22 ديسمبر، 2024 11:51 م

هذا الانسان مُثقف فعلاً -16-

هذا الانسان مُثقف فعلاً -16-

في أحد أيام عام 2020 وفي أحد المَقاهي الشعبية المُكتضة بزبائنها في العاصمة العراقية بغداد، صادف أنْ جلسْتُ قريباً مِن مجموعة تتألف مِن خمسة شباب يرتدون الزيّ الجامعي وكانوا يحتسون الشاي وهم يتناقشون حول مسائل تتعلق بمَديات التشابه والإختلاف بين الأديان والمذاهب الدينية للمجتمعات البشرية.

أهمية الموضوع وجديّة النقاشات والأحاديث الجارية بين اولئك الطلبة أرغمتني على البقاء مُستمِعاً الى معظم تفاصيل نقاشاتهم مع تظاهري بقراءة الصحيفة اليومية التي كنتُ قد إصطحبتها معي.

لاحظتُ أنّ الشاب الجامعي الذي كان يُجاورني يُكثِر الإشارة الى آراء المثقفين حول مواضيع النقاش، وذلك ما حفّزني الى الهمْس في أذنه مستأذناً وراجياً منه إجابتي عن ما يعنيه بـ (المُثقف) نظراً لِسعة وكثرة المعاني التي قد تَعنيها هذه الصفة، لكنّ همسي بأذن ذلك الشاب الجامعي أثار إنتباه كل زملائه المحيطين به مما جعلهم يلتزمون الصمت لمعرفة ما يجري، فألتفتَ حينها ذلك الشاب الى وجهي مبتسماً وبدأ يُجيبني بصوت عالٍ وكأنه يريد أنْ يُعلِم زملاءَه بتفاصيل ما همستُ به اليه، فقال:

(المُثقّف الذي أقصدهُ أو الذي أنقل آراءه ليس هو مَنْ لديه قدرات ومؤهلات أو إطّلاعات واسعة في أحد أو عدد مِن التخصصات الدينية أو الفلسفية أو التراثية أو العلمية أو الإدارية أو القانونية أو الأدبية أو الفنية حسْب، وأنما هو الإنسان القادر على الحُكْم بحيادية على نفسه حينما تعترضه حالة صراع مع الآخرين حول مَصالح مادية أو دينية أو إجتماعية، فأنا أرى أنّ درجة حيادية الإنسان في إتخاذ الرأي أو القرار هي التي تُقرر مدى ثقافته.

قدرة الإنسان على الحُكم على نفسه بحيادية حينما يكون طرفاً في نزاع تتطلب منه معرفة عامة بشتى الجوانب الذهنية منها والعلمية والإنسانية مقرونة بالشجاعة والنزاهة في إتخاذ الموقف الأقرب الى الصحة أو العدل حتى لو بدى ذلك الموقف مُضّراً بمصالحه.

المثقف وبإختصار شديد هو الإنسان الذي تكون آراؤه وأفكاره ناتجة مِن قدرة ذلك الإنسان على تفهم وإدراك حالة وشعور ومصالح الطرف الآخر المتصارع معه أو المختلف عنه سواءاً أكان الطرف الآخر فرداً واحداً أو مجموعة كائنات حية، فالإنسان القادر على فعل ذلك يكون أقرب الى الحيادية والعدل حينما يتخذ أيّ قرار بشأن الطرف الآخر.

قدرة الإنسان على تفهم وإدراك حالة وشعور ومصالح الطرف الآخر المُضاد تعني أنْ يتصور ذلك الإنسان نفسه وكأنه هو الطرف الآخر تماماً، وحينها سيكون رأيّ أو حُكْم الإنسان حيادياً فعلاً، وعندها أستطيع أنْ أصفَ ذلك الإنسان بأنه إنسان مثقف جنباً الى جنب وصفه بأوصاف أخرى كالعدل والشجاعة والتضحية والفِطنة وغيرها مِن صفات المهمة الحَسِنة.

