18 ديسمبر، 2024 9:14 م

هل إلى صحوة العقل من سبيل ؟!

هل إلى صحوة العقل من سبيل ؟!

بداية لا نقصد بالحديث عن العقل الإشارة إلى ذلك العضو الحيوي في تركيب الإنسان الفسيولوجي المسؤول عن وظائف تنظيم وتوجيه أعضاء الكائن البشري ، بما يديم أنشطته الحيوية ويلبي حاجاته الضرورية . إنما نعني بالعقل هنا قدرة المرء على انتهاج التفكير الواضح بما يحيط به من معطيات ومؤثرات ، والوعي الناضج بما يستبطنه من فكريات ورمزيات ، والتقدير السليم لما يرتبط به من علاقات وتفاعلات ، والاستجابة الصحيحة لما يتمخض عنه من تواضعات وسلوكيات . بحيث يضمن للفرد المحبو بنعمة العقل ليس فقط مستوى عال من الطمأنينة الذاتية ، والحرية الشخصية ، والكرامة الإنسانية فحسب ، بل وكذلك يتيح له إمكانيات التوافق البناء مع بيئته الطبيعية ، والتفاعل المثمر مع حاضنته الاجتماعية . ولعل إهمال هذا التمايز الدلالي بين ما هو بيولوجي وبين ما هو اجتماعي ، وإساءة فهم هذا الاختلاف بين ما هو طبيعي وبين ما هو معرفي ، بخصوص ما يتمخض عن مفهوم العقل والعقلانية من إيحاءات صورية وإحالات إجرائية ، هي ما أوقع الكثيرين بمهاوي الخلط ومزالق التداخل ، لاسيما وان مصادر هذا التمييز وذاك التفريق ندين بها لإسهامات فلاسفة الغرب ومفكريه ، خلافا”لأقرانهم من مفكري بلدان العالم الثالث الذين قلما أسهموا بقسطهم في هذا المجال المعرفي المهم .

ومن هذا المنطلق نجد انه غالبا”ما تمتلئ خطاباتنا بالإشادة بدور (العقل) في نهوض المجتمعات ، مثلما تحتدم نقاشاتنا بالإفادة من وظيفة (العقلانية) في تطور الشعوب ، دون الإشارة إلى ما نعنيه بمفهوم العقل أو نحدد طبيعة العقلانية التي نرمي إليها عبر ذلك الاستخدام ، بحيث يبدو الأمر كما لو أن هذه التعابير الأثيرة تنطوي بحدّ ذاتها على طاقة عجائبية ، لا يترتب على من يلجأ إليها ويحاجج بها سوى تضمينها في الحالة الأولى (الخاطبة) ، ومجرد النطق بها في الحالة الثانية (المناقشة) ، حتى تنقلب الأمور رأسا”على عقب ، إذ يصبح الواقع بكل مفارقاته طوع بنان وعينا الملتبس ، ويغدو المجتمع بكل تناقضاته رهن إشارة إرادتنا المخصية . دون أن نأخذ بالاعتبار إن التبجح بالألفاظ ذات المرجعيات الغربية لا تكفي لوحدها حتى تمارس تأثيرها في الوعي وتعكس قيمها في السلوك ، إنما تحتاج – كخطوة أولى – إلى عمليات تبئية دؤوبة للمفاهيم وتوطين مستمر المصطلحات ، بحيث تغدو جزء من بنية ذلك الوعي ومعلم من معالم ذلك السلوك . ولعل هذا الأمر هو ما أحال تلك التعابير إلى أشبه ما تكون بالتعاويذ السحرية المفارقة ، منها بالمفاهيم

السوسيولوجية والابيستمولوجية المعاشة التي تشترط مراعاة كونها تحمل طابع النسبية التاريخية ، والظرفية الاجتماعية ، والخصوصية الحضارية ، والتعددية الثقافية .

* التباس مفاهيم العقل والعقلانية *

وعلى الرغم من شدة الاختلافات وعمق الخلافات بينها فانه ليس كالايدويولوجيات الراديكالية ، سواء بطبعتها اليمينية / المتربللة أو اليسارية / المتمركسة ، من أساء إلى مفاهيم كل من العقل والعقلانية وجعل منها تبدو بهذا الخواء واللافاعلية ، ليس من باب التنديد بهما والتشنيع عليهما على غير هدى ، وإنما من منطلق التمجيد فيهما والترويج لهما على غير دراية . وذلك بزعم أنها عقائد مناهضة للأفكار الدينية الغيبية والتصورات الشعبية التقليدية ، التي طالما كانت مندغمة ومتحالفة مع تيارات الرجعية الاجتماعية والانتهازية السياسية في بلدان العالم الثالث ، لاسيما إبان صعود موجات الجماهيريات العنيفة ، وتبوء قادة الطبقات الرثة مقاليد السلطة وتزعم الدولة تحت يافطة (الاستقلال الوطني) المزعوم ، حيث كانت الصراعات الإيديولوجية والحزبية مستعرة بين ممثلي التيارات الليبرالية بكل أطيافها من جهة ، وبين ممثلي التيارات الاشتراكية بكل عناوينها من جهة أخرى .

