هل أتاك حديث الشاوية.. حديث اللواء الذي أقسم.. بأن يكون للنظام حاميا.. على الفاشية سيفا قاطعا.. على الأركان قائدا.. على الحامية فارسا.. أحلامي مازالت منقوشة على جدران الذاكرة.. حمل السلاح كان حلمي.. تقاسمته مع “الجائرة ثرلي”.. ظلمت قلبي بما ادعته افتراء عني.. كيف لها أن تحصي الخطايا؟.. وتشكك في حسن النوايا؟.. وكيف لي أن أثبت عكس ما تقوله الحقيقة عنا؟..
غادرت قريتي الهادئة.. يا إخوتي إنها الشاوية.. حيث الأقحوان والماشية.. أحمل تميمة أمي.. تقيني من العين الحاسدة.. سافرت والكراسة في يدي.. تحمل عناوين أهل بلدتي.. تدلني على اسمي.. كلما تاهت الحقيقة عني.. تحمل رموزا.. لن يفك شفرتها من لم يدرك معنى أن يصبح الشوق رمادا.. من لم يسألك الرحيل مرات عديدة.. ويعود ليطلب منك مجددا أن تبقى قريبا..
رحلت وأمل العودة مازال يراودني.. كلما عادني شوقها.. أو تحدث الغرباء باسمها.. عني بدلا.. أحداث وأشجان.. عشتها حسرة وحيرة.. أشياء جميلة أوزارها كثيرة.. أسرار ثقيلة.. ملفاتها “سري للغاية”.. سترافقني طوال الرحلة.. رحلت والأحلام في حقيبتي.. حققتها والحمد لله.. أسرار العلية في اللحد سأحضنها.. أستغفر ربي على آثام جبنا مني.. تسترت عليها.. ظننتها رحلة سريعة.. دامت للأسف ستون سنة.. كي تبدأ رحلة جديدة.. رحلة السفر نحو مملكة الغرام.. حيث السمراء والشقراء.. النرجسية والمزاجية.. العصبية والصامتة.. العاطفية والأنانية.. البسيطة والعنيدة.. أحكي حقيقة العمر الذي ضاع بين “راما كوين” و “فاشينيستا” تائها بين بهاء الاثنين.. لكي أبدو أكثر وسامة وانسجاما.. ركبت سفينة العشق.. نصبت نفسي بطل العصر.. تشرفت بمعرفة.. كل من كان لها شرف احتساء فنجان القهوة معي..
هل أتاك حديث الشاوية.. أنا ابنها الذي فقد الذاكرة.. مزقت الجواز والتذكرة.. أحرقت السفينة بما فيها.. حتى لا يحملني شوقها.. وأعود إليها راكعا.. علموني أن أسبح في بحر هوى العاصمة.. قواعد الإتكيت.. والأكل الافرنجي.. سررت بهذا الإنجاز العظيم.. اعتبرته تحولا كبيرا في مسار “البدوي”.. غيروا اسمي حتى أصبح لا يشبهني.. غيروا طباعي.. حتى كادت المرايا ألا تعرفني.. منحوني جواز السفر.. مكتوب عليه: احذروا.. هذا “ابن راعي الغنم”..
لم ألتفت حتى لا أرى دموع الشمس.. لم أعر أي اهتمام لما تركته ورائي.. متنكرا للحب الذي كنت أكنه لبلدتي.. لم أكن أعرف.. أن الرحيل يسبب بؤسا شديدا.. يجعل المرء على الهامش.. ضمن لائحة الانتظار.. يجعله يشكو الأمرين.. وأن العودة تستدعي قرارين.. أنا اللواء الذي.. أخفق في الحب مرتين..
بين فاس والرباط شربت الحنظل ونصبت الخيام.. لكي أصبح نافذا في البلاد.. التزمت الصمت ولم ألتزم الحياد.. من اجل المناصب والحياة.. تركت حضن أمي باحثا عن حبل النجاة.. هذا ما صرح به اللواء رفيقي.. بعد طول انتظار..
تحقيق الأماني.. لم يكن بالأمر البسيط.. مغادرتي للبلدة تلته زغاريد عمتي.. أحرق قلب أمي وحليمة جارتي.. بعد أن أخبرهما غيابي عن ألم الرحيل.. وعدت ألا أغيب.. فدام غيابي ستون.. وعدت ألا أنسى.. أخلفت بذلك الوعود.. أنا لم أرحل لوحدي.. بل رحل عني الحنين.. رحلت وبكاء أبي ما زال في أذني رنين.. فبين فاس والرباط.. فقدت راحة البال.. كما فقدت بلاغة اللسان.. أدركت أن الرحيل يبقى مرادفه الرحيل.. أما العودة فمعناها “عدم الرجوع” أكيد.. قضيت عمرا.. أبحث عنها وعني.. ارسم خريطة تدلني.. تجعلني اختصر الطريق.. لم أجد الأميرة التي حلمت بها في العاصمة.. ولم تنتظرني حليمة التي تركتها في البادية.. فرغم حملي للسلاح.. وتحقيق الأمنيات.. لم أفلت من الجراح.. ولم أنل قلب “ثرلي” المغوار.. لم أستطع نشر السلم والسلام.. كما لم أجعل من الشاوية أجمل البلدان.. كما وعدتها ذات يوم..