18 ديسمبر، 2024 11:44 م

هلامية الرمز… وعودة ابن هايشتنا الصفره

هلامية الرمز… وعودة ابن هايشتنا الصفره

شاهدت اليوم، وليتني لم أشاهد، على شاشات الفضائيات إجتماعا لشيوخ عشائر الموصل ينوحون فيه ويولولون على رمز تكاد أن تمحوه يد الظُلم، وهلالا تكاد تخسفه يد الزمن الغدار ولما يتم كماله، وقد أوشكت  الخطوب أن تثكل الأيامى به، وترمل الماجدات، وتقهر اليتامى وتضيع حقوق الإنسان التي كانت جميعها في حمى هذا الدعلج المقدام والليث الهمام سيد القلم والصمصام شمعة الأنام وأشبه الخلق بصدام (حفظهما الله ورعاهما) طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية، وكأن لسان حالهم يقول:
من لليتامى والأراملِ بعدهُ      ومن للرجال المعدمين الصعالك
   ذكرني ما رأيت بأمرين: أولهما مسألة الرمز التي لهج المجتمعون بالتركيز عليها والتي قالوا فيها بأن السيد الهاشمي أصبح رمزا حيا للمظلوين… وما الى ذلك. لا أعلم من ظلم من، هل القاتل ظلم الضحية لما قتلها أم أن الضحية ظلمت القاتل لأنها قالت قتلني فلان. لا اقصد بالطبع أن اقول بأن الهاشمي قتل الناس قبل أن يثبت ذلك قضائيا، رغم أني لا اشك في ذلك قيد أُنملة، ولكني تذكرت التشابه بين الرموز التي تتخذها شريحة كبيرة من العراقيين تردد الكلام بصورة ببغاوية لا تفقه منه شيئا يتجاوز تراقيها. 
     الرموز واضحة لدى كل الامم، الا في العراق فإنها هلامية. يصبح المرء رمزا عندما يتخذ موقفا مشرفا يعجز عنه أقرانه، ويقدم تضحية فريدة تضعه في موقع يصلح فيه أن يكون قدوة لغيره، ولسنا ببعيدين عن ذكرى رمز تقصده الملايين سيرا على الاقدام من كل حدب وصوب لا طمعا بدولاراته ولكن حبا وهياما لسيرته العطرة وتضحياته الفذة, وفي العالم رموز ورموز. لكن رمز اخوتي شيوخ الموصل الحدباء (الذين أجتمعوا اليوم) لا يشبه إلا رمزهم القديم الذي انتهى امره الى حفرة يأبى كلب أن يسكن فيها. فالهاشمي مثله كمثل صدام الذي كان بعض اخوتنا من أهل الموصل وغيرهم من الأعراب داخل العراق وخارجه ينظرون اليه رمزا، برغم أنه لم يقدم شيئا يجعله في مصاف الرموز، لكنهم لاشك عرفوا الان أنه ليس إلا طاغية ينكص عند النزال ويفضل الحياة الذليلة ولو في حفرة على موقف الإباء والموت الكريم. لقد هرب الهاشمي بالمثل ليلوذ بألد خصومه على الاطلاق، الذين كان ينظر اليهم بنظرة دونية شوفينية منكرة، وهم يعلمون ذلك، ولا شك أن الجناح الفاره الذي يسكنه الان لدى حاتم طائي الكورد لا يختلف من حيث الرمزية عن حفرة رمزهم السابق، وسوف يكتشفون قريبا انهم كحاصب ليل يخطؤون الهدف في كل مرة.
