السرية والمفاجأة والمباغتة كانت أهم ما استخدمه عبد الكريم قاسم وزميليه العقيد الركن عبد السلام محمد عارف والعقيد الركن عبد اللطيف الدراجي.. في تنفيذ الثورة.. فلم يبلغوا سوى عدد لا يتجاوز أصابع اليد عن موعد تنفيذ الثورة.. واقتصر هذا التبليغ على العناصر التي تشارك في تنفيذ الثورة!! حتى إن أعضاء اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار التي ييرأسها عبد الكريم قاسم سمعوا بالثورة من الإذاعة.. وهو الأسلوب نفسه الذي استخدم في التعيين للمناصب الرفيعة سواء في مجلس السيادة أم مجلس الوزراء أو غيرهما..
فقد عقد اجتماع خطير يوم 11 تموز 1958(أي قبل قيام الثورة في ثلاثة أيام).. بين قادة الثورة الثلاث.. وهم: الزعيم الركن عبد الكريم قاسم.. والعقيد الركن عبد السلام عارف.. والعقيد الركن عبد اللطيف الدراجي.. وانفردوا فيه بتشكيل مجلس السيادة وحكومة الثورة.. وقد تم تسمية أعضاء مجلس السيادة.. وهم: الفريق الركن نجيب الربيعي.. رئيساً.. وقد رشحه عبد الكريم قاسم.. لكونه من أصدقائه.. ومن الضباط الأحرار.. والعقيد الركن خالد النقشبندي عضواً.. وقد اختاره عبد السلام عارف.. وأتفق الثلاثة على ترشيح محمد مهدي كبه رئيس حزب الاستقلال عضواً لمجلس السيادة.. ويبدو إن هذا التشكيل قصد منه تفويت الفرصة على أعضاء اللجنة العليا لتنظيم لضباط الأحرار لتشكيل مجلس قيادة الثورة..
ظلت أسماء مجلس السيادة وأعضاء الحكومة سرية لدى عبد الكريم قاسم لا يعرف بها أحد حتى إعلانها من إذاعة بغداد صبيحة يوم الثورة.. حتى إن العقيد ناجي طالب (نائب رئيس اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار) أي نائب عبد الكريم قاسم.. وكان آنذاك آمر فوج في البصرة لا يعرف في موعد الثورة.. وقد ذكر ليً (أنا هادي حسن عليوي.. كاتب هذه الدراسة) العام 1993 انه سمع بالثورة وتعيينه وزيراً للشؤون الاجتماعية من المذياع.. وأكد ليً: إن الزعيم عبد الكريم هو الذي اختار الوزراء بمشاركة العقيد الركن عبد السلام محمد عارف حفاظاً على سرية الثورة وعدم انكشافها لأجهزة السلطة.. حتى إن بعض الوزراء لا يعرف احدهم الآخر.. وبعضهم لا يعرفون قاسم أو عارف.. وأضاف ناجي طالب قائلاً: (هناك شخصيات سياسية معروفة ولها وزنها على الساحة.. اختار منها قاسم وعارف الوزراء)..
الواقع انه كان لعبد الكريم علاقات ببعض أحزاب المعارضة الوطنية المنضوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني.. فقد كان لعبد الكريم قاسم اتصالات منذ العام 1956 بالحزب الشيوعي العراقي من خلال كمال عمر نظمي (ممثل الحزب الشيوعي العراقي في جبهة الاتحاد الوطني).. كذلك عن طريق رشيد مطلك احد الشخصيات الوطنية التقدمية.. والأخير عينه قاسم بعد الثورة مديراً عاما للسياحة..
لقد طلب قاسم من الحزب الشيوعي رسم التدابير الخاصة بالشؤون الاقتصادية باعتبار إن هذا الموضوع (خارج اختصاص العسكر).. لكن عند قيام الثورة وإعلان التشكيلة الوزارية لم يكن لهذا الحزب وزيرا فيها.. فهل كان تعيين الماركسي إبراهيم كبة وزيرا للاقتصاد.. والمعروف عنه قربه من الشيوعيين كافياً لرسم السياسة الاقتصادية للبلاد؟.. ويقال إن عدم إشراك الحزب الشيوعي في الحكم بداية الثورة خشية اتهامها من قبل الدول الغربية وحلف بغداد بأنها ثورة شيوعية.. وبالتالي التدخل لإجهاضها..
