الفصل الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)
منذ الخلق الأول لأبينا آدم ()، مرت العديد من الإنعطافات التاريخية التي كان لها الأثر الأكبر في صياغة الإنسان نحو الكمال والصلاح، وكان أبطال هذا الرحلة المضنية والشاقة هم الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام ).
ونحن نعيش واقعة الطف كربلاء، لا بد من إلقاء الضوء على كربلاء. حيث طلّت في أرضها سحابة الدم الحر الشهيد فأنبتت أجيال الشهداء الثوار، وها هي أصداء الصوت الأبي الذي أطلقه الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) تتردد في وادي الطفوف، وتقرع مسامع الأجيال، وتطوف في ربوع التاريخ إعصاراً يعصف بالطغاة، وبركان دم يهز عروش الظالمين ويوقظ الضمائر الحرة، ها هو صوته يدوي ويملأ مسامع الزمن: (لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد.
إن رجل التاريخ اللامع هذا وأسطورة الملاحم والكفاح وكلمة الإباء والشرف هو الحسين. فمن هو هذا الحسين ()؟ وما هي معالم هذه الشخصية الفذة العملاقة؟.
هو الحسين السبط بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب () بن عبد المطلب بن هاشم، وأمه فاطمة الزهراء) () بنت محمد رسول الله (). ولد الحسين () الشهيد في المدينة المنورة في الخامس من شعبان السنة الرابعة من الهجرة وقيل الثالث من
شعبان. ولد الحسين () فاستقبلته الأسرة النبوية بروح الحب والحنان، فسماه رسول الله () (حسيناً). نشأ وترعرع في أحضان رسول الله () وبين أمير المؤمنين علي () وفاطمة الزهراء ()، فارتضع أخلاق النبوة وشب على مبادئ الرسالة الإسلامية العظيمة، مبادئ الحق والعدل والإباء. أحاطه رسول الله في طفولته بمشاعر الحب والحنان، وكان يحمله وأخاه الأكبر (الحسن) () على صدره الشريف، ويصرح أمام أصحابه ويعلن عن هذا الحب الأبوي الكريم ويقول:(اللهم إني أحبهما وأحب من أحبهما)، ويقول في عبارات أخرى:(إن ابني هذين ريحانتاي من الدنيا). وكان رسول الله ذات يوم يصلي والحسن والحسين عليهما السلام يتناوبان على ظهره الشريف فباعدهما الناس عن ظهره فقال:(دعوهما بأبي هما وأمي من أحبني فليحب هذين). وهكذا يعرِّف بالحسين الشهيد () في طفولته ويشخِّص مقامه للأمة لئلاّ تعتذر يوماً عن الجريمة الكبرى بحقه.
هذا هو الحسين في قلب رسول الله وفي عرفه وشريعته، وقد نشأ في بيت من أكرم بيوتات الإسلام وأعزها وهو بيت رسول الله ()، وتربى على خلقه ومبادئه فكان مثال الورع والتقوى وقدوة الإخلاص والزهد والعبادة. قوي الشخصية شجاعاً غيوراً على الإسلام والأمة. ذو شخصية قيادية عظيمة، شديد التمسك بالحق، قوي الإرادة، لا تأخذه في الله لومة لائم. فبهذه الصفات العظيمة وبهذه الشخصية العبقرية وبهذه المكانة الإجتماعية الفريدة، صار الحسين () قوة فعالة في ضمير التاريخ الإسلامي وإرادة حية تؤثر عبر الأجيال.
لقد نحت له هذا المجد العظيم تمثالاً في قلوب كل حر أبي يعرف للإنسانية حقها وللمبادئ والقيم قيمتها، فهو مثال الحر الأبي ومثال الثائر المنتصر للمستضعف المظلوم، وهو أحد القربى الذين أمر الله سبحانه وتعالى بحبهم حيث قال في محكم كتابه الشريف: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنةً نزد له فيها حسناً). وهو أحد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس
حيث قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً).
هذا هو الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، فهو شعار مدرسة اخلاقية، وتيار كفاح، وجهاد رسالي وسياسي فريد في تاريخ الإسلام، لذلك فإن دوره كبيراً وأثره عظيماً، فقد كان قوة دافعة ومحركة في أحداث التاريخ الإسلامي وخصوصاً الجهادي منه على مدى أجيال وقرون عديدة، ولم تزل نهضته وحركته ومبادئه تتفاعل وتؤثر في ضمير الأمة ووعيها.
إن السياسة الأموية وواقع الإنحراف الذي خطط له الطاغية معاوية، وتبناه بشكله المرعب فور موته بتولي إبنه يزيد الحكم الموروث، أن منح يزيد السلطة ليقود الأمة الإسلامية، ويخطط لمستقبلها ويحدد مسارها، فهذا معناه الإنهاء العملي للوجود الإسلامي على الإطلاق، وردة واقعية عن مبادىء السماء وعودة للجاهلية ولكن في ثوب جديد، فيزيد هذا كما تؤكد المصادر التاريخية يغلب عليه طابع الشذوذ في شتى أفكاره وممارساته ومشاعره، وأن يزيد لم يتوفر له أي انفتاح واع على الرسالة الإسلامية وأهدافها العليا التي تحقق أرقى صياغة للإنسان كفرد وكعضو في المجتمع.
ومن الجدير بالذكر أن يزيد بن معاوية هو بن ميسون النصرانية الذي تربى في حجرها وعند قومها النصارى، ويحدثنا التاريخ عن نشاطات مشبعة بروح الإنحراف عن الإسلام مما كان بن معاوية ابن أكلة الأكباد يمارسها على مسمع ومرأى من كثير من المسلمين في بلاد الشام، كاللهو الماجن واللعب الخليع وشرب الخمور ومنادمة الفتيات والغناء وكان يلبس كلابه أساور الذهب، واشتهر بالمعازف والصيد واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب والدباب والقرود، وما من يوم يمر إلا يصبح فيه مخموراً.
قرر معاوية أن ينصب إبنه يزيد هذا الوزغ المنحط خلقياً خليفة على المسلمين، ويأخذ له البيعة بنفسه خلافاً للأعراف والأحكام الإسلامية المتبعة في تعين الخليفة. فأثار هذا القرار الرأي العام الإسلامي وخصوصاً الشخصيات الإسلامية البارزة كالحسين ()
وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر وشخصيات أخرى. ذلل معاوية الصعاب وأحكم القبضة بكل ما أوتي من وسائل المال والدهاء والإرهاب. ونقل السلطة ورئاسة الدولة إلى ولده يزيد الفاسق مما حفز الأمة للثورة وجعلها تتهيئ لخلع يزيد الحاكم المفروض عليها.
وطبيعي عندما تشتد المحن وتتوالى الشدائد، ويطوق الأمة طوق الإرهاب والتسلط السياسي الجائر تتجه الأنظار الى رجال المعارضة وقادة الرأى التي تحمل روح الثورة والتضحية وتعيش من أجل المبادئ والقيم، ولم يكن في الأمة يومها من رجل كالحسين بن علي ()، فهو سيد قريش وسبط الرسول وابن أمير المؤمنين وخير رجال الأمة علماً وورعاً وكفاءةً وخلقاً، وليس في المسلمين من يجهل مقامه الشريف أو لا يعرف شخصيته.
ويزيد يعرف تعلق الأمة بالحسين () وشدة الحسين وعنفه وروح الوثبة والثورة فيه، فكتب في الأيام الأولى من توليه السلطة وبعد هلاك الطاغية معاوية، رسالة الى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة آنذاك كتاباً جاء فيه:- أما بعد، فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليس فيه رخصة حتى يبايعوا. إستلم الوليد رسالة يزيد وقرأ فيها نعي معاوية وإعلان البيعة ليزيد وتكليفه بمهمة سياسية كبرى. إستدعى مستشاره مروان ليبلغه نبأ هلاك معاوية وإعلان البيعة ليزيد، وفي كيفية مواجهة الحسين وتنفيذ قرار يزيد فأشار عليه مروان: (أرى أن تدعوهم الساعة وتأمرهم بالبيعة فإن خلعوا قبلت منهم وإن أبو ضربت أعناقهم). فأرسل الوليد عبد الله بن عمر بن عثمان وهو غلام حدث إلى الحسين () وابن الزبير يدعوهما للحضور فقالا انصرف الآن ناتيه. لم يكن هذا الإستدعاء إعتيادياً، ولم يكن الحسين ليغفل عنه، وماذا يريد الوليد في هذه الساعة، أحس الإمام الحسين وابن الزبير بخطورة الموقف وأدركا أن امراً جديداً قد حدث، وظن الحسين () أن الطاغية معاوية قد هلك فبعث إلينا ليأخذ بالبيعة منا قبيل أن ينتشر في الناس خبر هلاك الطاغية معاوية.
وهكذ استقبل الحسين () الخطة الأموية وتهيأ للمواجهة وأدرك المباغتة وعرف لغة التعامل مع هذا الحزب ثم قال: (لا آتيه إلا وأنا قادر على الإمتناع ) ، ثم بعث الحسين الشهيد إلى أهل بيته وحاشيته فاجتمع من حوله ثلاثون فارساً، فكانوا كوكبة أبطال ورجال ثورة، ثم سار إلى الوليد ومعه حرسه ورجاله مستعداً للدفاع متأهباً للمواجهة بهذه الروح وبتلك العزيمة وبالموقف الشجاع وبالتحدي والرفض، ومن الوهلة الأولى قرر الحسين () أن يجابه تسلط يزيد ويرد على الموقف السياسي الخطير، فهو يعرف يزيد ويدرك عمق المأساة ويعلم أن لا بد من السيف والدم والثورة والجهاد وسحب الصفة الشرعية من هذا المتسلط الطاغية بأي ثمن كان، فليس في نفس الحسين () الثائر الشهيد رضى ولا مهادنة وليس في لغته ضعف ولا وهن، فبين جنبيه قلب علي بن أبي طالب، وفي يده سيف الحق، وفي نفسه نفحة النبوة وعزة الإمامة وشرف الرجولة.
