بعد خلق الكون وفصل السماء عن الارض وبعد خلق النباتات والحيوانات تحدثنا الاساطير السومرية عن كيفية خلق الانسان والسبب الذي دعا الالهة على الاقدام على هذه الخطوة.
فحسب الاسطورة السومرية خَلَقتْ الالهة الانسان ليكون عبدا للآلهة، يقدم لها طعامها وشرابها ويزرع ارضها ويرعى قطعانها، فقد خُلِق الإنسان لحمل عبء العمل ورفعه عن كاهل ألآلهة. قبل خلق ألإنسان كان الآلهة يقومون بكل الاعمال التي تقيم اودهم وتحفظ حياتهم، ولكنهم تعبوا من ذلك فراحوا يشتكون لانكي الحكيم (اله المياه العذبة الباطنية) ولكنه لم يسمع شكاتهم فذهبوا الى امه الآلهة نمو (آلهة المياه البدئية ألتي انبثق عنها كل شيء عند السومريين) التي انجبت الجيل الاول من الآلهة لتكون واسطتهم الى انكي ، فمضت نمو الى انكي قائلة:
أي بني، انهض من مضجعك انهض من (….)
واصنع امرا حكيما
اجعل للآلهة خدما، يصنعون (لهم معاشهم)
فتأمل انكي مليا في الامر، ثم دعا الصناع الاهليين المهرة وقال لامّه نمو:
إنّ الكائنات التي ارتأيت خلقها، ستظهر للوجود
ولسوف نعلق عليها صورة الآلهة
امزجي حفنة من الطين، من فوق مياه الاعماق
وسيقوم الصناع الالهيون المهرة بتكثيف الطين (وعجنه)
ثم كوّني انتِ له اعضائه
وستعمل معك ننماخ (آلهة الأمومة) يدا بيد
ولسوف تقدرين للمولود الجديد، يا اماه مصيره
وتعلّق ننماخ عليه صور الآلهة (تعليق صور الآلهة على ألإنسان يُعنى به جعل ألإنسان ألمخلوق على صورة ألآلهة)
(….) في هيئة ألإنسان (….)
تسربت العناصر الرئيسية لهده الاسطورة الى معظم اساطير الشعوب المجاورة. ففي الاساطير البابلية اللاحقة يتم خلق الإنسان من الطين المعجون بدم ولحم إحدى ألآلهة وفي أسطورة بابلية أخرى يتم الخلق بإستخدام دماء آلهة أللامجا (آلهة الحرِف ومن صغار ألآلهة) بدون طين ويُفرَض على ألإنسان حمل عبء العمل ، ويتم ألخلق من قبل آلهة الأمومة (مامي) أو كما تدعى أيضا (ننماخ) و (ننرساخ) أو(نتو) وهي الام الكبرى، وهي ايضا ألارض والتربة الخصبة،.
وفي سفر التكوين من التوراة، نجد إله اليهود يهوه، يقوم بخلق الانسان من طين، بعد انتهائه من خلق العالم، ويجعله على شاكلته:
( وجبل ألإله آدم ترابا من ألأرض، ونفخ في انفه نسمة الحياة، فصار آدم نفسا حية)…..العهد القديم-سفر التكوين- الاصحاح الثاني.
ورغم ان الهدف الذي يقدمه النص التوراتي لخلق الانسان هو السيطرة على ( سمك البحر، وطير السماء، وعلى البهائم، وعلى كل الارض، وعلى جميع الدابات التي تدب على الارض)…… العهد القديم-سفر التكوين- الاصحاح الاول، إلا انه يعود فيفرض عليه عبء العمل، تماما كالنص السومري:
( لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة، التي اوصيتك قائلا لا تأكل منها. ملعونة الارض بسببك. بالتعب تأكل منها كل ايام حياتك…. بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود الى الارض التي أُخِدتَ منها. لانّك من تراب والى التراب تعود)…… العهد القديم-سفر التكوين- الاصحاح الثالث.
وفي الاساطير المصرية نجد ترددا لنفس الفكرة، وكذلك الامر في الاساطير الاغريقية، التي تعزو لبرومثيوس خلق الانسان. فقد قام برومثيوس بخلق الانسان من تراب وماء، وعندما استوى الانسان قائما، نفخت الآلهة أثينا فيه الروح، ثم راح برومثيوس بعد ذلك يزوّد الانسان بالوسائل التي تُعينه على البقاء والاستمرار، فسرق له النار الالهية من السماء، ضد رغبة كبير الالهة زيوس، وافشى له سرّها وكيفية توليدها واستخدامها، فنال بذلك غضب زيوس وعقابه.
فإدا تركنا اساطير الشعوب المتحضرة، نجد ان فكرة الخلق من طين ترد في اساطير الشعوب البدئية. تقول اسطورة افريقية:
أنّ الإله الخالق قد اخذ حفنة من طين شكلّها على هيئة انسان، ثم تركها في بركة مليئة بماء البحر مدة سبعة ايام، وفي اليوم الثامن رفعها فكانت بشرا سويا.
