الهجرة المليونية للكورد نحو الحدود الإيرانية والتركية في نهاية شهر آذار وبداية نيسان 1991، جاءت لتبعث الروح في إنتفاضتهم العارمة، التي إنطلقت في الخامس من آذار من ذات العام، والتي بدأت بمدينة رانيه وانتشر لهيبها، وفي غضون أسبوعين استطاع البيشمركه الأبطال والمنتفضون أن يحرّروا معظم قرى ومدن وقصبات كوردستان، وتزامن حلول عيد نوروز مع تحرير مدينة كركوك الكوردستانية.
تلك الهجرة آذنت بمرحلةٍ جديدةٍ، عنوانها التحرّر من قيود فرضته نظام البعث الاستبدادي، والخلاص من آفات التعريب والترحيل والتبعيث والإبادة والمقابر الجماعية، ومعناها الأوسع والأكبر كان التعلَّق بآمال وطموحات مشروعة وفق جميع الشرائع والقوانين. وقالت( الهجرة): كانت الإنتفاضة ضرورة موضوعية ونتيجة طبيعية لتراكماتٍ وتركات كثيرة لها علاقات بمواقف سياسية وإجراءات اقتصادية وعسكرية وفظائع بعثية وجراح مفتوحة، وثقافة كوردستانية أصيلة تمتد جذورها في عمق تاريخ شعب فهم لغة العصر والتخاطب مع العالم، رفض الذل والهوان، لا يقهر ولاينحني، سعى نحو التقدّم تطوير الحياة والنصر واللحاق بركب الديمقراطية، وهناك العشرات من الحوادث والمعطيات التاريخية التي تؤكد هذه الحقيقة.
المتوجهون نحو الحدود الدولية، وبعد أن ذاقوا طعم الحرية والانعتاق، لم يكونوا متأكدين من فتح الحدود أمامهم، ولكنهم كانوا متأكدين من تخلي البعض عنهم وعن إنتفاضتهم وتغاضي الطرف عن ممارسات وحشية وعدوانية بعثية تنتهك الحقوق الإنسانية وجميع القيم وأعراف العدالة وحقوق الانسان والثوابت الدينية والأخلاقية، بعد توقيع النظام العراقي على إتفاقية الاستسلام الشهيرة، تحت خيمة صفوان. ألإتفاق الذي سمح للبعث بإستخدام طائراته المروحية وجنوده المنهزمون العائدون من الكويت ضد المنتفضين الشيعة في الجنوب والكورد في كوردستان. كما كانوا متأكدين من أن النظام أصيب بالغرور والشعور بسكرة النصر المزعوم على الشيعة في جنوب العراق، الذي لم يكن ممكناً لولا خيانة الأمريكان، سيحاول أن يستعيض عن هزيمته السريعة والمذلة والمهينة بتحقيق إنتصار يمحي جزءاً مما لحق به من عار، وسيستخدم ما يملك من قوة وإمكانات بوحشية مفرطة، لاستعادة المناطق المحررة. وكانوا على علم بتصرفات الصداميين ووحشيتهم. لذلك رفضوا قبول العيش مرة أخرى في ظل حكومة فاشية لاتراعي أبسط القواعد الانسانية. وقرروا، بعد أن وجدوا دوافع ومسوغات كثيرة لترك ما يملكون والتوجه نحو الأعالي، وبدؤا بالهجرة المليونية نحو الحدود الإيرانية والتركية، وتحملوا تبعات وويلات قرارهم. ودفعوا الثمن ومات المئات من الأطفال والنساء والشيوخ على الحدود بسبب الظروفٍ المناخية القاسية.
لكن أشراف العالم ومنهم (فرنسا) صديقة الكورد التي تحترم وتدعم إرادة شعب كوردستان، والتي كانت وما زالت تدرك تماما معاناة الكورد، لم تترك الكورد لمصيره في ظلّ غياب الرعاية الدولية والأممية، بل وقفت الى جانبهم في تلك الأوقات الضيقة ودافعت عنهم في المحافل الدولية، وأوصلت القضية الكوردية بفضل موقفها الى مراتب متقدمة، وطالبت في عهد رئيسها فرانسوا ميتران، مجلس الأمن الدولي بتوفير الحماية للكورد، حيث صدر القرار 688 في 5 نيسان عام 1991 الذي فرض المنطقة الأمنة والحماية الدولية لكوردستان، ودعا النظام العراقي الى الكف عن مطاردة الكورد الذين يرفضون سياساته ووقف القمع الذي يمارسه بحق المدنيين في العراق، وناشد جميع الدول والمنظمات الانسانية للمساهمة في جهود الإغاثة في تلك المناطق، وبدأ المواطنون الكوردستانيون بالعودة إلى مدنهم وقراهم، بعد أن حصلوا على المنطقة الأمنة، واصبحوا اصحاب برلمان منتخب وحكومة كوردستانية تسهم في تحقيق تطلعاتهم المشروعة. وهنا لابد من التذكير، بأن فرنسا ذاتها، وفي عهد الجنرال ديكول، ألغت صفقة لبيع سربين من طائرات الميراج الى العراق في الستينيات من القرن الماضي بعدما تلقت رسالة من البارزاني الخالد، يذكر فيها أن الطائرات ستستعمل لقصف الكورد.
وللتذكير أيضاً، بالوقف الفرنسي، نقول : من سمع الكلام السليم للرئيس الفرنسي، ماكرون بشكل دقيق، عندما إستقبل السيد نيجيرفان بارزاني في الأيام الصعبة التي تلت الهجوم على كركوك وبقية المناطق الكوردستانية، بعد إستفتاء إستقلال شعب كوردستان والتعبير عن رغبته، يدرك ان الحكومة الفرنسية ما زالت تدرك تماما من هم الكورد، وما يشكلونه من عامل للإستقرار في المنطقة ككلّ، وتقدر دورهم المشرف في الحرب ضد الإرهاب وإستقبال النازحين والمهجرين، كما يعلم إنه اظهر أن إدارته ليست مستعدة للتضحية بعلاقاتها القديمة والوثيقة مع الكورد من أجل حماية مصالح معينة مع الذين يثيرون الغرائز القومية والمذهبية ويؤججونها، ويعلم إنها لا تريد أن تبقى مجرّد متفرّج على ما يدور في العراق والمنطقة ولاتترك الكورد لمصيره في ظلّ غياب الرعاية الدولية والأممية.