شعَرَ بقدوم زائره ونديمه الثقيل ، السأم ، ليضيف الى كاهله المثقل بالهموم ثقلا اخر ، جعله يستلقي تحت وطأته ، ذلك المحاور الشرس مع الذات ، فتح بوابة افكاره السلبية على مصراعيها من شعور بالحيف والظلم والاختناق والضيق والخواء ، وليس أخرها اليأس ،شعور مألوف في بلاد الرافدين .
كانت كل الابواب موصدة امامه ، وكأن الجدران أطبقت عليه ، جدران تذكـّره بحدود بلده التي طالما استاء منها ، واستبشر خيرا عندما انهارت أمام جيرانه بعد سقوط بغداد، وأذا بها تمتص كل سموم الأرض ، جفاف وكوليرا وارهاب ، فساد وتلوث بيئي ، قذائف رعناء عشوائية ، حيث كل شيء محكوم بالاعدام مع وقف التنفيذ ، لا يشترط ان تكون مذنبا لتموت ذبحا ،او متناثرا اشلاء على الارصفة ، لقد اغتالوا كل شيء ، أليس عجيبا ان يدخل بلد الحضارات عصر محاكم التفتيش !؟
وفكر مع نفسه ،(لماذا لا اهرب كالملايين الذين هربوا من هذا البلد ؟ ، لم اذق طعم الغربة يوما ، رغم اني غريب وانا في عقر داري ،يقولون انها مُرّة ، فطالما اكتوى بها شعرائنا في المهجر ، ولكن علي ان اعيش ما تبقى من عمري بكرامة وامن ، حيث لا اسمع اصوات المفخخات والعبوات ، ولا عويل الثكالى ، ولا صرخات الجرحى ، حيث لا أرى ابواب المشارح المشرعة ، ولا مناظر الجثث المجهولة الهوية ، أه من تلك الهوية ،هل ستبقى مجهولة حتى آخر عراقي ؟ ، انا مجهول حيا ، ومجهول ميتا، ولكن اي بلد سيقبلني لاجئا ؟ والله قال ان ارضي واسعة ، والدول المتقدمة لا تكف عن وضع العراقيل امام الاف المساكين مثلي بسبب بضعة اوغاد وصعاليك ، او ربما لجأوا لحُجة جاهزة لقتل حلم اللاجئين ،هل سأسافر بالطائرة ؟ ، ولكن لا قبل لي بثمن التذكرة ، وأي بلد سيمنحني تأشيرة دخول ؟هل سأسافر بالبر ؟ ، ولكن ماذا عن مناطق القنص والرصاص الارعن وحقول الالغام التي اكتسحت حقول القمح ، ماذا عن نقاط التفتيش الوهمية ، والمتنكرين بزي الشرطة ؟ ، ماذا سأجيبهم ان سألوني : أشيعي انت ام سني ؟ مسيحي أم مسلم ،كردي أم عربي ؟، انها الهوية مرة أخرى ، تذكرة الموت المجاني )! .
وومضت في باله فكرة ،( لماذا لا اصنع طائرة ؟! ، فلدي خبرة متواضعة في علوم الطيران ، لماذا لا أستغل موهبتي كهاوٍ اصنع نماذج الطائرات ، ولا تنقصني المهارات اليدوية ، بإمكاني صناعة طائرة خفيفة ، بمحرك صغير ، فأقفز فوق الحواجز ، وكل القوانين وكل الانظمة التي تكبـّل حريتي ، الان عرفتُ لماذا تهرب الفراشة من الظلام الى النار ، انه الخوف من المجهول الذي يتربص بها ،كحالي ، سأقفز فوق كل الحراب التي تشتهي لحمي ، سأستغل الفوضى والانفلات ، لا لأسرق ، لا لأسيء للنظام ، لا لأتبوأ مقعدا سياسيا ، لا لأمتطي موجة طارئة ، ولكن لأفلت بجلدي) .
(سينقذني الانترنيت ، الفائدة الوحيدة التي جنيناها من (التغيير) ،ولن يبخل عليّ بالنصائح والمعلومات ، مجرد هيكل معدني مكسو بالقماش ، كـان قد صنعه الأخوان ( رايت ( ، عار عليّ أن لم أفعل ذلك ، لقد سبقوني أكثر من مائة عام ، أليست تلك فجوة زمنية كبيرة ؟ ، وبنظر الأخوين، لم يكن اختراعهما مسـألة حيــاة او موت ، لم يكن همهما الهرب من قريتهما الهادئة الوادعة ، كهروبي من جحيم حقيقي .
ليكن لون القماش مألوفا ، سأجعله شعارا يطوف السماء ، ابيض كالغيوم ،كلون الأكفان، والمحرك ، ليس بمشكلة ، فملايين المولدات تنفث سخامها في الفضاء، فأفسدت هواء بلدي ، وفسدت معها الانفس ).
وتوجه الى مقهى الانترنيت الوحيد المتبقي في مدينته ، فقد اطاح الانتحاريون بالمقهيين الاخرَين ، فوجده وقد تحول الى ثكنة عسكرية ، كان عدد حراس المقهى المدججين بالسلاح، يفوق عدد الزبائن ، وتعرض للتفتيش الدقيق قبل الدخول ، ليس هذا عجيبا في بلد يتنفس العجائب .
لم يبخل الانترنيت عليه بشئ ، هكذا حصل على ضالته من المخططات والمعادلات والتعليمات والنصائح اللازمة ، وحوّل فناء منزله الخلفي في احد ضواحي بغداد الى ورشة .
