لم يتعرض مجلس النواب العراقي طيلة اثني عشر عاما لهزة سياسية كبيرة وخطيرة كتلك التي تعرض لها خلال جلسة الاول من اب-اغسطس الجاري، التي شهدت استجواب وزير الدفاع خالد العبيدي للمرة الثانية خلال اقل من عام واحد.
وبصرف النظر عن الدوافع والظروف والخلفيات التي دفعت بالعبيدي الى الكشف عن جزء من المستور في داخل الكواليس والاروقة السياسية من فساد الساسة، فأنه كان بمثابة قنبلة تفجرت فجأة واربكت المشهد وخلطت الاوراق وبعثرتها.
فطيلة ثلاثة عشر عاما، كانت المساومات والتخادمات السياسية كفيلة بالتعتيم على الكثير من مظاهر الفساد الاداري والمالي في مختلف مفاصل الدولة، لاسيما الحساسة والمهمة منها، لذلك ليس غريبا ان تكون كميات هائلة من موارد العراق المالية قد اهدرت وتبددت وذهبت الى جيوب وحسابات المفسدين من اصحاب المواقع والمسؤوليات والمناصب العليا في الدولة، حتى ان ملاحقة هؤلاء المفسدين ووضع اليد على ما سرقوه من اموال، بات امرا صعبا ومعقدا للغاية.
الوزير العبيدي تحدث بصراحة غير معهودة ومن تحت قبة البرلمان ليفتح النار على رئيسه سليم الجبوري ونواب اخرين، ويحول جلسة استجوابه الى جلسة عرض وكشف حقائق خطيرة، فاجئت في جانب منها البعض، واربكت البعض، وافرحت البعض الاخر.
واغلب الظن ان العبيدي لو لم يكن قد تعرض لضغوطات كبيرة، وحوصر بمطاليب وتهديدات واغراءات عديدة، لما خرج عن مألوف المشهد السياسي العراقي وتحدث بما لم يتحدث به احد من قبل، وهو ما يعني انه لم ولن يكن بمنأى عن الفساد المؤسساتي، وانه لو لم يتعرض للضغوطات والابتزاز لما كشف عن ما كشف عنه من الاسماء والارقام، ناهيك عن ان ما ظهر حتى الان يمثل الجزء الصغير جدا الطافي فوق الماء من جبل الجليد الغاطس في تحت سطحه!.
واذا كانت القضايا المثارة من قبل وزير الدفاع العراقي قد احيلت الى الجهات القضائية للنظر فيها واتخاذ الاجراءات المناسبة بحق من وردت اسمائهم في افادة الوزير، فأن القضية الاكبر والاخطر تتمثل في شقين،
-الاول:وضع المكون السني، ومدى امكانية تماسك القوى والشخصيات الممثلة له، خصوصا وان الاتهامات التي اوردها العبيدي اقتصرت على شخصيات من المكون السني حصرا.
-الثاني:وضع مجلس النواب، ورئيسه سليم الجبوري، وماهي الخيارات المطروحة لمعالجة واحتواء الازمة؟.
وفيما يتعلق بالشق الاول، فمن الواضح جدا ان المكون السني بأطاره العام –شعبيا وسياسيا-عانى خلال العامين الماضيين المزيد من المشاكل والازمات، وتعرض لتصدعات واهتزازات امنية وسياسية عنيفة، نتيجة سيطرة تنظيم داعش الارهابي على مساحات واسعة من المحافظات والمدن ذات الاغلبية السنية، وارتباط قوى وشخصيات سياسية ودينية وعشائرية سنية بجماعات ارهابية مسلحة وبأطراف خارجية لها اجندات ومشاريع خاصة تتقاطع مع المصالح الوطنية، اضف الى ذلك، غياب مرجعيات سياسية ودينية في الوسط السني تتمتع بالمقبولية وتمتلك قواعد جماهيرية يعتد بها. وجاءت اسرار العبيدي لتزيد الطين بله وتوسع مساحات التسقيط والتشهير بين فرقاء المكون السني من جانب، ومن جانب اخر، تزيد حمى التنافس والصراع فيما بينهم للاستحواذ على منصب رئاسة البرلمان ومنصب وزارة الدفاع في حال تم اقصاء الجبوري والعبيدي –او اي منهما-
وبالفعل راحت وسائل الاعلام تسرب بعضا مما يجري خلف الكواليس وتتحدث عن اسماء دخلت حمى التنافس والتسابق على المنصبين.
