قبل الغزو الاميركي لم يعرف العراق الا ارهاب السلطة ، الا ان الاحتلال فتح كل الابواب لتكون ارض العراق ساحة لكل انواع الارهاب الجهادي والتكفيري والميليشياويمن كل لون وشكل وجنسية مع ارهاب سلطة اكبر في الكم والنوع . وتديم هذا الارهاب وتفاقمه حالة الصراعات الداخلية والتوترات الاقليمية والدولية المتداخلة .
قد يسأل البعض : ان كان الارهاب متعلق بالوجود العسكري الاميركي فلم لم يرحل برحيله ؟
نقول ببساطة :الكل مشترك في تاجيج حالة الارهاب في العراق ،فأميركا بغزوها شرعنت وفتحت ابواب عدة للارهاب ولم تستطع اغلاقهاحتى انسحابها ( الرسمي الصوري ) . حتى ماكانت مقاومة مشروعة ضد الاحتلال تحولت بفعل فاعل الى ارهاب عشوائي وفقالاجندات الاطراف المختلفة التي دخلت الصراع بكل قوتها ، وكان لتصاعد الصراع الستراتيجي المغلف بدعاوي مذهبية وايديولوجية دور في صبغ الارهاب بصفة طائفية لكنها لا تخفي عمق التباين الستراتيجي الاقليمي الكامن خلفه .
ايران ، هي المستفيد الاكبر من الاحتلال ، فقد ازال الغزو وقوض القوة العربية الوحيدة التي كان بامكانها صد وحصر التمدد الايراني في المنطقة ، فكان من الطبيعي ان يمتد النفوذ الايراني اخطبوطيا الى المشرق والخليج العربيين . كما كان من الطبيعي أن تسعى ايرانللمحافظة على مكاسبها الستراتيجية هذه بايجاد وادامة قاعدة ثابتة وقوية لها في الداخل العراقي وجعله جسرا للعبور لقواعدها في الشام ولبنان، بالاعتماد على وجود عسكري واستخباري مباشر او بالوكالة من خلال احزاب مذهبية وشخصيات سياسية ودينية وتنظيمات ميليشياوية بالتركيز على استغلال البعد الطائفي الى اقصى مدياته .وساهم ذلك كثيرا في رفع درجة الاحتقان الداخلي والارهاب “الاصولي” الشيعي .
دول الخليج تعاني من نقاط وهن ستراتيجي داخلي متمثل بضعف تركيبتها الاجتماعيةوهشاشة انظمة حكمها القبلية العائلية وانظمة حكمها العائلية ،فكان الهاجس الامني متسلطا دائماعلى سلوكها وتحالفاتها السياسية الخارجية..وقد دفعت ثمنا فادحا بسبب قصر نظرها السياسي الذي تتحكم به العقلية البدوية ..وذلك بمشاركتها الفعالة في تفكيك الدولة العراقية القوية بدلا من استيعاب “شطط” حاكمها ، لتجد نفسها وجها لوجه مع المارد الايراني المتغّول وافرعه المذهبية الممتدة من العراق الى ايران . …فدخلت لاحقا بكل ثقلها المالي والايديولوجي الى ساحة الصراع العراقية للحيلولة دون تسلل ايران من البوابة العراقية..واستخدمت البعد المذهبي المضاد لايجاد هلال سني لحشد القوى السنية مقابل الهلال الشيعي لجذب الصراع الى ساحات مناسبة لها .لكن اختلاف الاهدافوالخلفيات الايديولوجية لانظمة الخليج انعكس سلبا على وحدة الجهد وتوجهاته وكان التنافس على الدور الريادي سمة الصراع السعودي القطري المتجلي على الارض.