سار الحسين ليحدد الموقف ويعلن القرار ويحسم النزاع ويقول كلمة الرفض وهو يمثل إرادة الأمة وينطق بلسان الشريعة ومن حوله حاشيته وأهل بيته موحياً بالمواجهة وملوحاً بالموقف الصعب ومهدداً بالعنف والثورة.
سار موكب الحسين حتى وصل ديوان الوليد وقد حضر مروان بن الحكم. فاقتحم الموكب الحسيني مجلس الوليد وروح الرفض والتحدي ظاهرة على الحسين الشهيد () وأجلس حرسه ورجاله في موضع بحيث يرون مكانه ويسمعون قوله لئلا يؤخذ غدراً أو يهاجم على حين غرة. ثم احتاط للأمر وأعد رجاله وحرسه للوثوب والهجوم ووضع كلمة سر بينه وبينهم.
بدأ الحوار بعد أن سلم عليهم وجلس عليه السلام وأخبر الوليد الحسين بموت معاوية وعرض عليه البيعة ليزيد، فقال الحسين أيها الأمير إن البيعة لا تكون سراً ولكن إذا دعوت الناس غداً فادعنا معهم، فقال مروان لا تقبل أيها الأمير عذره وحتى لم يقبل فاضرب عنقه، فغضب الحسين () ثم قال ويلك يا ابن الزرقاء، أأنت تضرب عنقي… كذبت والله وخسئت، ثم أقبل على الوليد وقال: إنا
أهل النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة وبنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل النفس المحرمة معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة.
ثم خرج وانفض المجلس وانصرف الحسين عائداً إلى أهله وقد عزم على الجهاد وتأهب للمواجهة، ثم قرر التحرك وإعلان الثورة وأن يتخذ مكة المكرمة مقراً للإنطلاق وميداناً للتحرك.
وخرج الحسين من المدينة المنورة رافضاً للسلطة اليزيدية ومعلناً للثورة على يزيد، ويجيب على تساؤلات وأسئلة الكثيرين ويحدد هوية الحركة ومعالم الإنطلاقة وأسس المواجهة مع النظام الأموي الجديد، فقد أرسل رسالة إلى أخيه محمد بن الحنفية وقد جاء في نص الرسالة: -( لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله ()، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر وأسير سيرة جدي وأبي)، ويوضح سبب رفضه لبيعة يزيد بقوله:-(يزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل النفس المحرمة معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله) ، فالإسلام يشترط في القائد الذي يقود الأمة ويمسك بزمام الأمور أن يلتزم بقواعد القسط والعدل ويحترم قوانين الشريعة وإرادة الأمة ويلتزم بسيادة القانون ويتجرد عن حب التسلط واستغلال المنصب وجعله طريقاً للاثراء والمتع والإستئثار.
فقد كان الحسين () يرى القيادة أداة ووسيلة لوضع الأمة على طريق الهدى والصلاح والعمل على تربية الإنسان وبناء شخصيته وتنظيم الحياة وتطويرها نحو الخير والكمال. فهو يعلم أنه القادر على هز الحكم الأموي، وتفجير البركان تحت عرش يزيد، وأنه القادر على كلتا الحسنتين: النصر أو الشهادة، وأن يختط للأمة درب الجهاد والثورة على الحاكم الظالم، فإن انتصر سيقيم عدل الإسلام ويطبق أحكام الشريعة وقيم الحق التي نادى بها، وإن استشهد فسيبقى شلال الدم المقدس يجري عبر وديان الحياة يخصب الثورات ويسقي أغراس الشهادة.
لقد كان الموكب القليل العدد العظيم الإرادة الذي زحف به الحسين من مدينة جده الرسول الخالد محمد () إلى مكة المكرمة، ليقرر هناك مستقبل المسيرة الخالدة.
ولقد اجتمعت الكوكبة من آل البيت النبوي () حول الحسين وسلكت درب الكفاح الطويل، فقد اصطحب الحسين () معه أخوته وأبناءه وبني أخيه وجل أهل بيته، ولم يغادر الحسين المدينة المنورة حتى زار قبر جده رسول الله () زيارة المودع الذي لا يعود، فقد كان يعلم أن لا لقاء له مع مدينة جده، ولن يزور قبره بعد اليوم، وسيكون اللقاء في مستقر رحمة الله، لن يلقي جده إلا وهو يحمل وسام الشهادة.
وقف الحسين الى جوار القبر الشريف فصلى ركعتين ثم وقف بين يدي جده العظيم محمد () يناجي ربه: (اللهم هذا قبر نبيك محمد () وأنا ابن بنت نبيك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم إني أحب المعروف وأنكر المنكر، وأنا أسألك ياذا الجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه إلا ما اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى).
وهكذا كانت عزيمة الحسين () إصرار ومضاء قرار الرجال، وحزم القائد الذي لا يلين. إتجه ركب الحسين نحو مكة، وسارت الكوكبة الرائدة في طريق الجهاد والشهادة، سار الحسين () ومعه نفر من أهل بيته وأصحابه وبرفقته نساؤه وأبناؤه وأخته زينب الكبرى وهو يقرأ قول الله تعالى: (فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين).
المسافة شاسعة والأرض مديدة ورمال الصحراء توقدها حرارة الشمس اللافحة وقطار الحسين () يخترق قلب الصحراء ويجتاز كثبان الرمال ولوافح الحصى. وهكذا سارت كواكب الفداء وطلائع الجهاد تيمم وجهها شطر البيت الحرام لتنتهي إلى أرض الطفوف كربلاء، إلى مثوى الخالدين ومنار الأحرار، يقودها الحسين سالكاً الدرب الذي اعتاد الناس سلوكه متحدياً السلطة والقوة والمطاردة.
هذا هو الحسين
الفصل الثاني
إن روح الإمام علي () ما زالت تسبح بين جنبيه، وقلب ذاك البطل الشجاع يربض كالجبل في أعماقه.
لقد رحل ابن رسول الله () وهجر مدينة جده () إنه قادم على أمر عظيم، لقد أبى البيعة ورفض الخنوع لسلطة الطاغية يزيد، وما عسى الأمة أن تنتظر؟ ها هي ديار علي والحسين والزهراء قد أمسى عليها ليل الفراق وأحاطتها وحشة البعد والغربة وأمست المدينة موحشة تبكي سيدها الراحل والقلوب يعتصرها الأسى والنفوس يفترسها الألم، وسيغيب الحسين عن سماء المدينة نجم ليس بوسع السماء أن تلمع بمثله، ها هي داره مطفأة الأنوار وها هو بيته الرفيع أمسى خربة مهجورة، لقد كانت بالأمس تعمرها الصلاة وتتعالى في أرجائها أصوات المتهجدين ويرى الناس فيها وديعة رسول الله () وبضعة الزهراء البتول وبقية أهل الكساء، وقد أمست اليوم صوت ناعي يبكي الراحلين وقلب آسي ينعي المغتربين، لقد بقيت الدار هي الأخرى معلماً من معالم الإحتجاج وقلعة من قلاع الصمود. ومن يوم هجرها الحسين () وحتى آخر عهدها يندبها الشعراء ويناجيها الأدباء.
لقد أصبحت الطلول تشكو غياب الحسين () وتندب الراحلين في ظلمة الليل البهيم بصمتها الناطق وسكوتها المعبر وربوعها الخالية وشموخها المهيب، وراح ركب الحسين () يطوي الفلاة ويعد السير حتى بلغ مكة المكرمة ودخل أرض الحرام (ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان دخلها وهو يقرأ قوله تعالى: -(ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني السبيل).
حلّ الحسين () في مهبط الوحي ومدينة السلام مكة المكرمة، فنزل في دار العباس بن عبد المطلب. سرى نبأ قدوم الحسين () إلى مكة وانتشر خبر خروجه من المدينة ورفضه لبيعة الطاغية يزيد، وبدأت الوفود والرسائل تفد عليه من أرجاء شتى، وبدأ يبعث بالكتب والرسل ويدعو للثورة وإسقاط سلطة يزيد وخلع بيعته التي أخذها بالقهر والإرهاب والرشاوي، وبدأ التكتل وعقدت
الإجتماعات في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي، واستبشرت الجماهير بتحرك الحسين () وكان من آثار هذا التحرك أن دبت روح الثورة في العراق مركز الحركة السياسية الموالية لأهل البيت آنذاك.
فقد اجتمع زعماء المعارضة من أنصار الحسين () في الكوفة في بيت سلمان بن صرد الخزاعي واستعرضوا الأوضاع السياسية والإجتماعية وموت الطاغية معاوية بن أبي سفيان وانتقال السلطة إلى الطاغية يزيد. وقرروا نصرة الحسين () والإنضواء تحت قيادته وإعلان الولاء له، فقام سلمان بن صرد الخزاغي فألقى خطاباً في الحاضرين قال فيه:- إن معاوية قد هلك وإن حسينا قد تقبض (أي اشمأز وامتنع عن البيعة)، على القوم بيعته وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدوا عدوه وتقتلوا أنفسكم دونه، فاكتبوا إليه وأعلموه، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه، قالوا لا بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه، قال اكتبوا إليه فكتبوا إليه:- بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليك فإننا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتآمر عليها بغير رضى منها.. إلى آخر الكتاب. وسيروا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال، واستمرت الكتب والرسائل تتوارد على الحسين () وصيحات الإستغاثة تنطلق: (ليس علينا إمام فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والهدى وفي رسائل أخرى (إن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل ثم العجل العجل).
