22 نوفمبر، 2024 7:40 ص
Search
Close this search box.

هزيمة التنوير ونصرة الجهل والتزوير

هزيمة التنوير ونصرة الجهل والتزوير

لو تتبعنا أوائل الموجات العنفية في الجسد الإسلامي، من أيام الخلافة الأولى، لوجدنا أكثرها نتاج السلطة الإنفرادية وديكتاتورية العقيدة الواحدة.
فمن الأيام الأولى وجد المتطرفون الأوائل إمكانية إبهار الشارع المسلم واجتذابه بشعار الثورة على الظلم والاستبداد، وبالدعوة إلى رفض احتكار السلطة، أو اغتصابها، من قبل الخليفة والمتحلقين حوله، وإعادة بناء الدولة الإسلامية وفق أصولها الأولى التي لحقها التزوير والتلفيق، في رأيهم، بغض النظر عن خطأه أو صوابه.

والمشكلة أن بعض دعاواهم صحيحة، أو تبدو كذلك. فمن البداية قامت فلسفة إمارة المؤمنين على وحدانية الخليفة وتفرده بالسلطتين الدينية والدنيوية معا، وعلى اعتبار ولي الأمر، وهو الخليفة نفسُه، الموكل الوحيد بإقامة حدود الله، وتقنين أسسها وقواعدها، حسب رأيه وقناعته الشخصية، رغم أنه كان يستأنس بمجالس شورى هي في أحسن أحوالها مجموعة من أصحابه المقربين وثقاته لا ينتقي أفرادها سواه. مضافٌ إلى ذلك أنها كانت استشارية غير ملزِمة، ولا يجرؤ أحد على مساءلته حين لا يأخذ بما أشارت به عليه.

وعند قيام الدولة الأموية استطاع معاوية أن يبتعد كثيرا عن ملامح الدولة الإسلامية الأولى التي لم تعلن فيها فردية الحاكم عن نفسها بعد، وأقام نظاما ملكيا استبداديا بامتياز. ولعله كان الأول الذي تخطى الحدود التي رسمها القرآن، ولم يُبق حرمة لأهل بيت النبي وأصحابه الأقربين. وحروبُه مع الإمام علي، وأمرُ ولده يزيد بإعمال السيف في حفيد النبي وأسرته، كانت بداية لتوظيف الدين في خدمة الحالكم، وليس العكس. وما فعله قواده، وأولهم الحجاج بن يوسف الثقفي، بمكة وأهلها أعطى لمن جاء بعده، سواء من رجال الخلافة أو من الخارجين عليها، حق اعتماد العنف والتطرف وسيلة لتحقيق أهداف السياسة، وهو ما يفعله الخليفة أبو بكر البغدادي، اليوم، والولي الفقيه.

ولكم أن تعودوا إلى تاريخ الحركات التمردية الإسلامية المتعاقبة لتجدوا أن داعش ليس هو التنظيم المليشياوي المسلح الحاكم في الموصل والرمادي في العراق، والحسكة ودير الزور والرقة وتدمر في سوريا، وسرت بليبيا، بل هو الفكر المتوارث عبر تاريخ الأمة الإسلامية الطويل، والمستمِدُّ عنجهيتَه وهمجيته من مباديء الأمة ومخزونها العقائدي، ومن دعاة الخلافة الذين سبقوه في الجزيرة العربية وبلاد فارس وخراسان وتركيا ومصر، والذي فعلوا بالمدن والقرى التي كانوا يغزونها أكثر مما يفعله داعش اليوم. وهذا ما يفسر لنا سر الفشل الذي يصيب الحرب الكونية الدائرة ضد داعش، وقبلها ضد بن لادن والقاعدة. فهي تقتل من قادتها ومن مسلحيها العشرات والمئات كل يوم ولا تنتهي، بل ينبت غيرُهم، ويتدفق عليها المتطوعون من أرجاء الدنيا، وتعاود الغزو، كل يوم أيضا، ولا تتوقف عن ذبح أسراها بالسكاكين، وحرق بعضهم وهم أحياء.

ولابد من الإقرار هنا بأن روح الأمة، لا قلبها وعقلها وحسب، من قرون عديدة وما تزال، مُسلِمةٌ قيادَها لهذا الفكر المتطرف، وعصيةٌ على المصلحين والنهضويين والتنويريين الذين حاولوا تهذيب العقل المسلم وتحريره من سطوة الفهم العدواني للدين، ولم يفلحوا، ودفع كثيرٌ منهم دماءهم ثمنا لتلك المحاولات.

فلم تستطع جميع منجزاتهم العقلانية التحديثية، من أول أيام الخلافة وحتى يومنا هذا، أن تحدث تحولا يذكر في طبيعة المجتمع الإسلامي، وفي قناعاته الأساسية الراسخة التي سجن نفسه فيها.

وفي أيامنا هذه، وفي ظل الحروب المذهبية الدائرة في المنطقة، يتوضح الخلل، ويظهر جليا أن المجتمع الإسلامي حاضنة طبيعية للتطرف والعنف والاستبداد. فأبو بكر البغدادي أمير مؤمنين ليس سوى وريث لمن سبقه من أئمة وخلفاء في الشق السني من الأمة، يُكمل ما بدأوه، ويَحكم بتفويض إلهي، كما كانو يفعلون. يقابله في الشق الشيعي الولي الفقيه الذي ينوب عن الإمام الغائب، ويحكم باسمه وبتفويض إلهي مطلق أيضا.

