18 ديسمبر، 2024 9:18 م

هجرة النبي الأكرم، فداء، ونجاة، ووصاية

هجرة النبي الأكرم، فداء، ونجاة، ووصاية

لما أُمر النبي الأكرم محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام بالهجرة من مكة إلى يثرب التي تنورت بنور الإسلام، ونور خاتم النبين والمرسلين، وبعد أن بلغ الأمر أقصاه من التهديد والأذى له ولأتباعه الذين وقفوا معه في أشد محنه بمواجهة الكافرين، وكانت قد سبقتها هجرة إلى الحبشة لينجوا من كيد وأذى المشركين لهم في مكة. فصار أمر تركهم الوطن أمراً محتما.
  هنالك معادلة إلهية حكيمة، وحكمة بالغة في أي أمر يقضي به الله، فيأتي أمره تعالى ليحقق المطلب، وليثبت منطق الأشياء كما أراد. فأمره  تعالى في الدعوة إلى الدين أن يبدأ نبيه الأكرم الإنذار بالأقربين، وتذكيرهم بدين الله الحنيف الذي هو دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، واتِباعه نبياً ورسولا خاتما، بقوله تعالى( وأَنذِر عَشِيرتَكَ الأٌقربين) وقد تجلت حكمته تعالى في أن يجعل للنبي أنصاراً من أقربائه، لا سيما أن آل محمد صلوات الله عليه وعليهم لهم علم بالرسالات السابقة، فكانوا موحدين لله، لم يعبدو صنماً ولا أياً مما عبد الناس آنذاك، كذلك كان كثير من أقربائه. ومن حكمة الله تعالى أيضا، أن قرابة الدم تزيد من قوة الجماعة ولحمتهم، عندها سيكونوا عوناً لبعضهم البعض في أية محنة وشدة، وهذا هو الأصل وسنة الله تعالى في خلقه. ولا شك أن الأمر لا يخلو من خروج بعض الأقرباء عن هذه اللحمة في حالات معينة، كما حدث في كفر بعض أقرباء النبي، فكان أظهرهم عليه عمه أبو لهب. إذاً فقد بدأت الدعوة بالأقربين، ومن بعد إلى الناس أجمعين. إلا أن أمر الله تعالى وقضاءه قد لا يأتي بنفس هذا الترتيب في قضايا أخرى، ولربما على العكس من ذلك لتحقيق الغاية مما أراد، وأبرزها ما أمر الهجرة إلى يثرب. فنرى أن أمر الهجرة مضى بما يعزز دعوة الله نبيه ليكون رحمة للعالمين، فإن كان أمر فيه خير يقدمهم على نفسه، وإن كان أذى فيستأخرهم. فلو أمر الله تعالى نبيه الأكرم أن يهاجر قبل اتباعه، أو من دونهم، لصار معاذ الله مأخذاً عظيماً على صدقه في دعوته لدين الله، وحجة للكافرين في أن النبي يخشى على نفسه من أذى المشركين، وقد عرفنا أن أكثر من اتبعه، هم من الفقراء والعبيد والمستضعفين بعمومهم، وقد عد الكافرون من سادات قريش ذلك، مدعاة للسخرية والاستهزاء بالدعوة، كما فعل أمثالهم ممن سبقوا، وسخروا من الأنبياء من قبله بقولهم ( وَما نراكَ اتبعَكَ إلا الذينَ هُم أراذُلنَا بادِيَ الرأي) لذا كان أكثر ما هم النبي الأكرم في أمر الهجرة نجاة أتباعه، وتأمينهم قدر ما أمكنه، فأمرهم بالهجرة قبله. هذه قضية، ويبدو لنا جلياً أن هنالك قضية لا تقل أهمية عن الأولى، فعلى العكس مما فعل النبي الأكرم في أمره أتباعه أن يسبقوه بالهجرة، أنه استثنى أول من آمن به من الأقرباء وجميع الناس على حد سواء، لقد أبقى ابن عمه علي ابن أبي طالب عليهما السلام ليلحق به من بعد رغم الخطر الكبير الذي أحاطه، وقد قبله بشجاعته. وقد تم بذلك أمرين مهمين أساسيين. الأول، خداع الكافرين بالتمويه عليهم في أن النبي ما زال في مكة لم يخرج مع أتباعه. فكان ذلك الفداء الكبير الذي عرف به علي عليه السلام للنبي الأكرم، لقد كاد يتلقى الضربة التي اتفق وجوه القبائل على أن يضربونها للنبي الأكرم ضربة رجل واحد فيتفرق دمه على القبائل، وتعجز قبيلته المطالبة بدمه والثأر له. فوجدوا عليا عليه السلام في بيته بدلاً عنه، وقد ردهم، وسبق أن وطن نفسه الزكية لما قد يلقى منهم من قتل أو أسر أو أي أذى. وما منعهم من سفك دمه الطاهر، إلا عار قد يلحق بهم في قتلهم مجتمعين فتى، وليس في ميدان نزال أو قتال. الأمر الثاني، أن النبي الأكرم، وقد عُرف بصدقه وأمانته من قبل، كان قد حفظ بخير ما يمكن أن يحفظ أمين ما يستودع عنده من أمانات لكثير من الناس لم يستأمنوا غيره، وعليه صلوات الله عليه وعلى آله أن يردها، بينما جاء أمر الهجرة، فما كان عليه، إلا أن يكلف من هو على قدر مماثل من الصدق والأمانة، من هو بمنزلة نفسه الشريفة، فميزان النبي الأكرم محمد هو الميزان الإلهي العادل، واختياره هو الإختيار الإلهي الحكيم، فاختار عليا، اختاره للفداء وللأمانة. فماذا أراد الله ورسوله بذلك التكليف؟
   كان علي كرم الله وجهه هو الأهل، الأهل لفداء خاتم النبيين والمرسلين، ولحمل الأمانات وردها إلى أهلها، وقد فعل. لم يهاجر وهو المحاصر من الكافرين، حتى رد الأمانات كلها، أموال، بضائع، وحلل،…. واطمأن أصحابها. فما الحكم إذاً في الأمانة الكبرى.
   في تلك المحنة، والتي كانت ستحدد نجاة النبي ونصرته، مقابل انتهاء دعوته والقضاء عليه واتباعه، صار ذلك الاختيار الإلهي هو السبيل، هو الحل لكل ما شغل وهم النبي الأكرم، فسهل عليه هجرته بأمر الله تعالى آمناً مطمئنا. لقد نجّى الله تعالى نبيه، ونجّى اتباعه، ونجّى دينه الذي ارتضاه لعباده. إن في اختيار فدائي النبي ووكيله ليرعى كل ما خشي عليه النبي الأكرم بعد هجرته من مكة، إنما هو دلالة واضحة لما إراد الله تعالى أن يعيه الناس، هذا نبي الله ورسوله إليكم، وذا الولي والوصي بعد رحيله عنكم. و (إنْ هُوَ إلا وَحيٌ يُوحَى) .