الولايات المتحدة، التي يتولى زمام الأمور فيها عسكريون أكثر من أي وقت مضى، ترى أن الكثير قد فاتها في سوريا منذ تراجع أوباما عن معاقبة الرئيس بشار الأسد بعد هجوم الغوطة. بالنسبة إلى ترامب، هذا الموقف ‘أثبت ضعف أوباما’.
الهجوم بالأسلحة الكيماوية الذي وقع في مدينة خان شيخون وأوقع نساء وأطفالا هو انفجار تحت المياه الراكدة في الأزمة السورية. جسد المريض الذي كانوا يذهبون به من وقت إلى آخر إلى جنيف كي يتلقى المسكنات ثم يعود إلى سوريا وكأن شيئا لم يكن أصابته صدمة كهربائية هائلة، قد تقلب حاله البائس رأسا على عقب.
هذا هجوم من نوع الهجمات “الحيوانية” التي لا تكترث لعدد الضحايا من الآدميين، أو نوعهم. نساء وأطفال وشيوخ ماتوا في فراشهم في لمحة بصر بعد أن استنشقوا غاز السارين.
لكن هؤلاء الضحايا قد يكونوا الثمن الحاسم في تغيّر مصير بلادهم تماما. كما كان الهجوم الكيماوي على غوطة دمشق في أغسطس 2013 مقدمة لانسحاب الولايات المتحدة من الأزمة السورية برمتها، قد يكون هجوم خان شيخون في أبريل 2017 بابا لعودتها مرة أخرى.
لا أحد يستطيع تجاهل التحركات الأميركية البطيئة لدفع النفوذ الروسي وحليفته إيران في سوريا إلى الوراء. الحضور العسكري التدريجي الذي يتسرب شيئا فشيئا إلى سوريا يخصم تلقائيا من التأثير الإيراني والتركي والخليجي، ويقتسم النفوذ مع روسيا هناك. هذه عملية تحتاج إلى وقت طويل عادة. هجوم خان شيخون قد يكون انعطافة مختصرة للوصول بشكل أسرع إلى الهدف.
الأميركيون يعلمون أن ليس من مصلحة الأسد الإقدام على ارتكاب هذه الحماقة في وقت لم تعد فيه إزاحته عن الحكم “أولوية أميركية”. لكن إيران هي من لا يريد أي تسوية قريبة للأزمة.
الإيرانيون يدركون جيدا أن خروجهم من سوريا سيكون ثمن هذه التسوية. إبقاء المعارك مشتعلة هو أولوية قصوى في طهران، التي تنظر إلى القتلى السوريين كثمن لابد منه في سبيل تمسكها بمصالحها التي استثمرت فيها طويلا في سوريا. هذه الاستراتيجية الإيرانية لا تروق لا للروس ولا للأميركيين.
الولايات المتحدة، التي يتولى زمام الأمور فيها عسكريون أكثر من أي وقت مضى، ترى أن الكثير قد فاتها في سوريا منذ تراجع أوباما عن معاقبة الرئيس بشار الأسد بعد هجوم الغوطة. بالنسبة إلى ترامب، هذا الموقف “أثبت ضعف أوباما”.
الإدارة الجديدة ليست مرتاحة لتمدد الروس والإيرانيين. هذا شيء طبيعي، حتى في أيام الضعف والأيدي المرتعشة لإدارة أوباما. لكن جديد ترامب هو أن إدارته لا تريد نفوذا لحلفائها أيضا.
حصار النفوذ التركي في شمال سوريا كان قرارا حاسما. خلال زيارة ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأميركي، لم يكن أمام تركيا من خيار سوى الإعلان عن انهاء عملياتها العسكرية في سوريا قبل أن يغادر تيلرسون أنقرة، بطلب (يصل إلى حد الأمر) من الإدارة.
نحن أمام رئيس يتصرف بعقلية تقليدية غابت عن واشنطن لأكثر من عقدين. قبل ذلك كان الرئيس الأميركي يملك نفوذا يسمح له بإجبار الحلفاء والخصوم على اتباع سياسات معينة، أو اتخاذ مواقف تصبّ في صالح الولايات المتحدة.
في تسعينات القرن الماضي كان في استطاعة كلينتون أن يستخدم نفوذه كي يذهب الفلسطينيون والإسرائيليون إلى أوسلو لتوقيع المعاهدة التي مهدت الطريق لقتل القضية الفلسطينية، وأسست لموازين القوى التي مازالت قائمة إلى الآن. بعد ذلك بعام واحد تدخل الرئيس الأميركي لإنهاء حرب البوسنة وإجبار كل أطراف الحرب على توقيع معاهدة دايتون.
كلينتون آخر الرؤساء الأميركيين الذين كان لهم كلمة مسموعة عند حلفائهم وخصومهم على حد سواء. منذ ذلك الحين أفلتت الكثير من خيوط الصراعات في كل أرجاء العالم من أيدي الأميركيين.
ترامب يريد استعادة هذه الهيمنة. احتدام الصراعات كان سببا في خسارتها أول مرة، واشتعال نفس الصراعات سيؤدي بالولايات المتحدة إلى استعادة دورها التقليدي مجددا.
اليوم صرنا أمام رئيس يستطيع أن يجبر كل الأطراف العتيدة على تغيير مواقفها في صراع تاريخي. لم يستغرق الأمر وقتها طويلا ولا جهدا مضنيا. كل التكلفة لم تتعد تغير طفيف في لهجة الإدارة، جعلت الأتراك ودول خليجية تنسى إسقاط الأسد، وتتبنى بحماس محاربة تنظيم داعش كأولوية مطلقة. الروس يخشون المقاربة الأميركية الجديدة. رد الفعل الهستيري من موسكو للدفاع عن النظام السوري بعد هجوم خان شيخون عكس توترا روسيا غير مسبوق. منبع التوتر هو الصمت الأميركي المريب. الأميركيون يبيعون مواقف مجانية ومطمئنة لروسيا، ثم يرسلون قوات على الأرض بحجة قتال داعش. هذه الاستراتيجية أربكت حسابات الروس، وضربت خطط الإيرانيين في مقتل.
السؤال الأن: هل تغامر إدارة ترامب بتفاهماتها الهشة مع روسيا، عبر استغلال هجوم خان شيخون لتعزيز حضورها في سوريا؟
الإجابة عن هذا التساؤل تتوقف على نتيجة الصراع الدائر اليوم في واشنطن. المؤسسة التقليدية بدعم جمهوري تريد مسك زمام المبادرة. النشطاء اليمينيون وبعض مستشاري ترامب، الذين يملكون علاقات عميقة بموسكو، يقفون حائلا أمام هذا التوجه.
داعش والهجوم بالأسلحة الكيماوية هما فرصتان نادرتان تلوحان أمام الإدارة الجديدة قد تمكناها من تحويل مسار الصراع بشكل حاسم. ما بات مؤكدا اليوم هو أن مرحلة ما بعد انتهاء “أزمة خان شيخون” ستكون عاكسة أخيرا لنوايا هذه “الإدارة الصامتة”، وسترسم ملامح ما تبقى من هذا الصراع الذي لا يريد أن ينتهي.
نقلا عن العرب