فأين ذهبت ملايين الأطنان من كتب المفكرين الإسلاميين المصلحين، ومؤلفات الكتاب والشعراء والعلماء التقدميين، من أوائل التاريخ الإسلامي وإلى اليوم؟.

إن ظهور خميني وخامنئي في إيران، وصدام حسين ونوري المالكي وابراهيم الجعفري وهادي العامري وقيس الخزعلي ومقتدى الصدر والسيستاني وأبي بكر البغدادي، وقبله الزرقاوي، في العراق، ومحمد مرسي والإخوان في مصر، وبشار وقبله حافظ أسد في سوريا، وحسن نصر الله في لبنان، والحوثي في اليمن، والأمر بالمعروف والوهابية في السعودية، وحماس في فلسطين، وأردوغان في تركيا، وأنصار الشريعة في ليبيا، هو شهادة وفاة جديدة لزرادشت وعمر الخيام وابن سينا وحافظ شيرازي وسعدي ومنتظري وملكيان وشبستري وكاديور وعبد الله نوري ومهريزي، والحزب الشيوعي (تودا) ومجاهدي خلق والمتنبي وأبي نواس والحلاج وابن الرومي وأبي العلاء المعري وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومعروف الرصافي والسياب وعلي الوردي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وعلي عبد الرازق وجمال البنا وسيد القمني وفهد والحزب الشيوعي وحزب البعث، قبل خرابه، وجميع الأحزاب والتنظيمات الاشتراكية اليسارية الأخرى، وعبود الكرخي وعزيزعلي وسيد درويش والشيخ إمام والأبنودي وأحمد فؤاد نجم، وعلي فرزات وسميح شقير وإبراهيم قاشوش الذي انتزع النظام حنجرته التي كان يقاتل بها جنود الظلام.

والطبيعي والمُتبع الذي اعتدنا عليه أن جميع الحركات والتنظيمات الجهادية، وأنظة الحكم الاستبدادية تتغنى بالمقاومة والتصدي والتحرير، وتعلن أن (ثوراتها) هي ردٌ ثأري على جرائم الغرب، أمريكا وأوريا والصهيونية، بحق الدين الإسلامي والمسلمين، من احتلال فلسطين وتشريد أهلها، إلى غزو أفغانستان، ثم غزو العراق.

ورغم صحة بعض ذلك إلا أن الحقيقة أن نيران العنف الديني والتطرف المذهبي والتعصب القومي كامنة تحت الرماد، على طول القرون الماضية في انتظار الفرصة المواتية. وقد شهد العالم الإسلامي، قبل احتلال

فلسطين بعشرات، بل مئات السنين، كثيرا من الصدامات الدامية بين غلاة السلفيين والتكفيريين وبين الرافضين للفكر الرجعي والداعين إلى الحداثة والعولمة والحرية والديمقراطية وفصل الدين عن الدولة.

إن الحداثة والحرية والديمقراطية وفكرها وكتابها وشعراءها ومنظريها وجمعياتها وأحزابها فشلت في ترويض الأجيال المتعاقبة في المجتمع الإسلامي، وعجزت عن تخفيف هيمنة الظلاميين السلفيين والتكفيريين على عقل الأمة وروحها. فبرغم كل ثوراتها وانتفاضاتها، وبكل نضال روادها وتضحياتهم، لم تستطع أن تمنع واحدا كأحمدي نجاد من الوصول إلى رئاسة الدولة الإيرانية المترامية الأطراف واحتكارها ثماني سنوات وهو يعتقد بأن أمريكا تخطط وتتهيأ لإلقاء القبض على المهدي المنتظر.

ومرد ذلك، في تقديري الشخصي، إلى واحد من اثنين. فإما أن جحافل المفكرين التنويريين، من أول ظهور الدعوة الإسلامية وإلى اليوم، كانت ريشة صغيرة لا تقدر على الصمود أمام رياح الفكر الظلامي، لأنها كانت مجرد مقاومة تنظيرية غير تطبيقية لم تملك بل لم تفكر في أن تملك أدوات التغيير الضاربة القادرة على فرض عقلانيتها بالقوة، أو أن لهذه الأمة مناعة طاغية متأصلة تُحصنها ضد التقدم والتحضر، وتجعل منها حاضنة ولاّدة للقاعدة والإخوان المسلمين وجحافل الخليفة البغدادي ومليشيات الولي الفقيه، مثلما كانت من قبل حواضن للزنادقة والخوارج والقرامطة والشطار.

ولا أعجب إلا من هذا العالم المراوغ المنافق الذي يُعِد ما استطاع من قوة لمحاربة داعش والقاعدة والنصرة والحوثيين، ويسكت عن همجية الولي الفقيه والإخوان المسلمين وحماس وأنصار الشريعة وجمعيات الأمر بالمعروف ومدارس الفكر الديني العدواني والفضائيات والإذاعات المضللة الناشرة للخرافات والأساطير، والمروجة للعنف والتطرف، والتي يقودها معممون يُخفون تحت عمائمهم سكاكينَ وسيوفا ومفخخات.

أحدث المقالات