خلال تحضيري لرسالتي للماجستير في العلوم السياسية العام 1975 قال ليً كمال عمر نظمي انه التقى عبد الكريم قاسم يوم الخميس 10 / 7 / 1958 وطلب منه قاسم إبلاغ الحزب الشيوعي بموعد الثورة.. وطلب منه دعم الحزب للثورة خاصة في الساعات والأيام الأولى للثورة وهو ما تحقق له.. أما بالنسبة للحزبين (الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال) فقد اتصل بهما رشيد مطلك المرسل من قبل عبد الكريم قاسم إليهما.. حيث اجتمع المطلك بكامل الجادرجي ومحمد حديد عن الحزب الوطني الديمقراطي ومحمد مهدي كبة ومحمد صديق شنشل عن حزب الاستقلال في ربيع العام 1958.. وذلك في زنزانة كامل الجادرجي في سجن بغداد حيث كان الجادرجي يقضي محكوميته فيه.. وذكر ليً (أنا كاتب هذه الدراسة) محمد صديق شنشل الأمين العام لحزب الاستقلال.. (إن إصرار قيادة الضباط الأحرار بمشاركة هذين الحزبين في الحكم.. أدى الى موافقة الجادرجي بمشاركة حزبه.. حيث كان الجادرجي يرغب في إن تكون حكومة الثورة الأولى من العسكريين فقط حتى تستتب الأمور).. وهكذا حصل الزعيم قاسم على موافقة هذين الحزبين بالمشاركة في حكومة الثورة..
ويبدو إن عبد الكريم قاسم كان يتخوف من الأمور المالية فطمأنه الحزب الوطني الديمقراطي على ذلك.. لذلك جاء ترشيح محمد حديد نائب رئيس هذا الحزب لوزارة المالية.. وبهذا الصدد يشير عبد الكريم قاسم في تصريح له بشأن استقالة محمد حديد من وزارة المالية في 10 نيسان 1960 قائلاً: (إننا نعرف الأستاذ محمد حديد قبل الثورة المظفرة بمدة سنتين.. وقد أجرينا المداولة معه حول وضع الخطة المالية لحكومة الثورة.. قبل قيامها لضمان الوضع الاقتصادي في البلاد.. من جانبه فان محمد حديد ذكر لـ (سام فول) القنصل الشرقي في السفارة البريطانية ببغداد بعد يومين من قيام الثورة (16 تموز 1958) انه علم بالثورة من المذياع حيث كان في الموصل).. وانه واجه رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم ونائبه عبد السلام عارف لأول مرة يوم 15 تموز أي في اليوم الثاني للثورة ولم يكن يعلم أي نوع من الناس هما.. لكن ذلك لم يمنع من معرفة حديد بالثورة واتصالات قيادتها بحزبه..
أما بالنسبة لهديب الحاج حمود فقد كان عبد الكريم قاسم يعرفه منذ العام 1931 عندما كان عبد الكريم معلماً في مدينة الشامية.. وهديب كان طالباً في الصف السادس الابتدائي.. وكان والده ابرز شيوخ عشائر مدينة الشامية.. لذا رشحه عبد الكريم قاسم وزيراً للزراعة في حكومة الثورة الأولى لخبرته في قضايا الفلاحين والزراعة.. إضافة الى كونه احد أقطاب الحزب الوطني الديمقراطي.. لكن هديب كزميله محمد حديد لم يعلم باستيزاره وزيراً.. بل سمع ذلك من الإذاعة صبيحة يوم 14 تموز 1958.. ويقول هديب انه حزم أمره وسافر الى بغداد حيث وصل وزارة الدفاع الساعة 11,30من صبيحة يوم الثورة.. والتقيتُ الزعيم عبد الكريم قاسم الذي هو أيضا كان قد وصل وزارة الدفاع تواً..
أما بالنسبة لحزب الاستقلال فقد ممثله في حكومة الثورة السيد محمد مهدي كبة رئيس الحزب كعضو في مجلس السيادة الذي مثل رئاسة الجمهورية آنذاك.. كذلك محمد صديق شنشل أمين عام الحزب وزيراً للإرشاد.. وفي مقابلة ليً معه في العام 1978 ذكر ليً شنشل: إن حزبه عرف بموعد الثورة خلال اجتماع اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني الذي صادف يوم 12 / 7 / 1958.. وذلك من كمال نظمي ممثل الحزب الشيوعي في هذه اللجنة.. لكن شنشل لم يكن يعلم انه سيكون وزيراً بل سمع باستيزاره من الراديو صبيحة يوم الثورة أيضا..