ففيما كان أنصار التيارات الأولى يشايعون مفاهيم العقل والعقلانية باعتبارهما من نتاج عصر الأنوار وامتداد لحقبة الحداثة الغربية ، التي ناصبت العداء لكل ما من شأنه أن يمت بصلة للأفكار التقليدية والفلسفات الميتافريقية التي كانت رائجة في عصر الإقطاع المتحالف مع طبقة الاكليروس ، فضلا”عن كونها حاملة لواء العلمانية (اللائكية) المناهضة لشتى ضروب المثالية الذاتية والموضوعية . هذا بينما سعى مريدي التيارات الثانية إلى توظيف زخم تلك المفاهيم الرائجة ، لإظهار كونها حركات تحتكم إلى رؤى ثورية وتصورات تقدمية تحايث حركة التاريخ وتشايع تطور المجتمع ، فضلا”عن امتلاكها مشاريع تنموية طموحة تعتمد الأساليب العلمية من جانب ، ولاستقطابها ، من جانب ثان ، دعم ومؤازرة الطبقات الشعبية المسحوقة من خلال العزف على موضوعة حرمانها الاقتصادي وامتهانها الاجتماعي وارتهانها الإيديولوجي للأنظمة السلطوية ذات الطابع الطبقي / البرجوازي . وهو الأمر الذي ترتب عليه استحالة تلك المفاهيم ذات المضامين المعرفية والمرجعيات الاجتماعية والسياقات التاريخية ، إلى أقانيم تنتصب خارج التاريخ وأوثان تقيم خارج المجتمع ، للحد الذي جعل منها مفاهيم معوّمة بلا ضفاف يمكن استخدامها للتبديع والتقريع أو للتمجيد والتفنيد في نفس ، طالما أنها باتت تفتقر لأية معايير سوسيولوجية معينة أو ضوابط منطقية محددة .

* تخوين العقل وتجريم العقلانية *

وعلى قدر ما كان الغرب الرأسمالي – عبر سيرورة طوره الحداثي – يروج لنظرياته عن قيمة العقل وأهمية العقلانية ، باعتبارهما حبل النجاة لبلدان العالم الثالث / الرابع للتخلص من مظاهر ؛ التأخر الحضاري والتخلف الاجتماعي والتطرف الديني والعنف السياسي ، التي لم تبرح تضرب أطنابها في ربوع تلك المجتمعات المغلوبة على أمرها ، بغية حملها على اجتياف قيمه واستبطان أفكاره وتبني خياراته . إلاّ انه لم يلبث أن مهد لحملة مريبة من التخوين للعقل بزعم كونه لم يبرأ بعد من خرافاته (الشيوعية والفاشية) ، والتجريم للعقلانية بادعاء كونها لم تتخلص بعد من عيوبها السياسية ومثالبها الاجتماعية (الدكتاتورية والتوتاليتارية) . وذلك من خلال ما اصطلح على تسميته بطور (مابعد الحداثة) التي شرع عبرها ومن خلالها بهدم قلاع النظريات المؤسسة والسرديات الكبرى ، حالما استشعرت قوى الغرب ذاته إن مظاهر (الحداثة) التي طالما روجت لها وحضّت عليها ، لا بل وحاولت فرضها على شعوب المستعمرات السابقة ، ربما أنها قد تشكل تهديدا” محتملا” لمصالحه ، وتنقلب لاحقا” وبالا” على مخططاته ، بعد أن تكون تلك الشعوب قد فهمت الفكرة وهضمت مضامينها واستوعبت مبادئها واسترشدت بهديها ، وهذا ما لم يحصل لحد الآن – ولا حتى في المنظور من المستقبل – للأسف الشديد ، لأسباب يقع وزر أغلبها على عاتق الغرب وأطماعه .