تركيا ، سوريا والاردن ومصر وغيرهم ، كلها دول لها مصلحة حقيقية للتدخل في الساحة العراقية ولكن باشكال اخرى ناهيك عن اسرائيل ودول كبرى (وحتى حزب الله اللبناني ) … وكل هذه التدخلات بالطبع انعكست ارهابا وازماتا سياسيةشلت العراق عن لعب اي دور خارجي ، بل اصبح رهينة لصراع الاطراف الخارجية…فهل هناك من يستغرب من انتشار الارهاب والجريمة السياسية في العراق؟
السؤال الثاني : لماذا ازدادت حدة الارهاب كما ونوعا في الاشهر الاخيرة بالرغم من كل الجهد الامني الحكومي المركّز وحملات المداهمة والاعتقالات ؟
الاجابة على هذا السؤال تتضمن ثلاثة اسباب:
الاول :من وجهة نظر ستراتيجية ، الحل الامني لوحده غير كافيلاستئصال الارهاب او تجفيف حواضنه او على الاقل اضعافه ستراتيجيا لوجود اسباب لاستمراره وتغذيته في ظل غياب اجراءات مكملة تتمثل بجهد سياسي مقترن بجهد اقتصادي وتربويلتفكيك ازمة الثقة والمصالحة بين المكونات السياسية والاجتماعية ،وخلق تنمية حقيقية متساوية والقضاء على الفساد والبطالة لغلق اكبر روافد الارهاب .
الثاني :دخول السعودية مجددا وبقوة كبيرة في توجيه وصياغة السياسة الاقليمية بعد سحب عدة ملفات من قطر التي لم يساعد حجمها وتأثيرها في اقناع العالم بالدور المناط بها . فالقيادة السعودية كانت شبه مشلولة بسبب تقدم الملك في العمر ومرضه ووفاة وليين للعهد في فترة قصيرة ، وانكفاء السياسة الخارجية السعودية التي يقودها سعود الفيصل لنفس الاسباب ( الفيصل وزير خارجية منذ اكثر من 40 عاما ..ولا يجد الغرب في هذا امرا غير ديمقراطي ) .
بندر بن سلطان وبعد توليته مسؤولية جهاز الامن الوطني والسياسة الاقليمية بصلاحيات كبرى وميزانية هائلة ، اصبح الان هو الحاكم الفعلي للسعودية . ورؤية بندر للامور واعادة الدور السعودي الى الواجهة تتميز بالجراة والهجوم وتخطي الخطوط الحمر بدعم من تفويض اميركي وعلاقات متشعبة مع الكثير من صانعي القرار الاميركي والغربي واكثرهم تطرفا ( خاصة صقور الجمهوريين واليهود الاميركيين من جماعات الضغط لصالح اسرائيل ( وبندر هو مهندس الحرب على العراق في 1991 وفي 2003 وممثل السعودية في واشنطن من 1979 الى 2005وعراب اسقاط نظام صالح في اليمن ومرسي في مصر والمصر على اسقاط سوريا بكل الوسائل) . خطة بندر للمنطقة تتضمن :
-كسر التحالف الاميركي الاخواني باعتبار ان الخطر الحقيقي على انظمة الخليج لا ياتي من القوى العلمانية المحلية الضعيفة بقدر ماياتي من تنظيم دينى عالمي كبير وعريق كالاخوان المتعارض مع الخط الوهابي . فكان اسقاط مرسي وحكم الاخوان في مصر( لتامين المحيط الاقليمي للسعودية ودول الخليج عدا قطر ) ، وسحب قيادة الائتلاف السوري المعارض من الاخوان وتسليمه الى الشيخ احمد الجربا لتكون الحرب ضد سوريا برؤية وتنفيذ سعودي متكامل مع الرؤية الاميركية. من أجل ذلك يعمل بندر على شراء وتجنيد سياسيين واعلاميين اميركيين وغربيين لتكوين لوبي ضغط على الادارة الاميركية . ويتضمن ذلك اضعاف الدور القطري التركي الموالي للاخوان .
-كسر التحالف الايراني -العراقي -السوري –حزب الله . وقد استلزم تفعيل المقاومة المسلحة في سورية بمدها باسلحة نوعية ومال وتغليب سيطرة الاجنحة الراديكالية فيها القريبة من السعودية من اجل تحقيق نتيجة ايجابية على الارض استباقا لمؤتمر جنيف 2 . ومن أجل ذلك كان لابد من تفعيل الاردن ( كمعبر للرجال والمال وكمركز للعمليات الموجهة الى سوريا والى العراق بعد ترويض الملك الاردني المعارض بواسطة المال وترهيبه بالسلفيين وحتى باستمالة عناصر من المخابرات الاردنية ضده ) .