وفي اسطورة من الفلبين يقوم الاله الخالق بجبل حفنة من الطين على هيئة انسان، ويضعها في الفرن، ولكنه يسهو عنها فتسوَد، وهذا هو اصل الانسان الاسود، ثم يضع اخرى ويخرجها قبل اوانها، فهذا هو اصل الانسان الابيض، وفي المرة الثالثة يأخذ الطين كفايته من النار فيخرج الإنسان الفليبيني، ذو اللون البرونزي.
وفي اسطورة هندية امريكية نجد ايضا التكوين الطيني ونفخة الحياة التي تهب الشكل الجامد روحه وحركته.
وأخيرا يثبت القرآن الكريم خلق الانسان من التراب في اكثر من موضع:
( خلق الانسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار )…… سورة الرحمن، الآية 13 و 14.
( قال ما منعك الا تسجد إذ امرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )…… سورة الاعراف، ألآية 11.
من هذه المقدمة الميثولوجية نلاحظ أنّ الاديان الابراهيمية تآثرت واقتبست الافكار الميثولوجية حول خلق الانسان مع ادخال بعض التغييرات التي تتلائم مع معتقدات هذه الاديان وتطور العقل الانساني في زمن ظهور تلك الاديان.
نشرُ العالم تشارلس داروين نظريته في اصل الانواع أحدث هزة عنيفة في ألفكر الانساني حول اصل الانسان وتهاوت معتقدات الاديان الابراهيمية التي تدعي بان آدم هو اول البشر، ونتيجة لهذه الهزة الداروينية، ظهرت محاولات للتزاوج بين الدين والعلم، من هذه المحاولات كتاب (محاولة عصرية لفهم القرآن) للكاتب مصطفى محمود ويحاول الكاتب في الكتاب تأويل بعض آيات القرآن لتتلائم مع نظرية داروين كما تم اعتراف الفاتيكان بنظرية داروين.
وفي ألأونة الاخيرة ظهر دين يسمى بالرائيلية تدعي بان مخلوقات قادمة من الفضاء خلقت الانسان والكائنات الحية من نبات وحيوان بإستخدام الهندسة الوراثية.
حفزني لكتابة هذه المقالة سلسلة من المقالات المنشورة في موقع كتابات للكاتب عباس الزيدي بعنوان (آدم ليس أول ألبشر- على ضوء القرآن وروايات اهل البيت-عليهم السلام-في مصادر الشيعة الامامية).
في هذه السلسلة من المقالات (سبع مقالات) يحاول الكاتب حل الاشكاليات الموجودة في ادعاء الاديان الابراهيمية بان الله خلق آدم كأول ألبشر قبل ستة آلاف سنة وفي بعض المصادر الاسلامية كان خلق آدم قبل زمن البعثة المحمدية بستة آلاف سنة وأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة هذا ألأدعاء ألذي يتناقض مع ما اثبته العلم بأن أول ظهور للانسان على الكرة الارضية كان قبل ملايين السنين وان تكوّن الكرة الارضية استغرقت مليارات من السنين (وجدت هياكل بشرية مشابهة لهيكل هذا الإنسان الحالي، كانت تعيش على الأرض قبل ملايين السنين).
في مقدمة سلسلة المقالات- آدم ليس أول ألبشر- يقول الكاتب عباس الزيدي ما يلي:
(انفرد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) دون سائر أهل الإسلام بل دون سائر البشرية سواء من أتباع الأديان السماوية أو الفلاسفة وغيرهم بالقول بأن آدم ليس أول البشر، وجاءت الروايات في المصادر المعتبرة التي يعود جلها الى القرن الرابع الهجري، وهو كما نعلم عصر المحدثين الكبار الذين دونوا الحديث وحفظوه لنا، ومن هذه المصادر تفسير العياشي، ومؤلفه هو المحدث الجليل أبو النظر محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي المعروف بالعياشي المتوفي سنة 320 هـ، والمحدث الأقدم الشيخ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفي سنة 381 هـ، والشيخ المفيد محمد بن النعمان المتوفي سنة 413 هـ، وغيرهم ممن سنتعرض لهم في طيات هذه الحلقات بإذن الله تعالى)…..أنتهى.
الاحاديث التي استندت عليها مقالة الكاتب عباس الزيدي:
– ورد في حديث جابر الجعفي عن الإمام محمد الباقر “عليه السلام” : (لعلك ترى أن الله إنما خلق هذا العالم الواحد، وترى أن الله لم يخلق بشراً غيركم، بلى والله لقد خلق الله ألف ألف عالم، وألف ألف آدم، أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين).
