كانت الاراجيح في بلدنا مميزة، فعادة ما تصنع من جذوع النخيل الطويلة، والحبال المعمولة من الليف تعبر وتلف من بينها بإحكام قطعة هي عبارة عن كيس مصنوع من نسيج الصوف والتي تسمى بالعامية (الكونية) تستعمل عادة لاحتواء وتحميل مواد مختلفة، فتكون مكانا أمناً لتحمل القاعد فيها. كان الأطفال يفرحون أيما فرح ليتأرجوا بها ويتسلوا، وكثير من البيوتات كانت تحضى بواحدة أو أكثر في المنزل لترفه عن الأطفال والكبار أيضا كلما كانت الأرجوحة قوية، خاصة إن كان في البيت فسحة وعدد من النخيل أو أي نوع من الإشجار العالية والقوية. وفي أيام الأعياد في ساحة الألعاب، تقف طوابير الأطفال ليأخذ كل منهم نصيباً من التسلية في التأرجح والطيران العالي بدفعات قوية من صاحبها، وقد يطيل الطفل الجلوس فيها ويجدد لمرات ومرات بعد أن يدفعوا النقود مقدما ممن جمعوا (عيديات) كثيرة لينفقوها في العيد، بينما يبقى أطفال آخرون ينتظرون دورهم ممن ليس لديهم رصيد كاف، فيكتفون بنوبة (واحدة) إلا أن كثير من أصحاب هذه الأراجيح كان يحاول أن يكون عادلاً في حساب الوقت وتوزيع التأرجح والتسلية بين الأطفال، فالحسبة بالنسبة للأجرة نفسها في كل حال، وقد يتعطف على من لا يملك النقود فيمنحه فرصة بنوبة، حرصا أن ينال الجميع فرصته في التسلية، كما كان يحرص على أن لا يتأذى أحد منهم بدفعة أو سقطة، المهم في النهاية يذهب الجميع لبيته راضيا سعيدا .
اليوم غابت تلك الأراجيح عن الصورة إلى حد ما وأصبحت نادرة، واستبدلت بأخرى مصنوعة من المعدن، وتستعمل بطرق ميكانيكية، فضلا عن اختراع ألعاب أخرى تعمل بالكهرباء بطرق متعددة لتوفر التسلية والترفيه بأشكال شتى فردية وجماعية للصغار والكبار، ذلك بفضل التكنولوجيا التي تطورت في العالم من حولنا ونحن عنها بعيدون كل البعد. ورغم أن ذاك النمط القديم الجميل من الأراجيح صار نادرا، إلا أن أراجيح من نوع آخر قد استجدت غاية في البشاعة. إنها أراجيح المناصب. المناصب الحكومية وفي أية مؤسسة في هذا البلد صارت عند الكثيرين موضوع تسلية ووجاهة، ومحتكرة لمن يجدد وبلا رقيب ولا محاسب، وأبعد ما تكون عن المسؤوليات. وهنالك بالتأكيد المستفيد من الموضوع دون اعتبار للتبعات والعواقب، ومن يدفع بهذه الأراجيح ليتسلى ويسلي من فيها منتظرا أن يمن عليه ذاك الذي أحتكر الأرجوحة لنفسه، ليأخذ دورا عسى أن يكون قريبا، وقد يسرع ذلك الذي تفوض بالدفع لدفعه لأعلى فأعلى، إلى الأمام وإلى الخلف، وصاحبه مسرور، متغاضياً عمن سقط بهذه الدفعة أو تلك من خلفه أو أمامه، المهم أن يرضى
ويسعد بحاله، وفي النهاية قد يتعطف على هذا المتملق ليمنحه فرصة في تسلية قصيرة عاجلة، وربما بعد ضمان أنه سينتقل إلى أخرى. أراجيح المناصب تسود، وكثرت ضحاياها من المتساقطين بلا رحمة ولا هوادة، والمتسلون ما زالوا ينعمون بمناصبهم، وكأن لسان حالهم أنهم ينشدون بفرح غامر (مرجوحتي..يا مرجوحتي..) سعداء بما هم عليه غير آبهين، غير مبالين بكل تلك المصائب والنوائب، كل تلك الخسائر التي مني بها الشعب العراقي. ويبدو أنهم لن ينتهوا، ولن يعوا المسؤوليات الخطيرة والمهام الكبيرة التي تنتظر أن يشرع العمل الحقيقي بها. ويبدو أن الغرور عند الكثير منهم آخذ بالتعاظم، والتغاظي صار أسهل وأسلم للبقاء… ليتنا نستفد من عصر التقنيات، ولتنقرض أراجيح المناصب وإلى الأبد.