ويستلزم الامر ايضا جعل لبنان شوكة في الخاصرة السورية وقطع الجناح الجنوبي للتحالف ويتطلب ذلكمحاصرة نفوذ حزب الله في لبنان واضعافه عسكريا وسياسيا وتفعيل نشاط الجماعات السلفية اللبنانية المناوئة . واليوم يجد حزب الله نفسه اليوم في موقف ستراتيجي صعب : تهديد المعارضة السورية المتشددة على قواعده من الحدود السورية ، وارتفاع وتيرة التحشيد الطائفي السني ضده في الداخل ، ومسؤولية حماية مناطقه من العمليات الارهابية التي تنفذها العناصر المرتبطة بالمخابرات السعودية والتكفيريين الفلسطينيين والسوريين، واخيرا وليس اخرا التهديد الاسرائيلي اليومي بالاجتياح .
يمثل اضعاف النظام في العراق واشغاله بسلسلة ازمات امنية وسياسية متصلة هدفا مركزيا اخرا لبندر من خلال دعم جديد وفعال للارهاب المسلح ذي الصبغة الطائفية ،وللسياسيين ورؤساء عشائر ورجال دين (سنة وشيعة) في آن واحد ..
الثالث : مع اضعاف سيطرة الحكومة السورية على الحدود الشرقية انفتحت الساحة السورية المتلاحمة مع الساحة العراقية لتفعيل العمل والتنسيق بين المجموعات الارهابية والمتشددة في كلا البلدين مع ايجاد الاطار التنظيمي لذلك ( دولة العراق والشام الاسلامية التي اصبحت العنصر رقم واحد في معادلة القوة داخل المعارضة المسلحة في سوريا ) ، ووفر هذا الامر تسهيلات لوجستية كبيرة للتنظيمات المتشددة والارهابية في كلا البلدين، وهو امر مرشح لان يكون أشد خطورة على الوضع في العراق اذا ماسقط النظام في سوريا او سقوط المنطقة الشرقية من سوريا بكاملها بيد المعارضة المسلحة التي تسيطر عليها القاعدة والتنظيمات القريبة منها .
هذه االصورة واضحة ومعروفة للجهات الرسمية العراقية من خلال المعلومات والواقع المعاش ،لكن السؤال كيف نواجهها ؟فلا التغاضي عن دورايران والنشاط الارهابي للميليشيات المرتبطة بهايفيد في كبح الارهاب، كما لا تفيدالتصريحات المتشنجة والسباب في وقف دعم السعودية وقطر…فكلها دول تعمل لخدمة مصالحها الوطنية او انظمتها ولا يهمها معاناة شعب العراق وتدمير مستقبله كما لا يهمها تدمير سوريا وقتل شعبها او قتل المدنيين في ضاحية بيروت الجنوبية ( فشعارات الاخوة العربية والاسلامية والخطوط الحمر قد سقطت من زمان خاصة في ظل احتدام الصراع الطائفي وغياب اية ستراتيجية امن اقليمي مشترك ورفع بندر سقف الصراع الى مرحلة كسر العظم بلا اية مساومات ) . اما الذي يفيدويهمفهو قدرتنا على التحصين الذاتي وأن نملك الاوراق الضاغطة على هذه الدول لردع تدخلها والتخلي عن دعمها للارهاب .