هناك الكثير مِن رجال الدين والعلماء والأطباء والمهندسين والقضاة والإداريين والسياسيين والأدباء والشعراء والفلاسفة والفنانين البارعين في تخصصاتهم لكنهم ما أن يكونوا طرفاً في نقاش أو تنافس أو صراع ما، فأنهم ينحازون الى أنفسهم دون أنْ يُحاولوا البحث في أدمغتهم عن ما سيكون رأيهم أو قرارهم لو أنهم تخيّلوا أنفسهم يعيشون تماماً مشاعر وأوضاع الطرف المُضاد أو المُنافس أو المُصارع لهم.

كثرة المثقفين الذين يتّصِفون بما ذكرناه يؤدي الى حالة إنسانية مِن الإنسجام المجتمعي تقود الى تقدم في شتى مجالات الحياة في ظل سواد العدل والمساواة والحرية).  

الشاب الجامعي إسترسل في الإجابة قائلاً:

(للمثل أقول لك، كثيراً ما تجد في مجتمعاتنا الشرقية ولاسيما العربية منها شخصاً يحمل شهادة الدكتورا في تخصصٍ ما مثلا، وهو ينتقد بقوة وربما بسخرية القصص الخرافية والأحكام اللامنطقية الموجودة في ديانة أخرى أو مذهب ديني آخر غير الذي يعتنقه، لكنه ما أنْ يُواجهه شخص آخر بوجود قصص خرافية وأحكام لامنطقية مماثلة في الديانة أو المذهب الديني الذي يرثه أو يعتنقه ذلك الدكتور حتى يَثور هذا الأخير غاضباً وليستثني ديانته أو مذهبه الديني من هكذا نقدٍ مُعتبراً أنّ ديانته أو مذهبه الديني شيء آخر وأنّ القصص الخرافية والأحكام اللامنطقية الموجودة في ديانته أو مذهبه الديني هي صحيحة ومُرسلة مِن الله!

أرى أنّ مثل هذا الدكتور قد يكون فاهِماً في تخصصه العلمي أو الأدبي لكنه لا يمكنوصفه بأنه إنسان مثقف، فلو كان مثقفاً لكان أدرك بأننا لمْ نختار ديانتنا ومذهبنا الديني بل نحن ورثنا إنتماءنا الديني والمذهبي مِن أهالينا.

مع الأسف الشديد هناك الكثيرون من أمثال هذا الدكتور في مجتمعاتنا الشرقية وفوق كل هذا تَراهم في نقاشات الأديان والمذاهب الدينية يَقولون بأنهم لو كانوا ولِدوا مِن عوائل تعتنق ديانة أو مذهب ديني غير الذي يعتنقونه الآن فأنهم كانوا سيُغيرون ديانتهم أو مذهبهم الديني الى الديانة أو المذهب الديني الذي يعتنقونه الآن فعلاً، وهنا أقول أنّ أمثال هؤلاء الأفراد لا يكفي أنْ أعتبرهم  ليسوا بمثقفين وأنما قد أصِفهم بالغباء أيضاً ومهما كان تحصليهم العلمي أو الأكاديمي، بل أني أعتقد أنّ كثرة وجود أمثال هؤلاء الأفراد في مجتمعاتنا الشرقية هو أحد أهم أسباب بقائنا في مؤخرة الشعوب تحضُراً ومَنْحاً لحقوق الإنسان فيها).

بعد ثوان مِن الصمت والتأمل واصل الشاب الجامعي الإجابة مُستغلا إنّصاتي العميق له:

( أمثال هذا الدكتور الذي نتحدث عنه في مجتمعاتنا الشرقية ذات الموروث الديني المؤثر في سلوك أفرادها يظِنون نفْسيّاً أن ديانتهم أو مذهبهم الديني الموروث من الآباء والأجداد هو فعلاً أفضل  كل الأديان والمذاهب في حين أنّ حقيقة الأمر هو أنهم لاإرادياً يعملون على الدفاع عن مصالحهم المرتبطة بإنتمائهم الديني أو المذهبي في مجتمع متخلف يُميّز بين إنسان وآخر وفقاً لنوع الإنتماء الديني، أو أنّهم يُدافعون عن ما يستثمرونه في ديانتهم أو مذهبهم الديني من جهود الصلاة والصيام ومساهمات مادية أخرى حيث يحرصون أنْ يكون إستثمارهم في المجال الصحيح والذي سيدرّ عليهم بالفوائد التي ستنهال عليهم من الله.