وبعد كل المعلومات التي توفرت لدى الحسين () أصبح العراق هو البلد المرشح للإنطلاق وإعلان الثورة وقيام دولة الإسلام الراشدة.
إنطلق الركب يوم الثامن من ذي الحجة ومضى الحسين () لا يلوي على شئ، فقلبه يحوم حول مصرعه في أرض الميعاد وقطاره يستحث الخطى نحو سرادق الشهادة. واصل المسير وفي
نفسه شوق وتطلع لمعرفة الأوضاع السياسية وطبيعة الرأي العام في العراق، فصادفه الشاعر المعروف (الفرزدق) في موضع (الصفاح) فسأله الحسين () وطلب منه أن يصور له الأوضاع التي خلفها وراءه فوصفها الفرزدق بقوله:-( قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء)، فقال الحسين () صدقت، لله الأمر والله يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته والتقوى سريرته.
سرى نبأ مسير الحسين () فاضطرب الموقف الأموي وشعرت السلطات بالخوف من انقلاب سياسي يطيح بعرش الطاغية يزيد، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد وهو والي يزيد على الكوفة، فأعد جنده ورجاله ووضع خطة لقطع الطريق أمام الحسين () والحيلولة دون وصوله إلى الكوفة، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي وكلفه بتنفيذ المهمة، فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر على طريق مرور الحسين ()، فنزل في (القادسية) واتخذها مقراً لقيادته، ونظم خطاً عسكرياً يمتد من القادسية حتى (خفان)، وآخر يمتد إلى (قطقطانة)، ومد انتشار هذه القوات حتى جبل (لعلع).
أما الحسين () ما زال مجداً في السير، تطوي ظعائنه أبعاد الفلاة ويواصل الزحف نحو العراق حتى بلغ موضعاً يسمى (الحاجر)، ومن هناك كتب كتاباً إلى أهل الكوفة يشحذ فيه هممهم ويحثهم على الثبات والمواجهة ويعلمهم بمسيره وقدومه.
طوى الحسين () وأوفد قيس بن مسهر الصيداوي لهذه المهمة، فانطلق نحو الكوفة يحمل كتاب الحسين () ويبشرهم بقدوم القائد المغوار، إلا أنه وقع أسيراً بيد قوات الحصين المنتشرة في القادسية، فنقل إلى عبد الله بن زياد. طلب منه أن يصعد المنبر ويسب الحسين () وكان جريئاً وبطولته نادرة، فصعد المنبر وحث الناس على نصرة الحسين ()، ولعن بن زياد وآبائه واستغفر لعلي فاستشاط ابن زياد غضباً وطلب من جلاوزته أن يصعدورا به إلى أعلى القصر ويرموه إلى الأرض. وألقي به من فوق قصر الامارة وتقطع جسده الطاهر واستشهد رضوان الله عليه. ووصل خبر أسر الرسول واستشهاده للحسين () في موضع يدعى (زبالة).
وهكذا راحت تتوارد على الحسين () أنباء الإنتكاسة وتلوح له بوادر الإنعطاف الخطير، وشعر بالخذلان ونقض العهود.
إستقر الحسين () تلك اليلة في منطقه يقال لها (زبالة)، وهو ينعي مسلم وهاني وعبد الله بن يقطر، ويقلب الأمور في مستقبل الحركة ومصير الأمة.
وحين أذن الصباح بالإفصاح تحركت القافلة الحسينية وواصل المسير ماراً (ببطن العقبة) عبر مسالك الصحراء الوعرة والمستقبل البهيم يرتسم أمامه والثقة بالله تملأ جوانحه، وتابع المسير حتى بلغ موقع يقال له (شراف)، وفي الطريق فوجئ الحسين () وأصحابه مع قلة العدد وعدم التهيأ للقتال وانكشاف الأرض بهذا الجيش الكثيف الزاحف نحوهم من القادسية، فاستشار أصحابه وسألهم أما لنا ملجأ نلجأ إليه في ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد؟ فأشاروا عليه بالإتجاه إلى جبل (ذو حسم) والتحصن به.
هذا هو الحسين
الفصل الثالث
فاتجه الحسين () هو وأصحابه إلى الجبل، وعسكر العدو المتشكل من ألف مقاتل يزحف نحوهم بسرعة وبقيادة الحر بن يزيد الرياحي، فراح الحر يضايق الحسين () ويسابقه لاحتلال الموقع الإستراتيجي من الجبل فسبقه الحسين () إلى الموقع وأمر بخيامه فضربت. كان الوقت ظهراً والحر شديداً وجيش الحر يكتوي بحر الظهيرة وخيوله تلهث من العطش ورجاله تتلوى من الضمأ، نظر الحسين () إليهم بأخلاق النبوة التي عامل بها رسول الله () أهل مكة يوم الفتح والنصر، وبروح العطف التي
تربى عليها في بيت الإمامة فحنى على هذا الجيش الذي جاء لمحاصرته بقلبه الكبير وشملهم بشعوره الإنساني النبيل وأمر أصحابه بسقي الخيل والرجال بل وشارك هو بنفسه بتقديم الماء وإرواء بعض العطاشى المتلهفين.
كان وقت صلاة الظهر قد حان وآن للحسين () أن يعرج بصلاته إلى الملكوت الأعلى، ما أن انتهى المؤذن حتى قام الحسين خطيباً بين المعسكرين موضحاً للحر والجند الذين كانوا معه رأيه ومبادئه، ثم طالبهم بالوفاء بالعهود والمواثيق وذكر لهم الكتب والرسل التي أرسلوها إليه فسكت الجميع ولم يردوا على الخطاب.
يئس الحر من الحسين () وتنحى عنه فسار الحسين () حتى انتهى إلى (غذيب الهجانات) ثم استمر حتى وصل إلى موقع (قصر بني مقاتل) فنزل به، وفي ساعة متأخرة من الليل أمر فتيانه بالتزود بالماء والبدء بالرحيل وامتطى الحسين () جواده وقد أخذ السهر والإعياء منه مأخذاً فغشيه النوم لحظة ثم انتبه وهو يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين)، فقال له إبنه علي بن الحسين () مم حمدت الله واسترجعت؟ فقال: يا بني إني خفقت خفقة فعن لي فارس على فرسه وهو يقول: (القوم يسيرون والمنايا تصير اليهم).
واخترقت خيوط النور إهاب الليل البهيم وبدأ وجه الصباح الملئ بالأسرار والمفاجآت حتى انتهى إلى موقع يدعى (نينوى).
فوجئ الحر برسول عبيد الله بن زياد يحمل رسالة شديدة اللهجة موجهة للحر بن يزيد الرياحي يقول فيها: (أما بعد فجعجع بالحسين () فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بانفاذك أمري والسلام).
توجه الحر إلى الحسين () فقرأه عليه وأطلعه على رأي عبيد الله بن زياد فقال له الحسين () إذاً دعنا ننزل (نينوى) أو(الغاضريات) أو (شفية). رفض الحر طلب الحسين () وتذرع بالخوف من عناصر الإستخبارت والرقابة في الجيش، ثم بادر زهير بن القين واقترح النزول في منطقة قريبة تدعى (العقر)،
فرفض الحسين () ذلك وأصر على مواصلة المسير ليرد أرض الميعاد وليحط رحله حول سرادق الشهادة في أرض كربلاء.
ثم قام الحسين () خطيباً: (إنه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ولم تبقي منها إلا صبابة الأناء وخسيس كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما.
وهكذا قاد القدر المسيرة وأخذ القضاء بزمام الركب حيث الموعد والمثوى، فسار ولم يقطع مسافات طويلة حتى اعترضه الجيش الأموي واضطره للنزول. توقف الحسين () وراح يسأل وكأنه يبحث عن (كربلاء) ما إسم هذه الأرض؟ فقيل له (الطف)، فقال هل لها إسم غير هذا؟، قيل إسمها كربلاء، فقال: (اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء انزلوا، ها هنا محط رحالنا ومسفك دمائنا وها هنا محل قبورنا، بهذا حدثني جدي رسول الله ().
راحت الجيوش تتوالى، وراح عبيد الله بن زياد يبعث بقواته المسلحة بشتى صنوفها، وكان من أبرز الذين انتدبهم لتنفيذ الجريمة ومقاتلة الحسين () هو عمر بن سعد، وقد سُمِعَ يقول ويردد الشعر
أأتـرك مُـلك الـري والري رغبة أم أرجع مذموماً بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها حجاب ومُلك الري قرة عيني
واتجه نحو الحسين () وهو يقود أربعة آلاف مقاتل، فاتخذ من نينوى مقراً لقواته، وحرك عمر بن سعد جيوشه وفرسانه في السابع من محرم لتطويق الحسين () من جانب الفرات والحيلولة بين آل الرسول وبين الماء ليموتوا عطشاً أو يضطروا للتسليم كجزء من خطة الحرب والحصار.
إبتدأ الزحف الآثم عصر يوم الخميس التاسع من شهر محرم الحرام، وراحوا يلوحون بالسيوف والرماح والحسين () جالس أمام فسطاطه ينظر في صحراء الطف ويجول في آفاق الحدث الكبير ويرقب جولة الباطل وحميمة الشيطان، وترتسم أمامه لوحة
المشهد وتصور فصول المعركة والشهادة فيراها كوكباً تألّق في سماء التاريخ وحركة لا تهدأ في ضمير الأحرار.