– نص ابن عربي في الفتوحات:
((ولقد أراني الحق تعالى فيما يراه النائم وأنا طائف بالكعبة مع قوم من الناس لا أعرفهم بوجوههم فأنشدونا بيتين ثبت على البيت الواحد ومضى عني الآخر فكان الذي ثبت عليه من ذلك لقد طفنا كما طفتم سنينا * بهذا البيت طرا أجمعينا وخرج عني البيت الآخر فتعجبت من ذلك فقال لي واحد منهم وتسمى لي باسم لا أعرف ذلك الاسم ثم قال لي أنا من أجدادك قلت له كم لك منذ مت فقال لي بضع وأربعون ألف سنة فقلت له فما لآدم هذا القدر من السنين فقال لي عن أي آدم تقول عن هذا الأقرب إليك أو عن غيره فتذكرت حديثاً عن رسول الله ص إن الله خلق مائة ألف آدم)). ابن عربي، الفتوحات 3 : 549.
– وقال العجلوني من علماء السنة:
((عن أبي هريرة “رضي الله عنه” من قوله : ذهب الناس وبقي النسناس. فقيل له : وما النسناس؟، قال : قوم يتشبهون بالناس وليسوا بناس، ورواه أبو نعيم عن ابن عباس من قوله بلفظ : ذهب الناس وبقي النسناس، فقيل : وما النسناس؟، قال : الذين يتشبهون بالناس وليسوا بالناس، أي بالناس الكاملين، وفي المجالسة للدينوري عن الحسن البصري مثله بدون تفسير، وزاد لو تكاشفتم ما تدافنتم، وهو في غريب الهروي وفائق الزمخشري ونهاية ابن الأثير بدون زيادة ولا تفسير، وقال ابن الأثير قيل هم يأجوج ومأجوج، وقيل خلق على صورة الناس أشبهوهم في شئ وخالفوهم في شئ وليسوا من بني آدم، وقيل هم من بني آدم)). العجلوني، كشف الخفاء 1 : 418 ــ 419.
وهذه الروايات عن النسناس تكشف عن جانب مهم في بحثنا، إذ تعكس الرؤية الإسلامية عن ما قبل آدم الواعي، فهؤلاء الذين سبقوه على الأرض يشبهون الإنسان في أجسادهم ولكنهم ليسوا كذلك في وعيهم وعقلهم، وشأنهم شأن الحيوان الذين يعتاش لقوته، وربما تعطي هذه الروايات شيئاً من نقاط القوة لصالح مذهب داروين الذي ليس من مختصات هذا البحث الذي يركز على الرؤية الإسلامية عند أئمة أهل البيت حول هذه القضية….. أنتهى الاقتباس.
الخلاصة:
نستنتج مما سبق أنّ المؤمنين بألاديان الابراهيمية بعد نشر كتاب داروين اصل الانواع وبعد تحديد البحوث العلمية عمر الانسان على الارض بملايين السنين حاولوا ويحاولون انقاذ عقيدتهم من تناقضاتها مع العلم بمحاولة التزاوج بين الدين والعلم وذلك بتأويل بعض ألآيات القرآنية أو تأويل سفر التكوين من التوراة كما فعل كلود فوريلهون نبي الرائيليين في كتابه الرسالة.
إنّ اصل الحكاية كلها بدأت بأساطير حضارات وادي الرافدين فالاسطورة السومرية ذكرت بأنّ الالهة خَلَقتْ الانسان ليكون عبدا للآلهة، يقدم لها طعامها وشرابها ويزرع ارضها ويرعى قطعانها، فقد خُلِق الإنسان لحمل عبء العمل ورفعه عن كاهل ألآلهة.
بأعتقادي أنّ الحياة بدأت على الارض بشكل كائن حي بدائي نتيجة لتوافر ظروف طبيعية ساعدت على تلك البداية، ومن ثمّ تطوّرت بالانتخاب الطبيعي والطفرات الوراثية كما ذكره العالم الفذ تشارلس داروين في نظريته، وكلّما تقدّم العلم وكثرت اعداد المكتشفات المتحجرة، زاد يقيننا بأنّ نظرية التطوّر أقرب التفاسير للسؤال الخالد:
كيف جئنا الى هذا العالم؟
خلاصة القول، اجابات الاديان واجابات الرائيلين ومحاولات التزاوج بين الدين والعلم حول وجود الاحياء والانسان في الكون لا يّشفي غليلا للمعرفة وتتعارض مع العلم والمنطق.
تعليقا على مقالتي الانسانيات المتوازية سألني احد القراء ما يلي:
ماذا يحدث لإعتقادك لو اقتنعت يوما بعدم جدوى هذه النظرية أيضا ؟ هل تبحث عن فكرة أخرى أم تفضل أن تكمل حياتك بعيدا عن فكرة البداية .؟ تحياتي
قلت له:
اذا اثبت العلم خطأ نظرية داروين، ساتبنى البديل الذي سيقدمه العلم اجابة للتساؤل كيف وُجدنا على الكرة الارضية، وإنْ لم يستطع العلم تقديم البديل، فساقول: لا ادري.