يقال إن الملك فيصل الاول دخل يوما قاعة المحكمة الجنائية الكبرى في القشلة زائرا ، وكانت المحكمة في حالة الانعقاد ، ولم يكن للقاضي أن يوقف إجراءات التقاضي بل ظلت الجلسة منعقدة مما دفع بالملك إلى السلام على الحضور وأخذ مقعدا له ببنهم ، ولما انتهت المحكمة من إجراءات التقاضي أخذ رئيس المحكمة والاعضاء دورهم بالسلام على الملك والترحيب به، ولدى مغادرته قال ، نعم صار للعراق قضاء ، نعم لم يخرق القاضي حرمة الجلسة ليرحب بالملك ، فهو ناطق باسم الشعب والملك سياسي خادم الشعب ، سلطة القاضي فوق سلطة الملك ، وهكذا احترم الملك قرار القاضي بالاستمرار بالمقاضاة وفقا للأصول ، وفي حادثة أخرى تجلىت فيها سطوة القضاء ، عندما قام الطيار صباح نوري سعيد بالتحليق بطائرته العسكرية تحت جسر الأحرار في فضاء قائم بين دعامتين مما دفع بوالده نوري السعيد بآصدار قرار فصله من الجيش خشية من أحكام القضاء ، وسار القضاء العراقي طيلة ثمانين عاما منذ تأسيس الدولة عام ١٩٢١ بخطوات سريعة نحو الاستقلال واستقرار بإجراءاته بعيدا عن السياسة ، ولم يكن لثورة تموز أو الانقلابات العسكرية أي مساس بالقضاء او التقرب إلى أحكامه أو قضاته ، إلا باستثناءات تقوم بها السلطات السياسية وكانت تخشى أن تصلها يد القضاء ، ولكن ما حدث بعد العام ٢٠٠٣ هو ما كان تعديا صارخا على أحكام القضاء وتسييس إجراءاته خاصة بعد تشكيل المجاميع المسلحة وقيام هذه المجاميع بواجبات الدرك أو مهمات الجندرمة لهذا المواطن أو ذاك الموظف ، وصارت لديه سجون ومعتقلات كسجن النادي الاولومبي أو قصر النهاية ، فتلك السجون كانت سجون حزب البعث ، لا سجون الدولة وهنا بيت القصيد ، فسجون الدولة مهما بلغ الظلم فيها لا بد أن تجد لمسة للقانون فيها أما سجون الأحزاب فهي سجون العقائد قوانينها القائمة على إلغاء الغير وكتم انفاسه، ، أننا لا تبرر سجون الأمن العامة أو المخابرات ابان النظام السابق ولا يقبل أي منا أحكامهم اللاقانونية والا إنسانية ، ولكن نقول كانت تغتال الكرامة وهي قمة في الظلم ، والسؤال اليوم هو لماذا نكررها اليوم ، أو بالأحرى نستنسخها ونضيف عليها ما هو جديد في عالم المافيات الحديث.
أن غياب الدولة بقوانينها المتحضرة ، يقابلها حضور السلطة الغاشمة والسلطة الغاشمة اليوم في العراق لها ثلاثة أبعاد .
الاول .. سلطة بعض الأجهزة الأمنية والتي يغلب عليها الفساد والطابع الشخصي ، فتقترف الاثام وتوقع الضحايا ، لأنها تعتمد غالبا على أساليب قديمة تقوم على القسوة والتعذيب والتصرف الفردي السادي .
الثاني .. سلطة بعض المليشيات ، وهي سلطة منحتها الأحزاب لنفسها وتقوم عادة على القسوة والتعذيب بعيدا عن رقابة القضاء ، ولم يكن ليحدها غير سلطة قائد المجموعة أو مسؤول التنظيم .
الثالث.. سلطة بعض شيوخ العشائر التي تجلت في إصدار أحكام بعيدة كل البعد عن أصول القانون أو حتى التسليم بقواعد العرف أو احكام التقاليد . وهي عادة ما تلحق الظلم والضرر. بالناس ، وهي لا تقل وحشية عن وحشية الجهات الظالمة الأخرى .
أن تراجع القضاء العراقي للأسباب المعروفة والتي تقف خلفها الأحزاب والكتل السياسية ، نعم تراجع هذا القضاء عن دوره الحاسم في تحقيق العدالة في أحكامه ، أو تراجعه أمام حياديته المعهودة في تفسير القوانين أو البت في مدى مطابقة هذه القوانين للدستور ، كل ذلك يسبقه سكوت القضاء على عدم تطبيق الحكومات للقوانين الصادرة عن مجلس النواب ، أو عدم مطالبة تلك الحكومات المتعاقبة بتنفيذ بعض مواد تلك القوانين مما يثير الدهشة خصوصا ما يتعلق بالقوانين التي تحقق الرفاه الاجتماعي ، فمثلا سكوت القضاء على عدم تنفيذ الحكومات المتعاقبة للمادة ٣٦ من قانون التقاعد الموحد رقم 9 لسنة ٢٠١٤ ، أو سكوت القضاء على عدم تنفيذ الحكومات المتعاقبة للمادة ١٤ من القانون رقم 26 لسنة ٢٠١٩. أو سكوت المحكمة الإدارية أمام مخالفة هيئة التقاعد للقوانين الصادرة ، وقد لاحظ الجميع أن الحرج الذي تمر به المحكمة الاتحادية ، هو حرج ناتج عن الضغوطات السياسية الواقعة على هيئة المحكمة أو جراء تبعية بعض الاعضاء للأحزاب المسيطرة.
أن الدولة كي تكون دولة بالمعنى الفني الصحيح ، هي تلك الدولة التي تكون فيها السلطة مقييدة بالقوانين ، وهي أي الدولة أعلى من السلطة في التدرج المهني الصحيح ، غير أن ما يحدث اليوم ، هو تعالي السلطة على الدولة ، مما جعلها على الدوام دولة فاشلة ، والحل هو واضح لا يقبل اللبس ، هو الاعتراف بسيادة الدولة المدنية ، تلك الدولة القائمة على الاعتراف بالهوية الجامعة ، لا هوية الأجزاء ، وهي الدولة التي يخضع فيها الجميع لأحكام القانون ، وعندها لا يحكم المواطن لا وفق ما تراه الأحزاب ولا ما يريده شيخ العشيرة…