لم يكن الحسين () ملتفتاً إلى جموع جيش عمر بن سعد، وها هي الجيوش تحيط بظعن الحسين () والنساء والصبية من آل الرسول () يرقبون المحنة بقلوب حرى ونفوس واجفة والحسين () يتحرك حول المخيم ويخطط لحماية الأطفال والنساء من غارات الجيش المتحفز بروح الحقد والكراهية للإجهاز على هذه الكوكبة النيرة وإطفاء نورها من أفق الإسلام.
وقبيل المغيب وقف الحسين في أصحابه وأهل بيته () خطيباً ليخبرهم أن القوم لا يريدون قتل غيره، وبوسع كل واحد أن ينسحب تحت جنح الظلام وينجو من القتل، فرفض الجميع ذلك وأصروا على القتال والفداء.
جن الليل وأرخى الصمت سدوله وهدأ الطير ونامت جفون الخلائق كلها إلا آل محمد (). باتوا ليلتهم بين داعٍ ومصلٍ وتالٍ للقرأن ومستغفرٍ وبين مودعٍ وموصيٍ بأهله وأبنائه ونسائه، فكان لهم دوي كدوي النحل وحركة واستعداداً للقاء الله سبحانه وتعالى، يصلحون سيوفهم ويهيئون رماحهم، فباتوا تلك الليلة ضيوفاً في أحضان كربلاء وبات التاريخ أرِقاً ينتظر الحدث الكبير، وباتت سيوفهم ورماحهم أقلاماً تتهيأ لتخط في صفحات التاريخ بمداد الدم المقدس أروع فصل كتب في عمر الإنسان. قد أحاطت بهم الخيل والليل والغربة والجيش الذي راح يتكاثر ويجتمع، الألف بعد الأف والمئة بعد المئة حتى أمسى جيشاً عرمرماً.
انقطعت ليلة الهدنة وطلع ذلك اليوم ورؤوس الأسنة والرماح والأحقاد وهي مشرعة لتلتهم جسد الحسين الطاهر ()
عبأ عمر بن سعد رجاله وفرسانه فوضع على ميمنة الجيش عمر بن الحجاج وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن وعلى الخيل عروة بن قيس وعلى الرجالة شبث بن ربعي وأعطى الراية دريداً مولاه.
نظر الحسين () إلى الجيش الزاحف وتأمل به طويلاً، ولم يزل الحسين () كالطود الشامخ قد اطمأنت نفسه وهانت دنيا الباطل
في عينه وتصاغر الجيش أمامه فكان وأصحابه كما قال الشاعر فيهم:
لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا يتهافتون على ذهاب الأنفس
فلم ترهبه كثرة الجيوش ولم توهن عزيمته كثافة الصفاح والأسنة، بل استشرق من عليائه الروحي المتعال ورفع يدي الضراعة والإبتهال إلى الله سبحانه وراح يناجي:- (اللهم أنت ثقتي في كل كرب، وأنت رجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر، نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك عمن سواك ففرجته عني وكشفته فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة).
وهكذا استغرق الحسين () في لحظة مناجاة وموقف روحي أخاذ والجيوش تقترب والجند تجول الميدان والحسين () قد حصن مخيمه وأحاط ظهره بخندق أوقد فيه النار ليمنع المباغتة والإلتفاف من الخلف وليحمي النساء والأطفال من العدوان المحققز
طلب الحسين () من جيش يزيد بن معاوية أن ينصتوا لكي يكلمهم إلا أنهم أبو ذلك وعلا ضجيجهم ولغطهم، إلا أنهم في النهاية سكتوا فخطب فيهم الحسين () معاتباً لهم على دعوتهم له وتخاذلهم، كما حدثهم بما سيقع لهم بعد قتله على أيدي الظالمين من ولاة بني أمية، عهدٌ إليه من جده () وأبيه ()، وهو ما تحقق فعلاً، وخص قائد الجيش عمر بن سعد الذي كان الطاغية يزيد يُمنـِّيه بجعله والياً على بلاد الري وجرجان بأن حلمه ذاك لن يتحقق وأنه سوف يقتل ويرفع رأسه على الرمح. ثم قال عليه السلام:- تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أفحين استصرختمونا ولهين متحيرين فأصرخناكم مؤدين مستعدين، سللتم علينا سيفاً لنا في إيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوكم وعدونا فأصبحتم إلباً على أوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم إلا الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيش طمعتم فيه من غير حدث كان منا ولا رأي تفيل فهلا لكم الويلات إذ كرهتموها تركتمونا فتجهزتموها والسيف لم يشهر والجأش
طامن والرأي لم يستحصف ولكن أسرعتم علينا كطيرة الدبا إلى آخر خطبته… ألا لعنة الله على القوم الناكثين الذين ينقضون الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، فأنتم والله هم، إلا أن الدعي ابن الدعي قد ركزه بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن توثر طاعة اللئام علىمصارع الكرام ألا واني زاحف بهذه الاسرة مع قلة العدد وخذلان الناصر .
ثم أنشد أبيات فروة بن مسيك:
فان نهزم فهزامون قدما *** وإن نغلب فغير مغلبينا
وما إن طبنا جبن ولكن *** منايانا ودولة اخرينا
إذا ماالموت رفع عن اناس* كلا كله أناخ باخرين
فأفنى ذلكم سرواة قومي ** كما أفنى القرون الآولينا
فلو خلد الملوك إذن خلدنا * ولو بقي الكرام اذن بيقينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا *** سيلقى الشامتون كما لقينا
هذا هو الحسين
الفصل الرابع
عاد الحسين () على ظهر فرسه ووقف أمام الجيش وخاطبهم: (أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي ألست ابن بنت نبيكم () وابن وصيه وابن عمه؟ إلى آخر الخطبة… فقال له شمر ابن ذي الجوشن إن كان يدري ماتقول، فقال حبيب ابن مظاهر للشمر: والله إني لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً وأنا أشهد إنك من الصادقين، ما تدري ما يقول قد طبع الله على قلبك.
ثم قال الحسين () فإن كنتم في شك من هذا القول أو تشكون في أني غير ابن بنت نبيكم، فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة، أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مال لكم استهلكته أو بقصاص من
جراحة؟. فلم يستجب له أحد، ثم خاطبهم: أما ترون سيف رسول الله () ولامة حربه وعمامة علي؟ قالوا نعم، فقال لم تقتلوني؟ فلم يجيبوا إلا بجواب الأمعة الذي لا يملك رأياً ولا إرادة ولا يميز بين التبعية العمياء والطاعة القائمة على وعي وفهم سليم، أجابوا: طاعة للأمير عبيد الله بن زياد.
ثم قال الحسين (): (أما والله لا تلبثون إلا كريثما يركب الفرس، حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور عهد عهده إلي أبي عن جدي رسول الله () فأجمعوا أمركم وشركائكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم).
كل ذلك وعمر بن سعد مصر على قتال الحسين ()، والحسين () يحاور وينصح ويدفع القوم بالتي هي أحسن، ولما لم يجد نصح ولم ينفع حوار قال الحسين () لابن سعد: أي عمر أتزعم تقتلني ويوليك الدعي بلاد الري وجرجان على مصارع الكرام ألا وإني زاحف بهذي الأسرة على قلة العدد، والله لا تهنأ بذلك عهده معهود، فاصنع ما أنت صانع فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة وكأني برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضا بينهم.
استحوذ الشيطان على ابن سعد ونادى حامل الراية: (يا دريد إدن رايتك فأدناها ثم وضع سهمه في كبد قوسه ثم رمى فقال:اشهدو أني أول من رمى ثم ارتمى الناس وتبارزوا).
وهكذا أضرم ابن سعد نار الحرب ووجه سهامه نحو مخيم آل الرسول () فتبعه جنده ورماته يمطرون الحسين () وأصحابه بوابل من السهام حتى لم يبقى أحد من أصحاب الحسين () إلا وأصابه سهم. عظم الموقف على الحسين () ثم خاطب أصحابه: (قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بد منه فإن هذه السهام رسل القوم إليكم)، أمام جيش عرمرم عدته تبلغ الألوف ومع هذا الفارق في العدد والعدة فإن أحداً لم يتراجع من رجال الحسين ()، ولم ينكص أمامهم شاب ولا غلام، فاستجابوا للنفير ولبوا النداء
وانطلقوا كالأسود الضواري يلتحمون مع العدو بكل ما أوتو من قوة وبأس فاشتد القتال وحمى الوطيس ودارت رحى الحرب وغطى الغبار أرجاء الميدان واستمر القتال ساعة من النهار فما انجلت الغبرة ولا انجاب الإلتحام عن خمسين صريعاً من أصحاب الحسين ().