أما فؤاد ألركابي أمين سر قيادة حزب البعث فقد رشحه عبد السلام عارف فهو جاره ويلتقي معه بنفس التوجهات القومية والإسلامية.. على الرغم من إن حازم جواد وشمس الدين كاظم القياديين في حزب البعث قد قالا ليً (أنا كاتب هذه الدراسة) العام 1977 إن مرشحيهما لحكومة الثورة كانا فؤاد ألركابي وشمس الدين كاظم.. ولا يعرفان السبب في استيزار (فؤاد ألركابي وزيراً للأعمار) فقط.. وقد وعدً عبد السلام عارف بتلافي ذلك بأقرب فرصه لكن الأمور اتجهت بعكس ما كان يريد عارف.. فيما قال لي علي صالح السعدي القيادي في حزب البعث: إن مرشحنا كان فؤاد ألركابي فقط..
أما مصطفى علي الذي عين وزيراً للعدلية (العدل) في الحكومة الأولى للثورة فهو من أصدقاء عبد الكريم قاسم وأصدقاء عائلته.. إذ كان والد عبد الكريم قاسم يعمل مع والد مصطفى في النجارة.. وقبل الثورة كان مصطفى قاضياً في محكمة استئناف بغداد.. كما كان أدبيا وذا أفكار تقدمية يسارية.. وهو لا يعلم شيئاً عن ترشيحه للوزارة حيث حدثنا قائلاً: انه وأسرته خرجوا ليلة 13 ـ 14 تموز 1958 للتنزه في الحديقة التي تقع بين المقبرة الملكية ودار المعلمين الابتدائية في منطقة الأعظمية.. ثم أوى الى بيته في منطقة السفينة ليفاجأ في الصباح الباكر بإحدى قريباته تطرق باب بيته بشكل متواصل.. وتنهي إليه نبأ اندلاع الثورة وتعيينه وزيراً.. وأضاف مصطفى قائلاً: (توجهتُ في الحال الى الوزارة)..
أما بالنسبة للدكتور عبد الجبار الجومرد فقد رشحه عبد السلام عارف.. وهو أديب ومؤرخ ومختص بالقانون وذو توجهات قومية.. ويذكر الجومرد في مذكراته: (انه تفاجأ بالأمر حين أذيع خبر تعيينه وزيراً للخارجية.. مؤكداً انه لم يكن يعلم بالثورة ولم يفاتحه احد ولا يعرف من قام بالثورة ؟ وقال: (إن في الأمر حيرة ما بعدها من حيرة.. لقد أصبح الأمر في نظري واجبا وطنيا يجب أن أقوم به).. أما الدكتور جابر عمر الذي عين وزيراً للتربية والتعليم فقد رشحه عبد السلام عارف أيضاً.. بتأييد من العقيد الركن عبد اللطيف الدراجي.. وقد تفاجأ أيضا حين سمع بتعيينه وزيراً.. إذ يقول: (دهشتُ لاختياري.. لأني لم أكن اعرف عبد الكريم ولا عبد السلام عارف.. وفي اليوم التالي أي يوم وصولي الى بغداد.. ذهبتُ الى وزارة الدفاع حيث كان هناك الاثنان في غرفة واحدة ولم استطع أن اعرف أيهما قاسم وأيهما عارف)..
ويذكر عبد اللطيف الدراجي إن قائمة أسماء الوزارة التي عرضها عبد الكريم قاسم علينا كانت تضم فائق السامرائي من حزب الاستقلال وزيراً للداخلية.. وكامل الجادرجي زعيم الحزب الوطني الديمقراطي وزيراً للاقتصاد.. لكن عبد السلام عارف رغبً أن يكون وزيراً للداخلية فوافق عبد الكريم قاسم على ذلك مسايرةً له.. أما الجادرجي فقد اعتذر عن الاشتراك في الوزارة.. على الرغم تأييده للثورة.. وذلك لتجربته المريرة مع العسكر السابقة في انقلاب بكر صدقي العام 1936.. فاقترح عبد اللطيف الدراجي ترشيح إبراهيم كبة لهذا المنصب..