وهكذا أصبحت على حين غرة خرافات العالم الثالث وأساطيره ، التي طالما اعتبرت من أبرز مؤشرات تخلفه الاجتماعي وتأخر نهضته الحضارية ، محط اهتمام وعناية الكثير علماء وفلاسفة الغرب – ناهيك عن مراكز بحوثه ومعاهد دراساته – من منطلق إن حضارات ذلك العالم تمتلك امتياز التشبع بالطابع الروحي والرمزي ، في حين تفتقر نظيرتها الحضارة الغربية لهذا البعد القيمي ، بعد أن طغى عليها طابع النزعة المادية والقصدية النفعية . وبهذا يكون مغزى الرسالة التي يروم الغرب تمريرها إلى مجتمعات العالم الثالث ، هي إن ضالتكم لا تكمن في السعي لتبني خيارات (الحداثة) الغربية التي أنتجت العقل (الأداتي) ، وأسست للدولة (التوتاليتارية) ، وشرعت للقومية (الشوفينية) . بقدر ما يمكن بلوغها عن طريق الانخراط بدعاوى (العولمة) الأمريكية ، التي تروج لموضوعة تراجع مكانة العقل لصالح سلطة الغرائز ، وتبشر بعصر تآكل هيبة الدولة لحساب قوة الشركة ، وتشيع فكرة زوال مجد القومية مقابل تسيد القبيلة والطائفة ! . بمعنى آخر لا تثريب على مجتمعات العالم الثالث من الاستمرار على التمسك بالخيارات التقليدية التي كانت تتبناها وتعتمدها سابقا”، حيث لا جدوى من التعويل على ما في العقل من طلاسم وما في العقلانية من ألغاز ، لاسيما وان طبيعة شعوب هذا العالم تميل بالأصل إلى

تغليب الماضي على الحاضر ، وتفضيل الإيديولوجيات على المعرفيات ، وتستحسن المجسّد على المجرّد ، وتقدم الأسطورة على التاريخ ! .

* نعم للعقل والعقلانية .. ولكن *

والآن ما العمل ؛ هل ينبغي أن نتخلى نهائيا”عن فضيلة العقل ونتنازل عن امتياز العقلانية ، استرشادا” بما يسديه لنا الغرب من نصائح وتوجيهات حيال انتكاسات الأول وانحرافات الثانية ، ومن ثم نبقى نتخبط فيما يمكن أن نسميه (هوس الاحتفاء) بالانتماءات التحتية ، والولاءات الهامشية ، والثقافات الفرعية ، والعصبيات الجهوية ؟! . أم ترى يتوجب علينا المراهنة على ما في العقل من حكمة وما في العقلانية من سداد الرأي ، لتخطي ما نحن فيه من مهازل ونوازل وزلازل ؟! .

والواضح إن سياق الموضوع هنا لا يروج لفكرة (الحياد) فيما بين العقل والخرافة من اختلافات – رغم إن للعقل في بعض الأحيان خرافاته وانحرافاته – مثلما لا يتبنى وجهة النظر الرامية إلى عدم (دس الأنف) فيما بين العقلانية والأسطورية من تباينات – رغم إن للعقلانية في بعض الأحيان أساطيرها وتشبيحاتها – . إنما يعلن صراحة أن يكون للعقل سلطته في توجيه دفة الواقع ، وان يكون للعقلانية سيادتها في ضبط إيقاع المجتمع . ولكن – وهنا أضع ولكن بين مزدوجين – ليس قبل أن يتم اجتثاث زؤان الطفيليات العنصرية المغروسة في بنية الوعي الاجتماعي ، ويجري القضاء على طفح الجراثيم الطائفية الرابضة في مهاد الذاكرة التاريخية ، ويصار إلى استئصال إعراض التهتكات القيمية المستشرية في بطانة السيكولوجيا الاجتماعية .

والواقع إن هذه السيرورة الميالة إلى الطابع الحتمي ، لا تشكل (قدرا” ميتافيزيقيا”) يتوجب على جميع مجتمعات العالم الثالث أن تخضع لإرادته المتعالية وتنصاع لمشيئته المفارقة ، لكي تتمكن من الإفلات من براثن الأزمات السياسية ، والاحتقانات النفسية ، والحساسيات الدينية ، والصراعات الاجتماعية . إنما لكل مجتمع طبيعة سوسيولوجية خاصة تميّزه عن غيره ، وتركيبة سيكولوجية نوعية تفرقه عن سواه ، تختلف باختلاف المرحلة التاريخية التي يمر بها والمستوى الحضاري الذي يدل عليه . بحيث إن ما ينفع في وضعية اجتماعية معينة ، قد لا يلائم في وضعيات أخرى ، إن لم يكن ضارا”ومؤذيا”. ولهذا استبقنا في بداية حديثنا عن ضرورة مراعاة الفارق الجوهري بين مفهوم العقل كعضو (بيولوجي) وتكوين (فسيولوجي) يتساوى في صيرورته جميع البشر ، وبين مفهوم العقل كمعطى (سوسيولوجي) و(ابيستمولوجي) يهتم ليس فقط بإنتاج الأفكار الخلاقة ، وخلق المعاني السامية ، وإبداع الثقافات الإنسانية ، وابتكار المعارف العلمية ، واجتراح

المثل الأخلاقية فحسب ، بل وكذلك بتشذيب الوعي من نوازعه البدائية عبر تقويم بناه وتنضيج مضامينه ، وتهذيب السلوك من دوافعه العدوانية من خلال أنسنته قيمه وشرعنة تطلعاته .