ثم نادى بعض أصحاب عمر بن سعد بالبراز فتواثب أصحاب الحسين (): حبيب بن مظاهر وبرير وعبد الله بن عمير الكلبي يطلبون الإذن من الحسين () ويتسابقون للشهادة، فانتدب الحسين () عبد الله بن عمير للبراز ليصول في ميدان الشرف والجهاد وراح عبد الله ينازل الخصوم ويقارع الأقران ويصول في ميدان الجهاد. نظرت إليه أم وهب زوجته وجراحات يده اليسرى تسيل وتنزف دماً، فهالها الموقف واستنفر الغضب عزيمتها فحملت عمود الخيمة واتجهت نحو الميدان وأقبلت نحو زوجها تقول له فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد () فأقبل إليها يردها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه ثم قالت: إني لن أدعك دون أن أموت معك، فناداها الحسين () فقال جزيتم عن أهل بيت نبيكم خيراً إرجعي إلى الخيمة فليس على النساء القتالز
استمرت رحى الحرب تدور في ميدان كربلاء وشلال الدم المقدس يجري ليتخذ طريقه عبر نهر الخلود، وأصحاب الحسين () يتساقطون الواحد تلو الآخر وقد أرهقوا جيش العدو وأثخنوه بالجراح فتصايح رجال عمر بن سعد لو استمرت الحرب برازاً بيننا وبينهم لأتوا على آخرنا، لنهجم مرة واحدة ولنرشقهم بالنبال والحجارة. تقدمت وحدات من الجيش الأموي يقودها عمر بن الحجاج وهاجمت ميمنة الحسين () فاستعمل أصحاب الحسين () أسلوباً عسكرياً رائعاً، حيث جثوا على ركبهم وأشرعوا الرماح فخافت الخيل وتراجعت بفرسانها. إستغل أصحاب الحسين () إدبار الخيل ورجوعها فأطلقوا نبالهم يصطادون بها الحملة الظالمة.
عاود الجيش الأموي الحملة فقاد شمر بن ذي جوشن قطعات من عسكره وهاجم ميسرة الحسين () ودارت معركة طاحنة استطاع
الرجال الذين بقوا مع الحسين () من صد الهجوم ورد الشمر على أعقابه، وقد أبلى فيها عبد الله بن عمير الكلبي بلاءً حسناً وأبدى بسالة نادرة فقتل تسعة عشر فارساً وإثنا عشر راجلاً، فسقط جريحاً ثم أسر وقتل صبراً، ولم تحتمل أم وهب قتل زوجها وفراق الرجل المقدام فاتجهت إلى ساحة المعركة وراحت تحنو على الجسد المسجى بقلبها المثكول وغربتها المفجعة وتمسح الدم عن الرأس الحر الأبي وهي تقول: هنياً لك الجنة. نظر الشمر إلى صلابتها وتحديها فاستعظم موقفها وأمر غلاماً له بقتلها، نفذ العبد أمر سيده واتجه يحمل عموداً من حديد فضرب أم وهب على رأسها فسقطت شهيدة تسبح بدم الشهادة وتعانق روحها روح الزوج الحبيب فاقتطع القتلة رأسها ورموا به نحو مخيم الحسين ().
إستمر الهجوم والزحف نحو من بقي مع الحسين () وأحاطوا بهم من جهات متعددة فتعالت أصوات ابن سعد ونداءاته إلى جيشه وقد دخل المعسكر يقتل وينهب (( أحرقوا الخيام ))، فضجت النساء وتصارخ الأطفال وعلا الضجيج وراحت ألسنة النار تلتهم المخيم وسكانه يفرون فزعين مرعوبين.
ها هو الجيش الأموي يهاجم مخيم آل الرسول وقد زالت الشمس وحضر وقت الصلاة وليس معقولاً أن يغيب الحسين () عن الوقوف بين يدي الله يوحده ويسبحه ويناجيه وها هو يستعين بالصبر والصلاة ويشده الشوق والحب الإلهي المقدس فينادي للصلاة وقد تحول الميدان عنده محرابا للجهاد والعبادة وليس بوسع الأسنة والسيوف أن تحول بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة والعروج إلى حظائر القدس وعوالم الجلال والحرب لم تضع أوزارها، فراح من بقي من أصحاب الحسين () وأهل بيته () ينازلون الأعداء ويستشهدون الواحد تلو الآخر: ولده علي الأكبر، أخوته عبد الله، عثمان، جعفر، محمد، أبناء أخيه الحسن () أبو بكر، القاسم، الحسن المثنى، إبن أخته زينب (): عون بن عبد الله بن جعفر الطيار، آل عقيل:عبد الله بن مسلم، عبد الرحمن بن عقيل، جعفر بن عقيل، محمد بن مسلم بن عقيل، عبد الله بن عقيل، أولئك الأبطال الأشاوس من آل عقيل وآل علي بن أبي طالب،
مجزرين كالأضاحي يتناثرون في أرض المعركة تناثر النجوم في سماء الخريف.
وقف الحسين () بينهم ينادي وقد أيقن باللحوق بهم والإجتماع معهم تحت سرادق الرحمة مع الشهداء والصديقين والنبيين بعد أن حز في نفسه عويل النساء وصراخ الأطفال ولوعة اليتامى والأرامل من آل محمد () ومن رافقهم في رحلة الشهادة والخلود وقف ينادي: هل من ذابٍ عن حرم رسول الله؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟.
فلم يجبه غير صراخ النسوة وعويل الأطفال وضجيجهم المروع. لم يبق أمام الحسين () إلا أن ينازل القوم بنفسه ويدخل المعركة مبارزاً بفروسيته وشجاعته، وقلبه يفيض حباً وحناناً وخوفاً على أهله وحرمه وحرم الأنصار وأيتام الشهداء، وقد أيقن أنه لن يعود بعد هذه الحملة، فحامت عواطف الحب الأبوي حول ولده الرضيع عبد الله فشده الشوق ووقف على باب الخيمة ينادي أخته زينب () ويطلب منها أن تحمل إليه ولده عبد الله الرضيع ليطبع على شفته القبلة الأخيرة ويلقي عليه نظرة الوداع، فجائت به عمته زينب () تحمله فرفعه الحسين () ليعانقه ويقبل شفتيه الذابلتين فسبقه سهم من معسكر الأعداء إلى نحر الطفل الرضيع وحال بينه وبين الحياة فراح يفحص رغام الموت بقدميه ويسبح في مسرب الدم البريء ويكتب بذلك الدم المقدس أروع قصيدة في ديوان المآسي ويخاطب ضمير الإنسان عبر أجيال التاريخ بتلك الظليمة والفاجعة التي رزيء بها آل الرسول محمد () في يوم عاشوراء.
ما عسى أن يفعل الحسين () وكيف يمكن أن يتصرف، أب مفجوع وقد سالت بين يديه دماء طفل رضيع برئ يناغي السماء ويملأ أحضان أبيه بالبشر والإبتسامة. وقف الحسين () كالطود الأشم لم يضعف ولم يتزعزع بل راح يجمع الدم بكفيه ويرفعه شاكياً إلى الله باعثاً به نحو السماء مناجياً: (هوّن علي ما نزل به أنه بعين الله). وهكذا بدأ شلال الدم ينحدر على أرض كربلاء وسُحُبُ المأساة تتجمع في آفاقها الكئيبة وصيحات العطش والرعب تتعالى من حول الحسين () وتنبعث من حناجر النساء والأطفال.
ركب الحسين جواده يتقدمه أخوه العباس () بن علي بن ابي طالب () حامل اللواء، وتوجه العباس () نحو الفرات ليحمل الماء إلى القلوب الحرى والأكباد الملتهبة من آل محمد ()، والروايات التاريخية تشير إلى أنه عندما صال العباس () على جيش الأعداء الذين يحولون بين آل الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين) والماء انشقت أمامه الجيوش وانكشفت المشرعه بعد أن انشغل الأعداء والمارقين بالتطلع إلى بهاء طلعته وجمال وجهه الذي منحه لقب (قمر بني هاشم) إضافة إلى ضخامة جسده الطاهر وشجاعته الفائقة حيث كان إذا ركب الفرس خطت قدماه في الأرض، فحالت جموع من العسكر دونه اقتطعوا العباس () عن الفارس والبطل وحامل اللواء، فغدا الحسين () بجانب والعباس بجانب آخر، وكانت للبطل الشجاع قمر العشيرة قمر بني هاشم أبي الفضل العباس صولة ومعركة حامية طارت فيها الرؤس وتساقطت فرسان وهو يصول في ميدان الجهاد حتى وقع صريعاً يسبح بدم الشهادة، واستشهد العباس () وعمره الشريف كان (34) سنة ليثبت لواء الحسين الذي حمله يوم عاشوراء في أرض كربلاء خفاقاً إلى الأبد لا تبليه الأيام والسنين ولا تطأطئ هامته دول الطغاة.
وهكذا امتلأ الميدان بالصرعى والشهداء من آل الرسول الله () والفئة الثائرة التي كتبت بدمائها الزكية ملحمة الخلود والكفاح واختطت للأجيال طريق الثورة والجهاد نظر الحسين () إلى ما حوله، مد ببصره إلى أقصى الميدان فلم ير أحداً من أصحابه وأهل بيته إلا وهو يسبح بدم الشهادة مقطوع الأوصال. إذاً ها هو الحسين () وحده يحمل سيف رسول الله ()، وبين جنبيه قلب البطل الشجاع علي بن ابي طالب () وبيده راية الحق وعلى لسانه كلمة التقوى، وقف أمام هذا الجموع التي أوغلت في الجريمة واستحوذ عليها الشيطان ولم تفكر إلا بقتل الحسين والتمثيل بجسده الطاهر، إذ هذا هو اليوم الموعود الذي أخبر به رسول الله ()، وتلك هي تربته التي بشر بها من قبل. حمل الحسين () سيفه وراح يرفع صوته على عادة الحرب ونظامها بالبراز وراح ينازل فرسانهم
ويواجه ضرباتهم بعنف وشجاعة فذة، ما برز إليه خصم إلا وركع تحت سيفه ركوع الذل والهزيمة إذ قال الراوي فوالله ما رأيت مكثوراً قط قتل ولده وأهل بيته وصحبه أربط جأشا منه ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً.
ولقد كانت الرجال تشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب. ولقد كان يحمل عليهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
وبهذا الصدد: فقد قيل لرجل شَهدَ يوم الطفِّ مع عمر بن سعد: وَيحك، أقَتَلتُم ذُرِّيَّة رَسولِ الله!! (صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين).