   أما الامر الثاني الذي تذكرته فهو حكاية شعبية، لا تخلو من مغزى، سردها لنا أحد (الشياب) يوم كنا صغارا، وتحاكي الى حد كبير حكاية الرموز الوطنية الهلامية المصطنعة. يقول عمنا الشيخ ان رجلا قرويا كان لايملك سوى بقرة صفراء اللون (هايشة  صفره) يحبها حبا جما ولا يرى في الدنيا غيرها. رزقت الهايشة بمولود ذكر جميل الطلعة وكانت فرحة القروي لا تقدر بثمن. وبعدما نشا المولود وتربى في كنف امه الحنون، اختطفتها منه يد المنون غيلة. حزن كل من العجل والقروي حزنا عظيما ولفهما الكمد أياما وشهورا. لكن الحياة لم تتوقف، وحاول الرجل أن يعوض العجل عن حنان امه، فأخذ يطعمه خير الطعام ويضع خضرمة زرقاء في قلادة رقبته خوفا عليه من الحسد، ويلبسه جلالا ليقيه لسعات الذباب والبق ويحميه من الحر والقر، حتى أصبح ذلك العجل أشبه بالحصان منه بأبناء جلدته الثيران. ودارت الايام واصابت الفاقة والفقر الرجل ولم ير مناصا الا أن يبيع ثورهُ الجميل، العزيز على قلبه. أخذه يقوده على مضض الى سوق الماشية والقلادة تهتز برقبته بخضرمتها الزرقاء ودراغها (جرس) يصدر رنينا حزينا، وقد كساه الجلال الملون بالالوان الزاهية وكأنه من اصائل الخيول الأعوجية.
    فلما راى الدلالون والعيارون في سوق الماشية هذا المنظر تنادوا بينهم للنصب على الرجل والسخرية منه لأن اهتمامه بالثور لايُعقل. تلقاه أولهم وسأله: تبيع هذا الحصان؟ فأجابه الرجل: “عمي هذا ثور مو حصان”… لكن بادره شك بأن ثوره ربما تحول حصانا دون أن يدرك هو ذلك. لم يتقدم سوى خطوات حتى جاء الثاني وسأله: “تبيع أبو حصان؟”… وعرض عليه سعرا خياليا. هنا أخذ الرجل يصدق ان ثوره اصبح حصانا، لكنه ظل صامتا يفكر. وماهي إلا لحظات حتى قطع تفكيره الثالث وعرض عليه ضعف المبلغ الذي عرضه الثاني وأكد له أنه أحب هذا الحصان وسوف يدفع ثمنه عدا ونقدا، وكذلك وعده بأنه  سيرعى الحصان ويزيده دلالا. هنا شعر الرجل بالارتياح لان ثوره سيسلم من الذبح ويعيش مدللا فوافق على الصفقة. أخرج المشتري نقوده وعدها امام عيني البائع ولوح بها اليه لكنه سحبها في اللحظة الاخيرة. تعجب الرجل من تردد المشتري وسأله لماذا لايسلمه المبلغ. أجاب المشتري بخبث أنه سوف يسلمه النقود بمجرد أن يمتطي ظهر ذاك الحصان. ولما كان الرجل قد توهم بعقله الضعيف أن ثوره اصبح حصانا ورأى المال بيد المشتري، لم يتوانى عن القفز على ظهر الثور الذي جن جنونه واخذ يقفز في الهواء على غير هدى. حاول صاحبنا أن يتماسك لكن الثور قفز قفزة عالية قذف الرجل على اثرها الى ألأرض فخر مغميا عليه. ولما افاق وجد الناس يسعفونه ويرشون الماء على وجهه ويسالونه عن حاله ويلومونه على فعلته كيف يركب ثورا… فأجاب متمتما بعد أن صفع جبهته بيده ” أعرفه ابن هايشتنا الصفره…اشلون صار حصان!!!”
    وهكذا، على المنادين بالرموز ان يتاكدوا من رموزهم ولا يفعلوا مافعل صاحب الثور، وان يركبوا جوادا حقيقيا، لا ثورا، لكي لا يلاقوا ذات المصير. لقد ذهب زمن التضليل والضلال ولم يعد بإمكان من يسمون أنفسهم “شيوخا” تجاوزا أن يغطوا عين الشعب بغربال ويدّعون تمثيل عشائر وهمية وهم في الواقع لا يمثلون إلا من يدفع لهم أكثر.
[email protected]