بغداد ، ساحة الصراع بين الجهات الاربع ، وكل الضغائن البشرية على وجه الارض منذ ادم وحواء ،(لقد البسوا بغداد أقنعة قبيحة من الاسمنت ، فضاع وجهُها ، كالنقاب الغريب الذي تسلل مع الغزاة ،فسجن وجه المرأة الجميل ، وزحف الظلام على معالمها وتماثيلها ونُصُبها ،وأغتال الذكريات ،حلّ الغبار محل الندى ، فما كان منا الا ان نسجنا خيوطا عنكبوتية حول ذواتنا ، لنتقي شر محيطنا ، تقوقعنا في شرانق لا حياة فيها ، حيث لا نور ولا كلمات) .
سخـّر كل مواهبه ، بذل كل جهده ، نضحت مسامات جسده بدل العرق دما ، قام بنحت مروحة المحرك من الخشب ، صنع الهيكل من قضبان الالومنيوم من كراس ٍقديمة ، وكساه بالقماش الابيض ، وركـّب تحته المحرك والمروحة ، ونصب العجلات والعتلات واسلاك التحكم بالدفة والاجنحة .
وهكذا ، صنع طائرة شراعية باجنحة مثلثة الشكل ، تذكـّره بالطائرات الورقية التي كان يصنعها في طفولته ، ولكن هذه المرة ، ليس ثمة خيط يربطها بالارض .
وفي اليوم الموعود ، قرأ تعليمات الاقلاع ، (مجرد سطرين ، ما اسهلهما ، ولكن الهبوط اصعب ، لا بأس ، كل شيء في وقته ، فسأخرج من عنق زجاجة ، ستكتب لي ولادة جديدة ، انها تذكرة ذهاب بلا عودة ، لن احتاج الى مظلة للهبوط ، أنا انتحاريّ ايضا ، لكن من اجل حريتي ، ولن أؤذي حتى نملة) ، ولم ينسَ ان يحضر بوصلة كان قد اهداها له جده ، قائلا له : (هذه بوصلة تعينك في طريقك ، حتى لا تتيه) ، كلمات نقشها الجد في ذهنه كشاهد القبور ، أخرج طائرته الى ساحة فارغة متاخمة لمنزله .
نظر الى هويته (سأحتفظ بها هذه المرة ، ستكون سببا لحياتي خارج وطني ، بدلا من سببٍ لقـتلي وانا داخل الوطن) ، وجلس في مقعده بالطائرة ، شغل المحرك ، احس بتيار شديد للهواء ، نظر الى بوصلته ، (لا خيار لدي ،ربما أهون الشرور ،التوجه شمالا).
ضغط على خانق المحرك ، فارتفع هديره ، وبدأت العجلات تتدحرج ، وكانت الاجنحة تهتز مصدرة قرقعة خفيفة ، تسارعت الطائرة ، تسارعت معها انفاسه وضربات قلبه ، ضغط بيديه على قضيب رافع الاجنحة ، فشاهد العجلات ترتفع عن الارض وتنخفض ، مثل طفل يطأ الأرض لأول مرة فيقف ويكبو ، كان يقترب من احد بساتين النخيل ، عليه ان يرتفع والا اصطدم بها ، وجد نفسه يتوسل بالطائرة ( هيا ، ارتفعي يا منقذتي ، فلا مجال للتراجع ، هيا تسلقي السماء أرجوك) ، فارتفعت تاركة الارض وكأنها استجابت لتوسلاته ، اعتراه شعور غامر من الدهشة والفرح والإعجاب ، شعور كان قد نسيه منذ زمن بعيد ، واقتربت من قمم أشجار النخيل ( سأشتاق إليك يا نخلة بلادي ، ربما لن أراك ثانية ، حتى انت لم تسلمي من الدمار، ارثيكِ وابكيك يا نخلة بلادي ، فجذورك عميقة ، ليست كجذوري).
اخذ بضعة أنفاس عميقة ، اغمض عينيه عن الشمس العارية ، فالشمس هذه المرة غير مكللة بدخان الانفجارات وحرائق أنابيب النفط ، وغمام الحزن ، وأشباح الطائرات الحربية ، وفتح عينيه )يا الهي ، ما اجمل منظر النخيل من فوق ، وصرخ : ( ألِس ، Alice) ) ، تغادر حفرة بلاد العجائب السوريالية ( ! ، وأخيرا ، تنفس الصعداء ، معتقدا إنها مسألة وقت حتى يظفر بالحرية ، وانهمك بالسيطرة على طائرته ، مستأنسا بهدير المحرك .
وما هي إلا دقائق ، حتى شاهد مجموعة من الملثمين المسلحين وقد احتموا بالأشجار ، وهم ينظرون إليه ، اعتقدوا أنها طائرة تجسس لقوات الغزو ، وعلى مقربة ، كان هنالك رتلا عسكريا للقوة الغازية ، وقد رمقه الجنود بنظرة تعجب وريبة ، اعتقدوا أنها لأحد المقاومين .
رفع الجميع بنادقهم وصوبوها نحوه ، ) يا الهي ، لقد توحد الجميع لأول مرة على هدف واحد ، ولكن على قتلي).
وانطلقت النيران من الفريقين ، وتقاطعت في نقطة واحدة هي الطائرة ، غطى عينيه بذراعه وكوعه ، أحس بألم الرصاصات الأولى ، كأسياخ نارية تخترقه ، (لماذا يكون ثمن الحرية مؤلما ودمويا ومدوّيا هكذا دوما)؟، أحس بعدها بدفء السلام والحرية ، وبخفته وكأنه سحاب ، يجوب السماء كيف يشاء ، فتحطمت الطائرة اشلاءً في السماء ، وتحققت نبوءته ، فـقـد لفت أجنحتها المتشحة ببقع الدم جسده ، كالكفن ، ولكن بزهور حمراء .