فاندفع قائلاً: عَضَضْت بالجندل، إنك لو شهدتَ ما شهدنا، ثارت علينا عِصابةٌ، أيديها في مَقابِض سيوفِها كالأُسُود الضارِية، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، وتُلقي أنفسَها على الموت، لا تقبلُ الأمانَ، ولا تَرغبُ في المال، ولا يحولُ حائِلٌ بينها وبين الوُرودِ على حِياضِ المَنِيَّة، والاستيلاءِ على المُلك، فَلَو كَفَفْنَا عنها رُوَيداً لأتَتْ على نفوس العسكر بِحذافيرِه، فَما كُنَّا فاعِلين؟!! لا أُمَّ لك.
لم يشهد التاريخ في جميع مراحله أشجع، ولا أربَطُ جأشاً، ولا أقوى جناناً من الحسين، فقد وقف () يوم الطف موقفاً حيَّر فيه الألباب، وأذهل فيه العقول ، وأخذت الأجيال تتحدثُ بإعجاب وإكبارٍ عَن بَسَالَتِه ، وصَلابة عَزمه () وقد بُهِر أعداؤه بِقوَّة بَأسه وشجاعتة الفائقه.
هجمت قوات عمر بن سعد على الحسين () وطوقته وحالت بينه وبين أهله وحرمه فصاح بهم: ( أنا الذي أقاتلكم والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حياً، ويلكم إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا أحراراً ذوي أحساب إمنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم). قال بن ذي جوشن ذلك لك يا ابن فاطمة.
إستمر الهجوم عنيفاً والحسين () في بحر الجيش العرمرم، حتى سدد أحد جنود الأعداء سهماً نحو شخصه الشريف فاستقر السهم في نحره، وراحت ضربات الرماح والسيوف تمطر جسد الحسين الطاهر () حتى لم يستطيع مقاومة الألم والنزيف، وقف الحسين يستريح ساعة وقد ضعف عن القتال، فبيننا هو واقف إذ أتاه حجر فوقع على جبهته الشريفه ، فأخذ الثوب ليمسح الدم فأتاه سهم مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبه، فقال: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي أنت تعلم أنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره، ثم أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره، فانبعث الدم كالميزراب، فضعف عن القتال ووقف، فكلما أتاه رجل انصرف عنه، كراهة أن يلقى الله بدمه حتى جاء رجل من كندة يقال له مالك بن النسر لعنه الله ، فشتم الحسين () وضربه على رأسه الشريف بالسيف فقطع البرنس، ووصل السيف إلى رأسه فامتلأ البرنس دماً، قال: فاستدعى الحسين () بخرقة فشدّ بها على رأسه واستدعى بقلنسوة فلبسها واعتم عليها فلبثوا هنيئة ثم عادوا إليه وأحاطوا به فخرج عبد الله بن الحسن بن علي وهو غلام لم يراهق من عند النساء فلحقته زينب بنت علي لتحبسه فأبى وامتنع امتناعاً شديداً وقال: لا والله لا أفارق عمي فأهوى أبحر بن كعب وقيل حرملة بن كاهل إلى الحسين () بالسيف فقال له الغلام: ويلك يا بن الخبيثة أتقتل عمي؟ فضربه بالسيف، فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلى الجلد، فإذا هي معلقة فنادى الغلام: يا عمتاه فأخذه الحسين () وضمه إليه وقال: يا بن أخي اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين، فرماه الملعون حرملة بن كاهل بسهم، فذبحه وهو في حجر عمه الحسين(). قال الراوي: ولما أثخن الحسين () بالجراح طعنه صالح بن وهب على خاصرته طعنة، فسقط الحسين () عن فرسه إلى الأرض على خده الأيمن، وهو يقول: بسم الله وعلى ملة رسول الله، جعل جواده يدور حوله ويأخذ عنانه بأسنانه ويضعه بيد الحسين () مشيراً إليه بالقيام.
فلما رأى الجواد أن الحسين لا قابلية له على النهوض ، خضَّب ناصيته بدمه ثم أقبل نحو المخيم يحمحم ويصهل صهيلاً عالياً يقول: الظليمة الظليمة لأمةٍ قتلت ابن بنت نبيها ، ما ان وصل الجواد إلى المخيم خرجن بنات رسول الله لاستقباله وقد ظنن بأن الحسين () عاد مرة ثانية ، خرجن بنات رسول الله وبينهن الحواء زينب بنت علي ابن ابي طالب () ، نظرن وإذ بالجواد خالٍ من راكبه ، وكأني بزينب () خرجت من باب الفسطاط وهي تنادي:
وا أخاه وا سيداه، وا أهل بيتاه، ليت السماء أطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل، قال: وصاح شمر لعنه الله بأصحابه: ما تنظرون بالرجل، قال: فحملوا عليه من كل جانب وقد استحالت صفحات جسده الطاهر كتاباً قد خطت عليه الجراح والآلام بمداد الدم أروع ملاحم التاريخ وكتبت أقدس مواقف البطولة والشرف، فكان الجرح في جسده أروع حرف يكتب في سطر الخلود، قرأت تلك الحروف الجراح فكانت سبعاً وستين حرفاً تروي بصمتها الناطق قصة الكفاح والجهاد وتدون بعمقها المتأصل فصول الأسى والظليمة (كان عدد جراح الحسين ثلاثاً وثلاثين طعنة رمح وأربعاً وثلاثين ضربة سيف كما جاء في الطبري تاريخ الملوك ج4ص 344- 346).
عانق الحسين (عليه افضل الصلات و السلام) صعيد الطفوف واسترسل جسده الطاهر ممتداً على بطاح كربلاء لينصب من حوله مشعل الحرية والكفاح ويجري من شريان عنقه شلال الدم المقدس.ألا إن روح الوحشية التي ملأت جوانح الجناة لم تكتف بذلك ولم تستفرغ أحقادها في حدود هذا الموقف بل راح شمر بن ذي جوشن يحمل سيف الجريمة الوحشية ويتجه نحو الحسين () ليقطع غصناً من شجرة النبوة وليثكل الزهراء بأعز أبنائها، ليفصل الرأس عن الجسد ويحمله هدية للطغاة، الرأس الذي طالما سجد مخلصاً لله وحمل اللسان الذي ما فتئ يردد ذكر الله، الرأس الذي حمل العز والإباء ورفض أن ينحني للطغاة أو يطأطئ جبهته للظالمين، فأكب الحسين () على وجهه وراح يحتز رأسه
الشريف ويحول بينه وبين الجسد الطاهر، ثم أمر قائد الجيش عمر بن سعد من الفرسان أن يطأوا بحوافر خيولهم صدر الحسين الشريف () وظهره فداسوا الحسين () حتى رضوا ظهره وصدره.
واستشهد الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) وكان ذلك يوم الجمعة من عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة وله من العمر (56) سنة وخمسة أشهر.
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون
قد قال بولس سلامة شاعر لبناني في هذا الموقف:
سيكون الدم الزكي لواءاً **** لشعوب تحاول استقلا
سوف تبكي على الحسين البواكي** ويرى كل محـجـر شلالا
ليت شعري لم البكاء *****وذاك اليوم عيد يشرف الأجيالا
مأتم القاتلين لا مأتم القتلى****يسيرون للخلود عجالا
أحداث ما بعد استشهاد الامام الحسين ()
من مصادر السنة
الفصل الخامس
مطرت السماء يوم شهادة الحسين دما، فأصبح الناس وكل شيء لهم مليء دماً، وبقي أثره في الثياب مدة حتى تقطعت، وأن هذه الحمرة التي تُرى في السماء ظهرت يوم قتله ولم تُر قبله:
ذخائر العقبى 144-145-150، تاريخ دمشق 4/339، الصواعق المحرقة 116 و 192، الخصائص الكبرى 126، ينابيع المودة للحمويني 320 و 356، تذكرة الخواص.
لما قتل الحسين مكث الناس سبعة أيام إذا صلوا العصر نظروا إلى الشمس على أطراف الحيطان كأنها الملاحف المعصفرة من شدة حمرتها، ونظروا إلى الكواكب تضرب بعضها بعضا:
المعجم الكبير 146، سير أعلام النبلاء 3/210، تاريخ الخلفاء 80، الصواعق المحرقة 192، احقاق الحق 11/465 – 466، اسعاف الراغبين 251.
لما قتل الحسين مكث الناس شهرين أو ثلاثة كأنما لطّخت الحيطان بالدم من صلاة الفجر إلى غروب الشمس:
تذكرة الخواص 284، الكامل في التاريخ 3/301، البداية والنهاية 8/171، أخبار الدول 109، إحقاق الحق 11/466، 467.
لم تكن في السماء حمرة حتى قتل الحسين، ولم تطمث امرأة بالروم أربعة أشهر إلا وأصابها وضح، فكتب ملك الروم إلى ملك العرب : قتلتم نبيا أو ابن نبي:
المعجم الكبير : 146، مقتل الحسين 2/90، تاريخ دمشق 4/339، سير أعلام النبلاء 3/211، الصاعق المحرقة 19، مجمع الزوائد 9/197، منتخب كنز العمال – بهامش المسند 5/112، ينابيع المودة 322 و 356، إحقاق الحق 11/471 – 473.
لم تبكِ السماء إلا على اثنين : يحيى ابن زكريا، والحسين، وبكاء السماء : أن تحمر وتصير وردة كالدهان:
تاريخ دمشق 4/339، كفاية الطالب 289، سير أعلام النبلاء 3/210، تذكرة الخواص : 283، الصواعق المحرقة192، ينابيع المودة 322، تفسير القرآن لابن كثير 9/162، إحقاق الحق 11/476-
قالو في الإمام الحسين عليه السلام
إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً.
