22 ديسمبر، 2024 3:54 م

هكذا عرفت البروفيسور طه الهاشمي‎

هكذا عرفت البروفيسور طه الهاشمي‎

في عام 2002 م ، قبلت في كلية الفنون الجميلة ، طبعاً تم قبولي فيها على مضض بضغط كبير من قبل الأهل ، فأخي الدكتور نبيل كان قاصاً ، و أخي المهندس محمد كان يتمنى ان يلج فضاء الدرس الجمالي ، ووالدي كان متأثر أيما تأثر بأبن عمه الرائد المسرحي المرحوم ( جاسم العبودي ) ، وعندما قرأت أسمي في لائحة القبولات في إعدادية الجمهورية ، خرج مدير المدرسة الأستاذ المرحوم ( عبد الرضا ) ممتعضاً قال لي بالحرف : ” لك والله عيب عليك .. شراح تطلع راكوص ” كان لقوله هذا وقعاً مراً في داخلي ، عموما تم القبول في قسم المسرح ، ونجحت بالاختبار بعد أن بذل معي الرائد المسرحي الراحل ( عزيز عبد الصاحب ) مجهوداً كبيراً في تدريبي على أداء شخصية من مسرحيته ذائعة الصيت ” ليلة خروج بشر بن الحارث حافياً ” حفظت الدور ، وانحفرت في ذهني كل ملاحظات الأب الراحل ، ولما ذهبت الى قسم المسرح ، كانت خيبة أمل كبيرة ، فالبناية لا تحيل الى اي ملمح جامعي ، وكأنها مدرسة إعدادية عتيقة مهجورة .. هنا انتفضت على قرار الأسرة معلناً تمردي : ” معقولة هم كلية فنون ، وهم في هذه البناية ” ، ويرد علية أخي محمد ” لك بابة أنت شعليك بالبناية .. انت راح تدرس مسرح ” ، وقررت الإصرار على الانتقال إلى قسم آخر .. فكان قسم ( السمعية والمرئية ) محطتي الثانية ، قبلت بعد النجاح في الاختبار الذي يرأسه نخبة من الأستذة الأجلاء ، ولا يمكنني أن أنسى لحظة الإغتراب الأولى حالما باشرت في اليوم الأول بالدوام ، ولكن مالفت إنتباهي إن أحد الطلبة ( بشار محمد ) رحمه الله ، كان يتسلل من دروسنا في الصف الأول ، ويلج بهدوء لدرس السيناريو مع طلبة الصف الثاني ، والثالث ، فقلت لبشار لم هذا الإصرار على ترك محاضراتنا ، والدخول مع الثاني والثالث ، قال لي بالحرف الواحد : ” يمعود أنت شايف درس دكتور طه حسن .. شيء مذهل ” وظل بشار مصراً على ملاحقة دروس الدكتور طه حسن إلى أن سافر الدكتور الى ليبيا ، مع انتهاء المرحلة الأولى ، حدثت الهزة السياسية الكبرى بدخول الاحتلال الأمريكي و إسقاط النظام ، فكانت مرحلة الصف الثاني قد بدأت من بعد الكورس الثاني ، وكانت أشبه بالعبور إلى المرحلة الثالثة وكانت سنة قاتمة بامتياز حيث فقدنا نخبة من الزملاء بسبب الموت العشوائي الذي اجتاح البلاد ، التي استعر فيها الشارع العراقي بالانفجارات ، وكنا نتشاهد أنا ورفيق دربي الصديق ( نور سليم ) يومياً عندما نذهب الى الكلية ، مع إنقطاعات الطرق بشكل عشوائي ، وازدحامات مريرة جداً ، وهذا ماجعل الأساتذة أكثر تعاطفاً معنا في حال تأخرنا عن المحاضرة ، في هذه السنتين الثاني والثالث ، الدكتور طه حسن الهاشمي في ليبيا للتدريس في إحدى جامعاتها ، ولما عاد إلى الكلية كنا في بداية العام الدراسي الجديد (الصف الرابع ) وقد تم تحديده كتدريسي لنا في مادة ( تحليل الأفلام ) ، وكانت الصدمة الكبرى إن كل الطلبة أعلنوا تمردهم على إدارة القسم ، وذلك برفض الهاشمي تدريسياً