ودعيً عبد اللطيف الدراجي لتولي منصب وزير الدفاع.. فاعتذر مفضلاً منصب آمر الكلية العسكرية.. حسب ما ذكره الدكتور فاضل حسين القيادي في الحزب الوطني الديمقراطي..
وبناءً على الاتفاق بينهم فقد أصبح لعبد الكريم قاسم رئاسة الوزارة ووزارة الدفاع.. ولعبد السلام محمد عارف نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية..
كما ضمت وزارة الثورة وزيرين كرديين.. وهما أيضاً سمعا تعيينهما من الراديو ولم يعرفا أبداً عن ترشيحهما أو استيزارهما وهما: بابا علي وهو نجل القائد الكردي المرحوم (محمود الحفيد) وعين وزيراً للمواصلات والأشغال.. والثاني هو الدكتور محمد صالح محمود.. الذي عين وزيراً للصحة.. وكان محمد صالح طبيباً عسكرياً متقاعداً.. وهو ابن خالة عبد اللطيف الدراجي واخو زوجته..
التشكيلة الوزارية :
وهكذا أعلن عن تشكيل وزارة الثورة الأولى صبيحة يوم الثورة من إذاعة بغداد.. وعلى النحو الآتي:
1ـ الزعيم الركن عبد الكريم قاسم.. رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع وكالة..
2ـ العقيد الركن عبد السلام محمد عارف .. نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية..
3ـ العقيد الركن ناجي طالب.. وزيراً للشؤون الاجتماعية..
4ـ محمد حديد.. وزيراً للمالية..
5ـ هديب الحاج حمود.. وزيراً للزراعة..
6ـ محمد صديق شنشل.. وزيراً للإرشاد..
7ـ فؤاد ألركابي.. وزيراً للأعمار..
8ـ إبراهيم كبة.. وزيراً للاقتصاد..
9ـ عبد الجبار الجومرد.. وزيراً للخارجية..
10ـ جابر عمر.. وزيراً للتربية والتعليم..
11ـ مصطفى علي.. وزيراً للعدلية..
12ـ الدكتور محمد صالح محمود.. وزيراً للصحة..
13ـ بابا علي الشيخ محمود.. وزيراً للأشغال والمواصلات..
إن تركيبة الوزارة مثلت معظم الأحزاب المشاركة في جبهة الاتحاد الوطني.. وعدداً من الشخصيات الوطنية المعروفة المستقلة.. إضافة إلى مشاركة ثلاثة من تنظيمات الضباط الأحرار.. كما اخذ بنظر الاعتبار مشاركة الأكراد في تلك الوزارة.. مع ذلك فقد لعبت العلاقات الشخصية بين الضباط الأحرار وزعماء الأحزاب السياسية دورها في وضع الوزارة..
وهكذا تفاجأ جميع الذين رشحوا للوزارة بسماع أسمائهم من إذاعة بغداد صبيحة يوم الثورة.. حتى إن أغلبهم لم يحضر إلى وزارة الدفاع مقر رئيس الوزراء.. ولما أراد عبد الكريم قاسم أن يعقد اجتماعاً لمجلس الوزراء.. أراد أن يبلغ الوزراء بموعد الاجتماع بواسطة الشرطة.. إلا إن محمد صديق شنشل وزير الإرشاد الذي حضر إلى مقر وزارة الدفاع مع بعض وزراء جبهة الاتحاد الوطني.. اقترح عليه أن يتم تبليغهم عن طريق الإذاعة.. وهو ما تم..
والملاحظ على هذه الوزارة إنها لم تضع منهاجاً وزارياً أو برامج محددة عن سياستها.. لكن ممثلي الأحزاب في الوزارة سعوا لوضع برامجهم السياسية ومبادئهم المعلنة.. وما يترشح عن اجتماعات مجلس الوزراء المستمرة يومياً.. موضع التطبيق في تحقيق العديد من المنجزات.. كل ذلك أدى الى الخلافات في الرؤى والتطبيق.. فالطريق كان معبداً بالمصاعب والمؤامرات والتدخلات الدولية التي أدت الى استقالة العديد من الوزراء.. والى إجراء خمس تعديلات وزارية عليها خلال حكم عبد الكريم قاسم الأربع سنوات ونصف السنة..