أنا إنسانٌ أدرك واتمنى وجود الله، كما أني أدركُ حرية كل مَنْ يعتقد بأفضلية ما ورثه مِن دين أو مذهب  ديني، لكني أعارض بشدة كل مَنْ يُحاول أنْ يُعطي لنفسه إمتيازات تُفضِلّه على غيره مِن البشر وفقاً للإنتماء الديني أو المذهبي، كما أعارضُ بشدة كل مَنْ يُحاول أنْ يَفرضَ آراء أو أحكام ديانته أو مذهبه الديني على الآخرين).

ثم تابع الشاب الجامعي حديثه قائلا:

( لو كان ذلك الدكتور مثقفاً فعلاً لأدرك بأنه لو كانت كل الأديان أو المذاهب الدينية ظهرتْ في القرن الحادي والعشرين فما كان أحداً ليُصدّقها).

وعن رأيه بما يقوم به البعض مِن تغييرٍ في إنتمائهم الديني والمذهبي قال الشاب الجامعي:

(ما يُؤسف له أنّ الكثير مِن أفراد مجتمعاتنا الشرقية يُصدّقون ما يسمعون أو يقرأون حول قيام شخص ما بتغيير ديانته أو مذهبه الديني الى ديانة أو مذهب ديني آخر لمجرد إطلاعه على جملةٍ أو فعلٍ يخص الديانة الأخرى أو المذهب الديني الآخر، في مشهدٍ هو أقرب للتمثيل عن كونه حقيقة.

تابعتُ وتقصيّتُ المئات مِن حالات مَنْ غيّروا دياناتهم أو مذاهبهم الدينية في عصرنا الحالي فوجدتُ في جميعها ودون إستثاء أسباباً وظروفاً خفيّة يتمّ التعتيم عليها بقصد أو غير قصد، وكما في الأمثلة التالية:

1.   ظرف جنّسي أو عاطفي يَمرّ به شخص يَعشق أو يَودّ الزواج بطرف آخر مِن ديانة أو مذهب ديني آخر فيضطر الى تبديل دينه أو مذهبه تقرباً مِن الطرف الآخر وأحياناً قد يكون غير مسموحاً  له الزواج بذلك الطرف الآخر لو لمْ يُغيّر ديانته أو مذهبه الديني، وهكذا ربما تجِد أنّ هذا الشخص الذي غيّر دينه أو مذهبه يُقنِع نفسه أحياناً بأنه فعلاً وجِدَ الديانة أو المذهب الديني الصحيح، وبعدها ترى الإعلام والناس يتناقلون قصة إيمان ذلك الشخص مع التعتيم على قصة الظروف العاطفية أو المصلحية التي مرّ بها.

2.   ظرف مادي و مصلحي يمُر بالأنسان، فقد يحدث أحياناً أنْ تجد إنساناً فقيراً أو متعَباً وهو يلاقي مَنْ يَعرض عليه مساعدة مالية كبيرة جداً أو فرصة عمل مُغرية لقاء تغيير ديانته أو مذهبه الديني، وهكذا يُغيير ذلك الإنسان ديانته أو مذهبه الديني وتتناقل الناس خبر إعتناقه للدين أو المذهب الديني الجديد وكأنه أعتناق طوعيّ نتيجة الإيمان بالدين أو المذهب الجديد ودون الإشارة أو التلويح الى السبب الحقيقي وراء ذلك التغيير.

