23 ديسمبر، 2024 7:32 م

هلوّسةُ المَعنى عند سان جون بيرس

هلوّسةُ المَعنى عند سان جون بيرس

إلى حد ما فأن قصيدة سان جون بيرس تنتظم مشاهدها الشعرية من أجزاء غير متناسقة المعنى اعتمادا على العقل الباطني الذي يفيض بغير معنى الواقع فالصور الشعرية مثقلة بالصفات الحسية والتي يُنتج من خلالها الصور المكثفة لإدامة هلوسة المعنى في تفاصيل لاتنتهي ورغم الإطالة بها والدوران في محيطها وماهو مألوف منها لكنها بعيدة عن الفهم ومرمزة وأحيانا تستدعي الخوض في معرفة اللغتين العلمية والأدبية وأدراك خصائص كل منهما ومتحولاتهما أثناء الاستخدام ، إن مشاهد صور بيرس الشعرية سرعان ماتُلوح بالغموض والدهشة وهي صور لاأبالية أمام أي شئ وليس هناك أي نظام معين يمكن الولوج منه إلى هذا العالم سوى الرغبة في تصعيد التوتر والقلق إزاء الحشد الهائل من التضادات غير المتوقعة والمتأتية من نصف لغة واضحة الى نصف لغة غير واضحة ، فعالم بيرس هو عالم لم يخلق ليواكب الحقيقة بل هو عالم خلقه الخيال من الخيال ولن تخضع الطفرة فيه إلى عالم المصادفة بل عوامل الهروب منها قد تمت أصلا بالاحتجاب أمام المتواصل المرتبط المعلن عن فهمه ، في قصائد بيرس يتحرك اللاشعور لتسوية الأفكار المجردة ليمارس حريته على اللاشعور نفسه في عملية اصطراع الصور الشعرية بعضها مع البعض وسط عتمة الأشياء التي يريدها الشاعر أن لاترتبط الواحدة بالأخرى كي لايكون هناك وجودا للمثال الأعلى المُعوّم من الأعراف والقوانين والموروثات الاجتماعية ومن اللغة البائدة التقليدية التي لن يكون لها شكلا مغريا في ذلك النسق العجيب من التنافرات ، أن سان جون بيرس وأسمه الحقيقي سان ليجي والمولود في عام 1887 قد درس الحقوق وعمل في السلك الدبلوماسي ولم تؤثر بشعره فترة الانتقالات التي قضاها مابين بكين وواشنطن لكنه وبالتأكيد شآنه شآن أي من الشعراء الذين لايدعون مثل هذه الفرصة دون التأمل العميق بها لحشد الذاكرة بأصناف من المشاهد الحية ، وكانت إطلالته الشعرية الأولى في العام 1911 عبر مجموعته الشعرية (مدائح ) والتي عبر بها عن مفهوم الحداثة بالشعر وفق تنظيره ومفهومه للقصيدة الحديثة التي أشرنا الى صفاتها وعلى الرغم من هذا المنتج الفعال والمغايرة الجديدة التي تضمنت هذه المجموعة لكنها لم تكن بأهم ماكتبه بيرس ، وقد توقف عن كتابة الشعر بعد (مدائح ) لفترة زمنية تكاد تكون قياسية ضمن توقفات شعراء آخرين عن الكتابة ولاشك أن لهذا التوقف أسبابه في حياة بيرس منها الأسباب العملية ومنها الإبداعية ثم عاد للكتابة فأصدر في العام 1924 أي بعد هذا التوقف كتابه الشعري الجديد (صداقة الأمير ) والذي أراد فيه وعبر قصائده أن يعبر بقوة عن مفهوم الخيال المتسلط إذ يضيع فيه المكان ويصبح مجرد تسمية لاصلة لها بالمعنى لتستمر الروح في التدفق في غياهب لامرئية لتكتنف اللغة أنواعا من الضبابية وبذلك تكون صداقة الأمير قد حفلت كليا واحتضنت العالم الخارجي وتقربت من التعبير اللاواعي عبر التفاصيل الطويلة المتعددة المعنى ، وعاد بيرس للصمت من جديد صمت طويل إمتد الى ثمانية عشر عاما كان صمتا مؤثرا وبليغا في ذاته المطبقة على أسرارها المعتكفة في دهاليزها المتمردة على شكل تمردها غير المرضي ليعود وفي عام 1954 الى الكتابة بعد فترة الانقطاع تلك ليكتب (أنا باز ) التي تعتبر من أهم أعماله التي كتبها ،واستطاع ان يبعث فيها القوى السحرية المعتمة وسط أجواء مخيلته ويديم ذلك التنكر أو بالأحرى ذلك العداء عن العالم المحسوس الكريه
وبعد هذا العمل المكثف ترجمت قصائده الى الإنكليزية حيث ترجمها أليوت والى الإيطالية ترجمها إنجارتي والى الإسبانية ترجمها جيان والنمساوية وترجمها هوفمنستال وترجم أدو نيس (مدائح ) الى العربية وكل هولاء من الشعراء الذين أسسوا للحداثة وتعاملوا معها في بلدانهم وتأتي هذه التراجم لهولاء الشعراء للإقرار بأهمية مايكتبه بيرس من منتج شعري جعله واحدا من جيل المغامرة الشعرية رغم ماكتبه جيله من الشعراء الفرنسيين ضمن المناخ الجديد في فرنسا حيث كتبوا بشكل مغاير انعكس ذلك على تاريخ الشعر الفرنسي خاصة والشعر العالمي بشكل عام لكن بيرس امتلك قوة الإرادة في إفزاع مخلوقاته التي أوصلها حد القبول بالسخرية الناتجة عن المفارقة بين قطبين غير متشابهين ولا يمكن جمعها في حالة المنطق : أيها الجفاف … يانعمتنا ياشرف وبذخ نخبة بعينها حين يمدد قوسه فوق الأرض سنكون وتره القصير وارتجاجه البعيد الجفاف نداءنا واختزالنا فلتستضئ بدواخلي مساحة الممكن كلها أتخذ كحرف صامت أساسي تلك الصرخة البعيدة لولادتي، إن الشعر الذي كتبه بيرس ناتج عن أشياء لايراها ولايحفل بما يراه وليس هناك من متوقع غير إدامة غيبوبته في عالم المجهول لخلق طبيعة جديدة من مجهول جديد.
*[email protected]