هم الغالبية حين يغيب التخوين والتبخيس وبعد معالجة معاقل الفساد والتبعية والانبطاح .