( الرسول الأعظم) محمد صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين )
لقد طالعت بدقة حياة الإمام الحسين، شهيد الإسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء وإتضح لي أن الهند إذا أرادت إحراز النصر، فلابد لها من إقتفاء سيرة الإمام الحسين.
غاندي، محرر الهند
إن كان الإمام الحسين قد حارب من أجل أهداف دنيوية، فإنني لاأدرك لماذا إصطحب معه النساء والصبية والأطفال؟ إذن فالعقل يحكم أنه ضحى فقط لأجل الإسلام.
جارلس ديكنز، الكاتب الإنجليزي المعروف
على الرغم من ان القساوسة لدينا يؤثرون على مشاعر الناس عبر ذكر مصائب المسيح الا انك لاتجد لدى اتباع المسيح ذلك الحماس والانفعال الذي تجده لدى اتباع الحسين عليه السلام. ويبدو ان سبب ذلك يعود إلى ان مصائب الحسين عليه السلام لاتمثل الا قشّة امام طود عظيم.
توماس ماساريك
يقال في مجالس العزاء ان الحسين ضحى بنفسه لصيانة شرف وأعراض الناس، ولحفظ حرمة الإسلام ولم يرضخ لتسلط ونزوات
يزيد، اذن تعالوا نتخذه لنا قدوة، لنتخلص من نير الإستعمار، وأن نفضل الموت الكريم على الحياة الذليلة.
موريس دو كابري
حينما جنّد يزيد الناس لقتل الحسين وأراقه الدماء، كانوا يقولون: كم تدفع لنا من المال؟ أما أنصار الحسين فكانوا يقولون لو أننا نقتل سبعين مرة، فإننا على إستعداد لأن نقاتل بين يديك ونقتل مرة أخرى أيضا.
جورج جرداق، العالم والأديب المسيحي
حقاً ان الشجاعة والبطولة التي ابدتها هذه الفئة القليلة، كانت على درجة بحيث دفعت كل من سمعها إلى اطرائها والثناء عليها لاإراديا. هذه الفئة الشجاعة الشريفة جعلت لنفسها صيتاً عالياً وخالداً لازوال له إلى الأبد.
السير برسي سايكوس، المستشرق الإنجليزي
لو كان الحسين منا لنشرنا له في كل ارض راية، ولأقمنا له في كل ارض منبر، ولدعونا الناس إلى المسيحية بإسم الحسين.
انطوان بارا، مسيحي
هذه التضحيات الكبرى من قبيل الشهادة الإمام الحسين () رفعت مستوى الفكر البشري، وخليق بهذه الذكرى أن تبقى إلى الأبد وتذكر على الدوام.
تاملاس توندون، الهندوسي والرئيس السابق للمؤتمر الوطني الهندي
وهل ثمة قلب لا يغشاه الحزن والألم حين يسمع حديثا عن كربلاء؟ وحتى غير المسلمين لا يسعهم انكار طهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلها.
ادوار دبراون، المستشرق الإنجليزي
سيرة الحسين مبادئ ومثل وثورة أعظم من حصرها ضمن الأطر التي حصرت بها، وعلى الفكر الانساني عامة ان يعيد تمثلها واستنباط رموزها من جديد لأنها سر السعادة البشرية وسر سؤددها وسر حريتها وأعظم ما عليها امتلاكه.
الكاتب المسيحي كرم قنصل
من أجدر من الحسين لأن يكون تجسيدا للفداء في الاسلام؟.
المطران الدكتور برتلماوس عجمي.
ان ملحمة كربلاء هي ملحمتي الذاتية كفرد إنساني.
بولس سلامة
لا تجد في العالم مثالاً للشجاعة كتضحية الإمام الحسين بنفسه واعتقد أن على جميع المسلمين أن يحذو حذو هذا الرجل القدوة الذي ضحّى بنفسه في أرض العراق.
محمد علي جناح، مؤسس دولة باكستان
أسمى درس نتعلمه من مأساة كربلاء هو أن الحسين وأنصاره كان لهم إيمان راسخ بالله، وقد أثبتوا بعملهم ذاك أن التفوق العددي لا
أهمية له حين المواجهة بين الحقّ والباطل والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلّة الفئة التي كانت معه.
توماس كارليل، الفيلسوف والمؤرخ الإنجليزي
نداء الإمام الحسين وأي بطل شهيد آخر هو أن في هذا العالم مبادئ ثابتة في العدالة والرحمة والمودّة لا تغيير لها، ويؤكد لنا أنه كلّما ظهر شخص للدفاع عن هذه الصفات ودعا الناس إلى التمسّك بها، كتب لهذه القيم والمبادئ الثبات والديمومة.
فردريك جيمس
من طبيعة الإنسان أنه يحب الجرأة والشجاعة والإقدام وعلو الروح والهمّة والشهامة. وهذا ما يدفع الحرية والعدالة الاستسلام أمام قوى الظلم والفساد. وهنا تكمن مروءة وعظمة الإمام الحسين. وأنه لمن دواعي سروري أن أكون ممـن يثني من كل أعماقه على هذه التضحية الكبرى، على الرغم من مرور 1300 سنة على وقوعها.
ل . م . بويد
علمني الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر.
غاندي، محرر الهند
لم يتردد الشمر لحظة في الإشارة بقتل حفيد الرسول حين احجم غيره عن هذا الجرم الشنيع.. و إن كانوا مثله في الكفر.
المستشرق الهولندي ـ دينهارت دوزي إن مأساة الحسين بن علي تنطوي على اسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي.
الباحث الإنكليزي ـ جون أشر
قام بين الحسين بن علي والغاصب الأموي نزاع دام، وقد زودت ساحة كربلاء تاريخ الإسلام بعدد كبير من الشهداء.. اكتسب الحداد عليهم حتى اليوم مظهراً عاطفياً.
المستشرق الهنغاري ـ أجنانس غولد تسيهر
لم يكن هناك أي نوع من الوحشية أو الهمجية، ولم ينعدم الضبط بين الناس فشعرت في تلك اللحظة وخلال مواكب العزاء وما زلت اشعر بأني توصلت في تلك اللحظة إلى جميع ما هو حسن وممتلئ بالحيوية في الاسلام، وايقنت بان الورع الكامن في أولئك الناس والحماسة المتدفقة منهم بوسعهما أن يهزا العالم هزاً فيما لو وجّها توجيهاً صالحاً وانتهجا السبل القويمة ولا غرو فلهؤلاء الناس واقعية فطرية في شؤون الدين.
الكاتب الانكليزي ـ توماس لايل
في نهاية الأيام العشرة من شهر محرم طلب الجيش الأموي من الحسين بن علي أن يستسلم، ولكنه لم يستجب، واستطاع رجال يزيد الاربعة الاف أن يقضوا على الجماعة الصغيرة، وسقط الحسين مصاباً بعدة ضربات، وكان لذلك نتائج لا تحصى من الناحيتين السياسية والدينية.
المستشرق الفرنسي ـ هنري ماسيه
لقد حدثنا أن كبار الرجال من الأقطار الشقيقة من غير الشيعة انه التقى بمستر روزفلت الصغير، فدار الحديث بينهما على الحرب وويلاتها وأخذ يشرح له اداب الحرب في الاسلام، ويقارنها بوحشية الحروب بين الدول الغربية، فقال له روزفلت: مهما بلغ المحاربون من الوحشية والاعتداء فإننا لم يسمع عنا اننا قتلنا ابن نبي ننتسب إليه، ولا جردنا بنات النبي وآله من ثيابهم واخذناهم سبايا غير مكرمين.. قال محدثنا: فوجمت ولم اتكلم.
روزفلت ينتصر للحسين ().
إنّ مأساة الحسين المروّعة ـ على الرغم من تقادم عهدها ـ تثير العطف وتهز النفس من أضعف الناس احساساً واقساهم قلباً.. إن مذبحة كربلاء قد هزّت العالم الإسلامي هزاً عنيفاً.. ساعد على تقويم دعائم الدولة الاموية.
المؤرخ الانكليزي جيبون
إن الإمام الحسين وعصبته القليلة المؤمنة عزموا على الكفاح حتى الموت، وقاتلوا ببطولة وبسالة ظلت تتحدى اعجابنا واكبارنا عبر القرون حتى يومنا هذا.
الكاتب المؤرخ الانكليزي السيد برسي سايكس
لقد أصبحت كربلاء مسرحاً للمأساة الأليمة التي اسفرت عن مصرع الحسين.
الباحثة الإنكليزية ـ جترود بل
أنا هندوسي بالولادة، ومع ذلك فلست اعرف كثيراً من الهندوسية، واني اعزم أن اقوم بدراسة دقيقة لديانتي نفسها وبدراسة سائر
الأديان على قدر طاقتي.. لقد تناقشت مع بعض الاصدقاء المسلمين وشعرت بأنني كنت أطمع في أن أكون صديقاً صدوقاً للمسلمين..
وبعد دراسة عميقة لسائر الأديان عرف الإسلام بشخصية الإمام الحسين وخاطب الشعب الهندي بالقول المأثور: على الهند إذا ارادت أن تنتصر فعليها أن تقتدي بالامام الحسين..
وهكذا تاثر محرر الهند بشخصية الإمام الحسين تأثراً حقيقياً وعرف أن الإمام الحسين مدرسة الحياة الكريمة ورمز المسلم القرآني وقدوة الأخلاق الإنسانية وقيمها ومقياس الحق.. وقد ركّز غاندي في قوله على مظلومية الإمام الحسين بقوله: تعلمت من الحسين كيف أن اكون مظلوماً فانتصر.
