-1-
إنّ أصحاب الامام الحسين (ع) لم يستشهدوا جميعاً في يوم عاشوراء ،
فانّ منهم من استشهد قبل وصول الحسين (ع) الى العراق ،
وفي طليعة هؤلاء الشهداء :
مسلم بن عقيل ،
وهاني بن عروة ،
وقيس بن مسهر الصيداوي ، وهو من نُريد ان نتحدث عنه في هذه المقالة، بشكل وجيز
لقد حمل قيس بن مُسهر الصيداوي رسالة من الحسين (ع)، كتبها لجماعة من أهل الكوفة، منهم سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبه، ورُفاعة بن شدّاد وغيرهم ، حين كان في (الحاجر) من بطن الرُمة في الطريق .
لقد كان ذلك قبل ان يعلم الحسين (ع) بمصرع مسلم بن عقيل .
-2-
والكتابُ يعلمهم بوقوفه (عليه السلام) على أخبارهم ، من خلال التقرير المرفوع اليه من قبل مسلم بن عقيل ، وأنه قادم اليهم، حيث خرج من مكة يوم التروية متجهاً الى العراق .
ان الرسالة على اختصارها، تضع النقاط على الحروف في كل ما يتعلق بضرورة التهيؤ والاستعداد لمنازلة اعداء الله والانسانية في كربلاء ،
ثم هي تكشف من جانب آخر، الروح القيادية العالية عند الامام الحسين (ع)، الذي يأبى الاّ ان يتواصل مع ناسه وأنصاره ، حسب ما تقتضيه متطلبات التلاحم بين (القيادة) والجماهير …
-3-
أقبل قيس بن مسهر الصيداوي ومعه كتاب الامام الحسين الى اهل الكوفة، ولكنه اصطدم (بالحصين بن تميم ) الذي كان عبيد الله بن زياد قد بعثه ليعترض الحسين (ع)،
اصطدم به في القادسية
لقد عمد هذا (الجلواز) الى اعتراض من (قيس بن مسهر) وَهَمَّ بتفتيشه …،
وخشيةً من ان يقع الكتاب بيد الأعداء، بادر (قيس) الى تمزيق الرسالة، وهنا ألقى (الحصين) القبض عليه، واقتاده مخفوراً الى (ابن زياد) في الكوفة ، لتبدأ المساءلة الحثيثة عن أسراره وأخباره …
-4-
قال له ابن زياد :
من أنت ؟
قال :
“أنا رجلٌ من شيعة امير المؤمنين علّي بن ابي طالب ، وابنه الحسين”
لقد تجلّت البطولة في الجواب، حيث ان قيساً جاهر بهويته العقائدية، والسياسيّة غير وَجِلٍ ولا هيّاب، وفي ذلك من معاني الاحتقار والتصغير لابن زياد ما فيه …
فسأله ابن زياد :
لماذا خرقت الكتاب ؟
فأجابه قائلاً :
لئلا تعلم ما فيه ..!!
انه جواب المتحدي العنيد ، الذي لم تُرْعِبْهُ سطوةُ الطغيان الاموي، ولا أجهزةُ قمعِهِ …
وهنا سأله (ابن زياد) :
ممن الكتاب والى مَنْ ؟
قال :
من (الحسين) (ع) الى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم
وهنا انفجر (عبيد الله) غاضباً فقال :
” والله لاتفارقني حتى تخبرني باسماء هؤلاء القوم، أو تصعد المنبر فتسب الحسين بن علي واباه واخاه والا قطعتك إرباً إربا “
كان الخيلر صعباً للغاية
(فقيس) لايريد ان يذكر اسماء من أُرسلت اليهم الرسالةُ من جانب، ولا يقوى على ان يمس أولياءه بسوء ، فماذا يصنع ؟
قال :
” أما القوم فلا أخبرك بأسمائهم “
وهكذا تكون الأمانة والأصالة
” وأما السب فافعل “
وخيّل لابن زياد المسعور انه انتصرعلى (قيس)، وألجأه الى الانسلاخ من مضمونه العقائدي، ومساره السياسي، ولكنه سرعان ما سمع بأذُنَيْه ما لم يكن يخطر له على بال :
لقد كانت المفاجأة كبيرة مرّة
سمع قيس بن مسهر الصيداوي :
يحمد الله ويثني عليه ، ويصلي على النبي (ص)، ويكثر الترحم على عليّ والحسن والحسين ، ويلعنُ عبيد الله بن زياد وأباه وعتاة بني أميّة .
وهكذا انقلب السلب واللعن على ابن زياد وأسياده
ثم يقول (قيس) :
ايها الناس
ان الحسين بن علي، خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله (ص)، وأنا رسوله اليكم .
وقد خلفتهُ (بالحاجر)، فاجيبوه،
لقد بلّغ الرسالة كاملة غير منقوصة وأدى الأمانة بأبلغ أداء .
وهكذا يكون الرجال
-5-
لقد أمر (ابن زياد) ان يُرمي (قيس) من أعلى القصر
وهكذا كان
حتى لقد تكسرت منه العظام ، ولم يبق فيه الاّ رمق
فجاءه (عبد الملك بن عمير اللخمي)
فذبحه
فعيب عليه فقال :
أردتُ أن أريحه ..!!
وما أعظم الفرق بين الرجلين
لقد كان (قيس) الرجل الصامد الصابر ، الذي لم يتزحزح قيد أنملة عن ثوابته، وآثر ان يضمخ بدم الشهادة دون ان يُمكِّنَ الطغاة من الوصول الى أهدافهم المسمومة الخبيثة .
وكان (اللخمي) المثال الصارخ للدناءة والخسة، حيث أجهز على كسير مظلوم، وبرّر ذلك بحُجَةٍ واهية، لا يقبلها ضمير ولا دين ، إرضاءً للطغاة، ومسايرة للظالمين العتاة، فتدحرج الى الهاوية .
-6-
ولمّاسمع الحسين (ع) باستشهاد (قيس بن مسهر الصيداوي) استرجع واستعبر ثم قرأ قوله تعالى :
(فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا …
-7-
والسؤال الآن :
هل راقتك بطولة (قيس بن مسهر) وأمانتهُ وشجاعتُه وصمودُه ؟
ولابُدَّ ان يكون جوابك
وكيف لا تروقني صفاتُه وسماتُه ، ولا محيص عن إحلاله أعلى الدرجات، ثباتاً ومصابرةً وإلتماعاً في الانسانية والموضوعية .
-8-
وما أروعك حين تترجم عملياً تقديرك الكبير (لقيس بن مسهر ) من خلال محاكاته، في نصرتك للثوابت والمبادئ والقيم في زمن قلّ فيه (المبدأيون) وكثر (الانتهازيون) وشاعت الشعارات، والادعاءات الزائفة، والوعود المعسولة، والعنتريات التي ما قتلتْ ذبابة، ولم يَجْنِ العراقيون الاّ خيبة الآمال، وضياع الأعمار، في مكابدة مرّة، متصلة الفصول ، رهيبة الابعاد.