18 ديسمبر، 2024 8:55 م

هجرة سيدنا إبراهيم عليه السّلام إلى بلاد الحجاز تنفيذاً لأمر الله

هجرة سيدنا إبراهيم عليه السّلام إلى بلاد الحجاز تنفيذاً لأمر الله

لما رزق إبراهيم عليه السّلام بولد أمره الله تعالى أن يهاجر بزوجه وابنه ويضعهم في واد غير ذي زرع فبادر إبراهيم عليه السّلام إلى الامتثال لأمر الله تعالى فتوجه – عليه السّلام – بهاجر وإسماعيل ووضعهما في بلاد الحجاز في وادٍ غير ذي زرع، تنفيذاً لأمر الله، ولما غادرهما توجه إلى الله ودعا دعاءً خاشعاً منيباً،، والراجح أن البيت الحرام لم يكن قد بُني عندما وضع إبراهيم هاجر وإسماعيل في تلك البقعة، وأن البلد لم يكن قد وُجد -كما سنبحث هذا فيما بعد إن شاء الله- وعرف أنه سيكون في تلك البلد الحرام وبيته المُعظم الكعبة المشرّفة، وذلك عن طريق الوحي من الله تعالى.
جاءت تفاصيل وضع هاجر وإسماعيل – عليهما السّلام – في ذلك الوادي في حديث صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتّخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتّخذت منطقاً لتعفي أثرها عن سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل – وهي ترضعه- حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء.
وضع هاجر وإسماعيل والبحث عن مغيث:
لقد وضعها هناك ووضع عندها جراباً من تمر، وسقاء فيه ماء ثم قضى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيء؟ وقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يُضيّعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثّنيّة، حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
وجعلت أم إسماعيل تُرضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوّى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فَهَبَطَتْ من الصفا حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طَرَفَ دِرْعِهَا، ثم سعَت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، فنظرت هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فلذلك سعى الناس بينهما»، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، فقالت: صَهْ – تريد نفسها- ثم تَسَمَّعَتْ، فسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غَوَاث.
الملك ونبع ماء زمزم ومجيء جُرْهم:
فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه – أو بجناحه- حتى ظهر الماء، فجعلت تحوطه بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يغور بعدما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: يرحم الله أن إسماعيل، لو تركت زمزم – أو لو لم تغرف في الماء – لكانت زمزم عيناً مَعيناً((، فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها المَلك: لا تخافوا الضيعة، فإن ههنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يُضيع أهله.
وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرّت بهم رفقة من جُرْهم، مقبلين من طريق “كداء”، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائقاً، فقالوا: إنّ هذا الطائر ليدور على ماء، وعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا وأمّ إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك، قالت: نعم. ولكن لا حقّ لكم بالماء، قالوا: نعم، فقال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأُنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى كان بها أهل أبيات منهم، وشبّ الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شبّ، فلما أدرك زوّجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل.
إبراهيم في زيارته لبيت إسماعيل:
فجاء إبراهيم بعدما تزوّج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم يسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدّة، وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عَتَبَةَ بابه. فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جَهْد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عَتَبَةَ بابك، قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك! الْحَقِي بأهلك. فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسأل عنه. قالت: خرج يبتغي لنا قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسَعَة، وأثنت على الله. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي – صلّى الله عليه وسلّم: ولم يكن لهم يومئذ حَبّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. وفي رواية: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد؛ فقالت امرأته: ألا تنزل، فتطعم وتشرب؟ قال: وما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم. قال: فقال أبو القاسم – صلّى الله عليه وسلّم: بركة دعوة إبراهيم. قال: فإذا جاء زوجك فَاقْرَئِي عليه السلام مُرِيِهِ يُثَبِّتُ عَتَبَةَ بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بابك. قال: ذاك أبي، وأنت العَتَبة، أمرني أن أُمْسِكَك. ثم لبث عنهم ما شاء اللَّه.
التقاء إبراهيم وإسماعيل وبناء البيت:
جاء نبي الله إبراهيم عليه السلام بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْلًا له تحت دَوْحَةٍ قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد. قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك؟ قال: وَتُعِينُنِي، قال: وأُعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتاً هاهنا، وأشار إلى أكَمَة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وهذا حديث صحيح مرفوع للرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويتحدث عن مسائل ومشاهد من قصة إبراهيم وهاجر وإسماعيل عليهم السلام جميعاً.
رؤيا ذبح إسماعيل وبناء الكعبة:
هل كانت رؤيا ذبح إسماعيل – عليه السّلام – في زيارة إبراهيم الثالثة إلى مكة والتي قابل فيها إسماعيل والتي بنيا فيها الكعبة المشرفة؟ أم كانت هذه الرؤيا ومشهد الذبح والفداء في زيارة أخرى لاحقة فيما بعد؟
ليس عندنا من النصوص الصريحة ما يحدد ذلك، فلا نستطيع التحديد والجزم والله أعلم، وهناك رواية موقوفة غير مرفوعة، فقد أخرج الفاكهيّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان إبراهيم يزور هاجر كل شهر على البراق، يغدو غدوة، فيأتي مكة ثم يرجع فيقبل في منزله بالشام.
ولعلَّ الأمرين – بناء الكعبة ورؤيا ذبح إسماعيل- كانا في الزيارة نفسها التي قابل فيها إبراهيم ابنه إسماعيل- عليهما السّلام – بعد غياب سنوات عديدة، فبنيا البيت، وأذّن إبراهيم بالحج، ورأى إبراهيم رؤيا بذبح إسماعيل، وكان الفداء وكانت الأضحية، وكان عيد الأضحى، وكانت مناسك الحج، لعلّ هذا هو الراجح.

المصادر والمراجع:
صلاح الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، (1/388).
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، (6/287).
علي محمد الصلابي، إبراهيم  خليل الله، دار ابن كثير، ط1، 736-741.