ما جاء في كلام السيد المالكي مؤخرا وتصريحات بعض اعضاء قائمته ( النارية ) هو تشخيص صحيح لطبيعة الحرب على الارهاب ومن يقف خلفه ،لكنه يتناسى امرين : البعد الداخلي للارهاب وهو الاساس ، واغفاله عن كيفية الرد على من يدعم الارهاب من دول الجوار في معرض تهديدها بالرد عليها واعادة تصدير العنف اليها ؟
فماهي امكانات العراق للرد ؟ ماهي امكاناتنا بعد أن هدمنا اسس دولة مرهوبة الجانب لمجرد التخلص من حاكمها الديكتاتور ولنقيم بدلها امارات الطوائف والاحزاب المتهالكة والفاسدة ؟ وحللنا جيشا وطنيا عريقا وسرقة وتدمير اسلحته بحجج واهية لنقيم بدله جيشا بلا سلاح او اسلحة خردة من مكبات دول عاطلة (تشم منها رائحة الفساد ) ولا عقيدة عسكرية وقتاليةوبولاءات فئوية متعددة وطائفية غير قادر على مسك وحماية الحدود .
اين أجهزة الامن الوطني التي فككناها واعدنا بنائها باكلاف هائلة لكن بشكل مشوه وعاجز ؟ فقد كانت دورية من عدة شرطيين ومفوض قادرة على فرض الامن في ارياف مدينة كبرى بكاملها ، ويكفي ان يفتل شرطي شاربيه لفض اكبر مشاجرة وردع عصابات بكاملها. اليومصرنا نمتلك مئات الوف الشرطيين باسلحة وتجهيزات واليات حديثة لكن غير قادرة على اخضاع قرية ، وتكفي عصابة من بضعة مسلحين لاسقاط كل الدفاعات والحراسات على اكبر سجن محصن في البلد واطلاق سراح المئات من المساجين الخطرين ، ومهاجمة اكثر المباني الامنية والحكومية تحصينا في وسط بغداد وسط النهار رغم كل الاسيجة والكتل الكونكريتية والحمايات المسلحة .
تحقيق الامن هو مسؤولية اساسية للدولة …فلا حياة ولا تنمية ولا تطور طبيعي بلا امن .وتوظف الدولة كل امكاناتها السياسية والعسكرية والبشرية والاقتصادية والدبلوماسية والمخابراتية في سبيل ذلك ولردع اي طرف خارجي يحاول ان يمس امننا الداخلي او الخارجي .
السؤال : اين نحن من كل هذا بعد أن فقدنا كل اوراقنا واصبحنا ليس فقط مكشوفي الظهر بل الرأس والبطن والرجلين ايضا ؟…هل لدينا سياسة خارجية واضحة ( اسألوا السيد زيباري ان كانت الخارجية تدير تلك السياسة ؟) . هل لدينا ستراتيجية امن وطني ( مانقوم به مجرد ردود افعال على عمليات ارهابية وتصريحات غوغائية وعمليات للاستهلاك الاعلامي ) .اين هو دور دبلوماسيينا من ذوي الجنسيات المزدوجة ؟
لقد صرنا ، نقول وبكل أمانة : العراق صار صفرا في محيطه العربي والاقليمي وذلك مايفسر استصغار الاخرين لنا وتعمدهماضعاف وتهميش الدولة العراقية وسفك دمنا وادخالنا في اتون الفتن والازمات المستمرة لقتل اي امل في مستقبل او حياة كريمة حتى ان الكويت الصغيرة اغلقت علينا البحر ونحن الذين غزيناها في 12 ساعة قبل عقدين ، ودولة بحجم حي في اصغر مدينة عراقية مثل قطر “تلعب وتخوط” بساحتنا دون رد؟
من الخطأ تحميل السيد المالكي كامل المسؤولية في هذا التردي مادام بعض السياسيين لدينا من الخط الاول والثاني يتباهون بتمثيل دور التابع (وفق تصنيفهم القومي والمذهبي)لكل من السلطان التركي والولي الفقيه الايراني وخادم الحرمين السعودي ولا نتحدث عن السياسيين من الخطوط الاقل او من ذوي الجنسيات الاجنبية ) . هل نتحدث عن البعض الذي مازال يدفع فاتورة استضافته من قبل هذه الدولة او تلك في فترة ما ويجاملها على حساب المصالح الحيوية للعراق ؟
لذلك نعيد صياغة السؤال … هل نستطيع ايقاف الارهاب الذي يقوض اسس دولتنا ووحدتنا الوطنية وردع داعميه مع استمرار الصورة المأساوية التي عليها البلد الان ؟