3.   كما مِن المُمكن أنْ تجِد أسماء شخصيات عامة معروفة كأن يكون بطلاً رياضياً معروفاً أو ممثلاً أو فناناً أو كاتباً مشهوراً يتظاهر بتغيير ديانته أو مذهبه الديني لمجرد الحصول على المزيد مِن الأموال المُغرية والضخمة بينما يتم تناقل خبر تغيير ديانة أو مذهب ذلك الشخص المعروف أو المشهور في وسائل الإعلام لسنوات أو عقود مع التعتيم على السبب الحقيقي لقيام ذلك الشخص المشهور والمعروف بتغيير ديانته أو مذهبه الديني.

4.   كما يحصل أنْ يدّعي العديد مِن الشباب مِمَن يُهاجرون مِن بلدان الشرق الأوسط بحثاً عن الحرية والحياة الكريمة تغيير ديانتهم لغرض تسهيل عملية حصولهم على اللجوء الإنساني في دُول غربية طالما أنّ مجتمعات الشرق الأوسط معروفة بقيامها بسجن أو نبذ أو تهديد أو قتل الإنسان فيها حال قيامه بنقد أو تغيير مذهبه او ديانته الموروثة إجتماعياً.

5.   واخيراً قد يحصل عند بعض الشباب الشرقيين أنْ يُعانوا مِن الضغوط الدينية والمذهبية القاسية والخانقة لحريتهم الإنسانية والفكرية الى الدرجة التي تجعل اولئك الشباب يهربون مِن ديانتهم أو مذاهبهم الدينية الى أيّ ديانة أخرى تمنحهم مجال حرية أفضل وحقوق إنسانية أوسع).

أنهى الشاب الجامعي الإجابة على تساؤلي وليتجه بعدها لمواصلة نقاشاته حول (الأديان) مع زملائه الآخرين، بينما بقيتُ جالساً أرتشف فنجان قهوتي وأنا مُتمتع بمواصلة الإستماع الى أحاديث الشباب الجامعي حول الأديان، تلك الأحاديث التي قد لا أستطيع بسهولة سماع مثيلاتها نُضجاً في أماكن إجتماعية أخرى مِن مجتمعاتنا الشرقية المعروفة بتقييدها لحرية الفكر والتعبير.

خلاصة ما فهمته مِن ذلك الشاب الجامعي هو أنّ (المثقف) هو كل إنسان يمتلك قدرة فكرية وأخلاقية تجعله ينجح في معاملة الآخرينبمثل ما يتمنى هو أنْ يعاملوه في كل مجالات الحياة المادية منها والإجتماعية وبضمنها الجانب العطفي والجنسي ، فكلما أرتفعت درجة كفاءة الإنسان في معاملة الآخرين بمثل ما يتمنى هو أنْ يعاملوه أزدادت درجة ثقافته، فإذا بلغ الإنسان أقصى درجة عدْل في تعامله مع الآخرين أصبح إنساناً مثالياً في أنسانيته وثقافته، والعكس صحيح فكلما قلّتْ درجة العدْل في تعامله مع الآخرين نسبةً لما يتمنى هو أنْ يعاملوه تراجعتْ درجة إنسانية وثقافة ذلك الإنسان، أما إذا بلغ الإنسان درجة واطئة في معاملة الآخرين عدلاً أصبح ذلك الإنسان أنانياً، وقد يصبح مذنباً أو مجرماً فيما لو وصل درجة واطئة جداً في سوء تَعامله مع الآخرين، بينما قد يصبح الإنسان مُثقفاً ونبيلاً وقائداً متميزاً في إنسانيته وثقافته وعدْله فيما لو فضّل التضحية ببعض حقوقه أو التقصير على نفسه في ميزان العدْل في تعامله مع الآخرين!

يتبع ..

أعلاه هو نص مقال ( مثقفو العالم ) من كتابي الموسوم بـ ( أحترم ُ جداً هذا الدين ) والمنشور في اسواق الكتب العالمية بأكثر من تسع لغات واسعة التداول.

مؤلف عراقي – مستقل فكريا وسياسياً