غاندي.. محرر الهند
نشبت معركة كربلاء التي قتل فيها الحسين بن علي، وخلفت وراءها فتنة عميقة الأثر، وعرضت الأسرة الاموية في مظهر سيئ.. ولم يكن هناك ما يستطيع أن يحجب آثار السخط العميق في نفوس القسم الأعظم من المسلمين على السلالة الأموية والشك في شرعية ولا يتهم.
العالم الايطالي ـ الدومييلي
الكتب المؤلفة في مقتل الحسين تعبر عن عواطف وانفعالات طالما خبرتها بنفس العنف أجيال من الناس قبل ذلك بقرون عديدة،
… أن وقعة كربلاء ذات أهمية كونية، فلقد أثّرت الصورة المحزنة لمقتل الحسين، الرجل النبيل الشجاع في المسلمين تأثيراً لم تبلغه أيّة شخصية مسلمة أخرى.
المستشرق الأمريكي غوستاف غرونييام
بالرغم من القضاء على ثورة الحسين عسكرياً، فان لاستشهاده معنى كبيراً في مثاليته، واثراً فعالاً في استدرار عطف كثير من المسلمين على آل البيت ().
المستشرق الالماني ـ يوليوس فلهاوزن
دلّت صفوف الزوار التي ترحل إلى مشهد الحسين في كربلاء والعواطف التي ما تزال تؤججها في العاشر من محرم في العالم الإسلامي بأسره كل هذه المظاهر استمرت لتدل على أن الموت ينفع القديسين اكثر من أيام حياتهم مجتمعة.
المستشرق الانكليزي د. ج. هوكارت
أن مأساة مصرع الحسين بن علي تشكل اساساً لآلاف المسرحيات الفاجعة.
العالم الانتروبولوجي الأمريكي ـ كارلتون كون
الحق أن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين بن علي قد عجل في التطور الديني لحزب علي، وجعلت من ضريح الحسين في كربلاء اقدس محجة.
المستشرق الالماني ـ كارل بروكلمان
حدثت في واقعة كربلاء فظائع ومآسي صارت فيما بعد اساساً لحزن عميق في اليوم العاشر من شهر محرم من كل عام.. فلقد احاط الأعداء في المعركة بالحسين واتباعه، وكان بوسع الحسين أن يعود إلى المدينة لو لم يدفعه إيمانه الشديد بقضيته إلى الصمود.. ففي الليلة التي سبقت المعركة بلغ الأمر بأصحابه القلائل
حداً مؤلماً، فأتوا بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم فحضروه في ساعة من الليل، وجعلوه كالخندق ثم القوا فيه ذلك الحطب والقصب واضرموا فيه النار لئلا يهاجموا من الخلف.. وفي صباح اليوم التالي قاد الحسين أصحابه إلى الموت، وهو يمسك بيده سيفاً وباليد الأخرى القرآن، فما كان من رجال يزيد الا أن وقفوا بعيداً وصوّبوا نبالهم فأمطروهم بها فسقطوا الواحد بعد الاخر، ولم يبق غير الحسين وحده.. واشترك ثلاثة وثلاثون من رجال بني امية بضربة سيف أو سهم في قتله ووطأ أعداؤه جسده وقطعوا رأسه.
الاثاري الانكليزي ـ ستيفن لويد
إن الشيعة في جميع انحاء العالم الإسلامي يحيون ذكرى الحسين ومقتله ويعلنون الحداد عليه في عشرة محرم الأولى كلها.. على مسافة غير بعيدة من كربلاء جعجع الحسين إلى جهة البادية، وظل يتجول حتى نزل في كربلاء وهناك نصب مخيمه.. بينما احاط به اعداؤه ومنعوا موارد الماء عنه وما تزال تفصيلات تلك الوقائع واضحة جلية في افكار الناس إلى يومنا هذا كما كانت قبل 1257 سنة وليس من الممكن لمن يزور هذه المدن المقدسة أن يستفيد كثيراً من زيارته ما لم يقف على شيء من هذه القصة لان مأساة الحسين تتغلغل في كل شيء حتى تصل إلى الأسس وهي من القصص القليلة التي لا استطيع قراءتها قط من دون أن ينتابني البكاء.
الكاتبة الإنكليزية ـ فريا ستارك
اصبح اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي وهو العاشر من محرم يوم حداد ونواح عند المسلمين.. ففي مثل هذا اليوم من كل عام تمثل مأساة النضال الباسل والحدث المفجع الذي وقع للإمام الشهيد وغدت كربلاء من الاماكن المقدسة في العالم، واصبح يوم كربلاء وثار الحسين صيحة الاستنفار في مناهضة الظلم.
المستشرق الأمريكي ـ فيليب حتي
لقد قدم الحسين بن علي ابلغ شهادة في تاريخ الإنسانية وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة.
الآثاري الانكليزي ـ وليم لوفتس
اخذ الحسين على عاتقه مصير الروح الإسلامية، وقتل في سبيل العدل بكربلاء.
المستشرق الفرنسي ـ لويس ماسينيون
على مقربة من مدينة كربلاء حاصر هراطقة يزيد بن معاوية وجنده الحسين بن علي ومنعوا عنه الماء ثم اجهزوا عليه، انها افجع مآسي الإسلام طراً..
جاء الحسين إلى العراق عبر الصحراء ومعه منظومة زاهرة من أهل البيت وبعض مناصريه.. وكان أعداء الحسين كثرة، وقطعوا عليه وعلى مناصريه مورد الماء.. واستشهد الحسين ومن معه في مشهد كربلاء، واصبح منذ ذلك اليوم مبكى القوم وموطن الذكرى المؤلمة كما غدت تربته مقدسة..
وتنسب الروايات المتواترة إلى أن الشمر قتل الحسين لذا تصب عليه اللعنات دوماً وعلى كل من قاد القوات الأموية ضد شهداء كربلاء.. فالشمر صنو الشيطان في الاثم والعدوان من غير منازع..
الباحث الانكليزي ـ أ.س. ستيفينس
وهل ثمة قلب لا يغشاه الحزن والألم حين يسمع حديثاً عن كربلاء؟ وحتّى غير المسلمين لا يسعهم إنكار طهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلّها
دوارد براون، المستشرق الإنجليزي
ايات وعجائب الرأس الشريف للأمام الحسين ( عليه السلام ) عندما تكلم في سبعة مواقع نقلا عن كتاب الحسين في الفكر المسيحي) ):
1. لما حمل الرأس الشريف إلى دمشق ونصب في مواضع الصيارفة وهناك لغط المارة وضوضاء العاملين فأراد سيد الشهداء توجيه النفوس نحوه ليسمعوا عضاته فتنحنح الرأس تنحنحاً عالياً ، فاتجهت إليه الناس واعترتهم الدهشة حيث لم يسمعوا رأسا مقطوعاً يتنحنح قبل يوم الحسين () فعندها قرأ سورة الكهف إلى قوله تعالى (نُحن نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى).
2. وصلب على شجرة فاجتمع الناس حولها ينظرون إلى النور الساطع فاخذ بقراءة: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء: 227ٍَِ]].
3. وقال هلال بن معوية رأيت رجلا يحمل رأس الحسين () والرأس يخاطبه فرقت بين راسي وبدني فرفع السوط واخذ يضرب الرأس حتى سكت.
4. ويحدث بن وكيدة : انه سمع الرأس بقراء سورة الكهف فشك في له صوته أو غيره ، فترك عليه السلام القراءة والتفت إليه
يخاطبه ( يابن وكيدة أما علمت أنا معشر الأئمة أحياء عند ربهم يرزقون).
5. فعزم على أن يسرق الرأس ويدفنه وإذا الخطاب من الرأس الشريف : يابن وكيدة ليس إلى ذلك سبيل أن سفكهم دمي أعظم عند الله من تسييري على الرمح (فسوف يعلمون إذا الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون).
6. وقال المنهال بن عمروا : رأيت راس الحسين بدمشق على الرمح وأمامه رجل يقرا سورة الكهف حتى إذا بلغ إلى قوله تعالى (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبا(ً [الكهف : 9] نطق الرأس بلسان فصيح : أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي.
7. ولما أمر يزيد بقتل رسول ملك الروم حيث أنكر عليه فعلته ، نطق الرأس الشريف بصوت مرتفع : لاحوله ولاقوة إلا بالله.
لقد وردت هذه الموارد في كتاب ( الحسين في الفكر المسيحي) لانطوان بارا( ص 110-111 ) وهي بدون ترقيم .
مهما قالوا ومهما قلنا عن الحسين () ، ومهما كتبنا وكتب عنه، فلن نتجاوز فيه ما قاله رسول الله صلى الله عليه وعلى اله الطيبين الطاهرين : مكتوب على ساق العرش: إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة .
هكذا كانت ثورة كربلاء ومأساتها مشعلا وضاء ينير الطريق للأجيال ليؤجج دم الحسين ( عليه أفضل الصلات والسلام ) نارالثورات ضد الطغات والجبابرة وحكام الجور والرذيلة عبر مسيرة الزمن والتاريخ حتى قضى عليهم ولم يقضوا عليه بل خلد
رمزا وشعارا للثوار والمستضعفين ومنهل معين للجهاد والكفاح حتى قيام دولة العدل اللأهي فسلام على الحسين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا …
أهم المصادر
القرآن الكريم
الامام الحسين() يوم عاشوراء
الحسين () في الفكر المسيحي
الطبري تاريخ الملوك
ومصادر اخرى متعددة
محمد كاظم الجادري ***** ابو ميثم الحياوي —– فيينا —– النمسا