لنا ، أعلن أغلب الطلبة أنه من الاساتذه الأشداء ، و إن رسوبنا في درسه أمر حتمي ، و إن مستوانا المعرفي هش جداً بسبب ظروف الدراسة التي تزامنت لسوء الحظ مع الوضع المربك للبلاد ، وبهذا جمع الطلبة تواقيعهم في ورقة بيضاء مجتمعين على رفضهم للدكتور طه حسن ، أنا رفضت التوقيع مع مجموعة من الطلبة ، قلنا لجامع التواقيع ، نحن لم نتعرف على الدكتور أبداً ، فكيف لنا أن نوقع على ورقة ضده .. المهم رئاسة القسم لم تأخذ بإرادة الطلبة من حسن حظنا ، دخلنا المحاضرة الأولى ، و إذا بنا نقف أمام حضور آسر لتدريسي فذ ، يمتلك ثراء معرفي كبير جداً ، بدأ المحاضرة بأسئلة بدائية سرعان ما بدأت بالتعقيد شيئاً فشيئاً ، من هنا تعرف على مستوانا المعرفي ، وبدأ بتحديد مفردات منهجية صارمة ، تتماهى مع عرض ومشاهدة أهم الأفلام التي تركت أثراً عند مؤرخوا فن الفيلم ، سحرني درس الهاشمي وبدأت أنتظره بشغف ، اقتربت منه في إحدى المحاضرات ، وأعلنت له عن رغبتي الجدية في الانغمار بالدرس السينمائي ، قال لي : ” طلع ورقة وقلم .. بسرعة ” ، وبدأ يمليني أسماء المصادر التي يجب أن أتشرب محتواها المعرفي ، وبدأ مع بالتدريج من المصدر السهل إلى المصادر الأكثر تعقيداً ، ثم ملاني عدد من الأفلام التي يجب أن أتشبع برؤاها السردية ، ثم أنهى حديثه معي ” أي شيء اتحس نفسك مافاهمة تعالي ” مع قرأتي لكتابي ” فهم السينما ” ، ” اللغة السينمائية ” شعرت بمتغير كبير إزاء مشاهدتي للأفلام بدأت أتحسس مكامن فكرية وجمالية كانت تغيب عني ، تطورت علاقتي بالهاشمي عندما تلمس المتغير الثقافي لدية ، بعد أن قدمت له بحثاً سميكاً ، كان بمثابة تحليلاً إجرائياً لفيلم ” إنقاذ الجندي رايان ” لمخرجه ( ستيفن سبيلبرغ ) ، ثم أشرف على مشروع تخرجي ، وكان فيلم قصير ” عالم آخر ” وكان متحمساً لفكرته التي كتبنا أنا وصديقي نور سليم سيناريو الفيلم بدقة متناهية مع رسم اللقطات لقطة لقطة ، واستمرت ملاحقتي للدكتور طه ، حتى بعد التخرج ، حيث خطط لي ستراتيجاً ثقافياً يؤهلني لدخول فضاء الدراسات العليا ، وعندما امتحنت الامتحان التنافسي كنت في ذروة القلق ، وبعد حوالي أكثر من أسبوعين في الساعة الثانية عشر اتصل بي الدكتور يبشرني بالقبول .. فرحة لا يمكن أن توصف ، ومنها بدأت رحلة التبني الحقيقي لي من قبله ، فقد كتبت بأشرافه بحثاً ” الاتجاه السيميائي في قراءة سردية الشكل الفيلمي ” وكان بمثابة اختبار عسير من قبله ، وقد أهلني هذا الاختبار لقبوله الإشراف على كتابة رسالتي الموسومة ” المعالجات السينمائية للرواية الحديثة ” والحقيقة إن الرجل فتح لي صدره قبل مكتبته العامرة بالنفائس النظرية والأدبية ، ومن أهم ما خرجت من تلك التجربة ، هو إن الدرس النقدي الحديث لا يمكنه أن يرتقي إلا عبر الاشتباك مع كشوفات الفنون والأداب المجاورة لفن الفيلم الذي لم تصل سرديته الى ذروتها إلا بعد أن نهل صناعه من كشوفات الرواية الحديثة ، وتجليات الشكل البصري لفن الرسم .. وبهذا سأبقى مدين ماحييت لأستاذي ومعلمي الجليل الأستاذ الدكتور طه حسن عيسى الهاشمي ..