وفي حال افترضنا ان غياب وزير الدفاع عن منصبه يمكن ان يعالج بتمشية شؤون الوزارة بالوكالة اما من قبل رئيس الوزراء او شخص اخر يكلفه الاخير بذلك، فأن منصب رئيس البرلمان في حال استقال او اقيل سليم الجبوري فأنه لابد من اشغال المنصب خلال وقت قصير من قبل شخصية تنتمي الى فضاء المكون السني، لذ فأن ائتلاف اتحاد القوى العراقية الذي يتزعمه اسامة النجيفي-الذي تذهب بعض المؤشرات الى انه وراء ما اثاره العبيدي في جلسة استجوابه البرلمانية-راح يتحرك مبكرا للاستحواذ على رئاسة البرلمان، علما ان النجيفي كان قد شغل المنصب لمدة اربعة اعوام (2010-2014).
وهنا فـأن خيار تنحية او تنحي الجبوري من منصبه يعد احد الخيارات المطروحة، المتعلقة بالشق الثاني الذي اشرنا اليه انفا، رغم انه حتى الان يبدو ان الجبوري نجح في احتواء الازمة والتقليل من اثارها عليه.
وفي حال ازيح الجبوري فأنه سيكون ثاني رئيس برلمان عراقي بعد عام 2003 يقصى من منصبه قبل انتهاء الدورة البرلمانية، حيث سبقه في ذلك محمود المشهداني، الذي ارغم على تقديم استقالته في اواخر عام 2008 بسبب تراكم الملاحظات والمؤاخذات والاعتراضات على اسلوب ادارته للبرلمان، ليخلفه الامين العام للحزب الاسلامي العراقي اياد السامرائي لمدة عام ونصف ، انتهت ببدء الدورة البرلمانية الجديدة في اعقاب انتخابات صيف 2014، التي جاءت بكل من فؤاد معصوم وحيدر العبادي وسليم الجبوري للرئاسات الثلاث.
ولعل اقصاء الجبوري ارتبط تحديدا بالاتهامات الموجهة اليه والمناخات التي اوجدتها، وهي لن تكون حلا ومخرجا حقيقيا للازمة، وهذا ما تتحدث به اوساط ومحافل سياسية عديدة خلف الكواليس، وحتى من على المنابر السياسية وعبر وسائل الاعلام، لذلك اخذت تطرح جملة خيارات، لعل بعضها غير جديد وطرح قبل عدة شهور في خضم اتساع نطاق التظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية المطالبة بالاصلاح والتغيير، من قبيل حل البرلمان والدعوة الى اجراء انتخابات برلمانية مبكرة، او اعادة رسم وصياغة الخارطة السياسية من خلال تشكيل ائتلافات وتحالفات عابرة للمكونات الطائفية والقومية والعرقية والاثنية، تساهم في كسر معادلات المحاصصة التي بنيت عليها العملية السياسية بعد الاطاحةبنظام صدام ربيع عام 2003، والتي كان للاميركان دورا كبيرا ومحوريا في فرضها وتكريسها.
ويبدو ان كل ما يطرح حاليا من خيارات لايتعدى في جانب كبير منه كونه هروبا الى الامام من قبل البعض، وتهربا من المساءلة والمحاسبة القانونية من قبل البعض الاخر، من الذين يشعرون ان الامور باتت تسير في غير صالحهم، واكثر من ذلك اصبحت مواقعهم وامتيازاتهم مهددة الى حد كبير.
ولان المخارج والحلول لاتحظى بقبول كبير، وتفتقد الى الارضيات والمناخات المناسبة، ولايؤمل كثيرا بأي منها، فأن المخاوف والهواجس اخذة في التنامي من الاستمرار في كشف المزيد من فضائح الفساد المالي والسياسي في المستويات العليا، لتزداد الامور سوءا في ظل غياب اي معالجات وحلول عملية، من شأنها ان تضع حدا للواقع السياسي السيء في البلاد.
الوضوح والشفافية وكشف الفساد والمفسدين امر حسن للغاية، بيد انه لن يكون مجديا فيما لو تحول الى اداة للتسقيط والتشهير والتنافس غير الشريف على الامتيازات والمواقع ليس الا.